وأنا أحدثك من هذه الشرفة التي كنت تطل منها على قرائك، أتذكر ما كان محمد الماغوط قد قاله لبدر شاكر السياب، مع وجود الفارق، ووجود القدَر الذي يتربص بنا متلبسا هيئة حاكم مزاجي: “يا زميل الحرمان والتسكع، حزني طويل كشجر الحَور لأنني لست ممددا إلى جوارك، ولكنني قد أحُل ضيفا عليك في أية لحظة… فهل تضعُ ملاءةً سوداءَ على شارات المرور وتناديها يا أمي؟ هل ترسمُ على علب التبغ الفارغة أشجارا وأنهارا وأطفالا سعداءَ وتناديها يا وطني؟ ولكن أيَّ وطنٍ هذا الذي يجرفه الكناسون مع القمامات في آخر الليل؟”. يا زميلي.. لسنا بحاجة إلى سقراط آخر حتى أقول لك: واجه قدرك وسجانك وتجرع سُمّ الكبرياء. وهل ينقصنا يا زميلي مسيح كي أقول لك: أدِر خدك الأيسر لمن ضربك على خدك الأيمن؟ لدينا يا زميلي فائض من الشهداء والأنبياء، وفائض من الضحايا ومن البغايا- الضحايا اللواتي يجرجرن إلى المحاكم بدل المباغي ويغتصبن في أفواههن وفي ضمائرهن.. يا زميلي.. نحن بحاجة إلى وطن تُسيِّجه الحدود القانونية قبل الجغرافية، وإلى مواطنين يَحلمُون ويحبون ويكرهون ويُخطِئون ويختارون ويرفضون مثلما يأكلون الخبز ويمشون في الأسواق، وفي الأخير يحتكمون إلى القانون. يا زميلي.. نحن بحاجة إليك، وبحاجة حتى إلى ذلك الذي أصدر- ذات غضبة أو نزوة- أمر اعتقالك، ومن تلقف القرار في المخافر والمحاكم ونفذه بمنتهى القسوة، ومن تناقل الخبر بتصرف مزيد وشامت، ومن ابتلع لسانه ورفع يديه دلالة على رفض اعتقالك والخوف من التعبير عنه… نحن بحاجة إلى كل هؤلاء، لأن وجودهم، بكل اختلافاتهم وخلافاتهم، هو الدليل الوحيد على وجود وطن قِيل إنه غفور رحيم. يا زميلي.. هل نحمِل أم نشفق على زملاء أصبحوا أكثر استعدادا من إخوة يوسف لرمي كل أخ جميل في غَيابَتِ الجُب؟ فعندما كان الآباء المؤسسون من أمثال عبدالكريم غلاب وعمر بنجلون وعلي يعتة.. يرسخون قواعد البيت الصحافي، وعندما انشغل إخوة مثلك أنت ومثل أبوبكر الجامعي وعلي أنوزلا وعلي المرابط وأحمد بنشمسي.. بترسيخ قواعد الاستقلالية، كان آخرون يتسللون إلى هذا الجسم ويساومون من تحت ومن فوق الطاولة لترسيخ صحافة لا يبقى فيها غير الطاعم الكاسي. لقد كان هؤلاء، وضمنهم زملاء مسؤولون في منظمات نقابية أو ذات علاقة بالصحافة والنشر، في طليعة من نهشوا لحمك واستبقوا القضاء للقضاء على حضورك الفارق في مشهد صار باهتا لفرط ما غادره فرسانه. لقد أعرب هؤلاء عن جبن وقلة مروءة وهم يوجهون اللكمات إلى زميل لهم مكبلَ اليدين. زميلي توفيق.. وأنت تتأمل المشهد من مسافة زنزانتك، هل تتفق معي بأننا من فرط ما دافعنا عن حق بعض السياسيين في الوجود، حسبنا البعض عليهم، وصنف البعض الآخر اختياراتنا النقدية نضالا سياسيا؟ ففي ندوة شاركت فيها إلى جانب الزميلين خالد الجامعي وعلي أنوزلا قبل حوالي سنتين، بمدينة القصر الكبير، فوجئنا بالجمهور يصفنا بالصحافيين المناضلين. عندما أخذت الكلمة، للتفاعل مع أسئلة وتدخلات القاعة، قلت للحاضرين بأنه لا علاقة لنا بالنضال السياسي، وأن ما قد يبدو للقارئ استثنائيا في أدائنا، هو المطلوب من كل صحافي مستقل أن يقوم به. زميلي.. أعرف بأنك انخذلت في كثير من السياسيين الذين خرسوا أمام ما تعرضت له من اعتقال لا قانوني، وكيف عوقبت بالسجن، وجرجرت إلى المحاكم كل امرأة حرة رفضت الانخراط في جوقة حريم التجريم. لقد وقف هؤلاء السياسيون يتفرجون على مشهد القتل اليومي ل”أخبار اليوم”، التي لم تذخر جهدا لكشف المؤامرات التي حِيكت لقتل السياسة في هذا البلد. لا عليك صديقي، فأنا متيقن من أنك قرأت الدرس جيدا. يُحكى عن ونسطون تشرشل، أنه وقف ذات يوم في تأبين أحد السياسيين، وكان القس يقول: “هنا يرقد السياسي الكبير والرجل الصادق”، فانحنى رئيس وزراء المملكة المتحدة على شخص يقف جنبه وعلق: “لأول مرة أرى شخصين في قبر واحد”.