الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة – الحلقة السادسة رأينا في الحلقات الماضية بأن النصوص الشرعية وتنظيرات العلماء المسلمين عبر القرون تقضي بالتمييز بين المجالين الديني والدنيوي، فإذا كان الأول مرجعه نصوص الكتاب والسنة، فإن مرجع الثاني هو المعرفة البشرية والجهد العقلي والبحث العلمي. إن الحديث عن موضوع التمييز بين المجالين الديني والدنيوي من منظور إسلامي لن يكتمل إلا بمقاربة العلاقة التفاعلين بين المجالين. ولقد كثرت تنظيرات علماء الشريعة في هذا المجال. وأقرب مفهوم يصلح في نظرنا لتجلية ذلك هو تمييزهم بين حقوق الله وحقوق الناس أساسا لفلسفة الحقوق في الإسلام. ويعرفون حقوق الله بأنه ما شُرع من أجل تعظيم الله وإفراده بالعبودية، بينما يعرفها عز الدين بن عبد السلام بأنها ما شرع "لتحصيل الثواب ورفع الكفران". ويقول أيضا بأنها: "الإيمان والإسلام، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، والصدقات، والكفارات، وأنواع العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: (حق الله على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنّة)". ويجعلون حق الله في معنى ما سمته الأحاديث النبوية أمر الدين، مقابل حقوق المخلوقين أو حقوق الناس المصطلح عليها بأمر الدنيا. فيؤكد الآمدي في "الإحكام" مثلا بأن "مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي". ومثله قول الشاطبي: "وحق العبد ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله"، ثم أكد مرة أخرى قائلا: "وأصل العبادات راجعة إلى حق الله وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد". وأكثر من توسع في الموضوع "سلطان العلماء" عز الدين بن عبد السلام الذي يصنف في نص طويل من كتابه "قواعد الأحكام من مصالح الأنام" أعمال المسلم إلى صنفين هما: حقوق الخالق وحقوق المخلوقين. أما بالنسبة للصنف الأول حقوق الخالق، ويسميها أيضا حقوق الله، فمنها ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومنها ما "يتركب من حقوق الله وحقوق العباد" كالزكاة والصدقات والكفارات والأموال المندوبات، والأضاحي والوصايا والأوقاف "فهذه قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه"، ومنها ما يتركب من حقوق الله وحقوق رسوله وحقوق العباد، كالآذان والصلاة ففيهما حقوق الله كالتكبيرات، وفيهما حق الرسول بالشهادة له بالرسالة، وفيها حقوق العباد بالإشارة إلى دخول الوقت ودعاء الفاتحة في الصلاة بالهداية. وبالنسبة للصنف الثاني الذي يتعلق "بحقوق المخلوقين" فهو ثلاثة أقسام: أحدها: حقوق الإنسان على نفسه عناية بالملبس والمسكن والمطعم وترك الترهب، الثاني: حقوق الناس بعضهم على بعض، من جلب المصالح ودرء المفاسد، الثالث: "حقوق البهائم والحيوان على الإنسان". وبعد أن أطال في عرض أمثلة لكل نوع قال: "ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل خير، ويدفع عنهم كل ضير، لكان ذلك جامعا عاما (...)، وكذلك لو قلت في حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصرا عاما (...)، وكذلك لو قلت في بعض حقوق المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في أولاها وأخراها، لكان ذلك شاملا لجميع حقوق المرء". أما العالم الأصولي شهاب الدين القرافي فيورد تحت عنوان (الفرق الثاني والعشرون بين قاعدة حقوق الله تعالى وقاعدة حقوق الآدميين) تعريفا موجزا: "فحق الله أمره ونهيه وحق العبد مصالحه". ثم يقول: "والتكاليف على ثلاثة أقسام حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر وحق العباد فقط كالديون والأثمان وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله أو حق العبد كحد القذف". ويحاول تحديد معيار ضابط للتمييز بين الحقين، فيقول: "فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد وكل ما ليس له إسقاطه فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى". ومن فوائد هذا التمييز في حياة المسلم أن النية شرعت في الأصل لتمييز العبادة عن العادة، أي تمييز حق الله عن حق الناس. فالشأن التعبدي لا يصح إلا بالنية، بينما العبرة في الشأن العادي بالمصلحة أو المنفعة المترتبة عنه. ومن أمثلة ذلك أن الغسل يمكن أن يتردد بين ما "يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث"، وما يفعل "لأغراض العباد" أي منافعهم ومصالحهم، مثل ما إذا اغتسل للتبرد أو التنظف أو الاستحمام أو المداواة أو غيرها. يقول العز بن عبد السلام: "فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد". ومن الأمثلة أيضا أن الإمساك عن الأكل والشرب يقع من المسلم تارة حمية وحفظا للصحة وتارة عزوفا لعدم القدرة على الأكل وتارة لأمور أخرى، فيحتاج في الصيام الشرعي إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام لمقاصد غير عبادية. هناك إذن عناية بالغة لكثير من العلماء بمسألة التمييز بين المستويين من تصرفات المسلم: الديني والدنيوي. لكن كتابات المفكرين المسلمين المعاصرين لم تهتم به ولم توله على العموم أي أهمية، بل تنكرت له وتوجست منه خيفة. وقد يكون من أسباب ذلك فهمه على أنه يعني الانفصام بينهما. والصحيح أن العلاقة بينهما علاقة انسجام وتكامل. فيعيش المسلم مع الله وهو في عمق أدائه الدنيوي، ويستغرق في نشاطه الدنيوي وهو مستحضر لحقوق الله عليه. وليس مطلوبا من المسلم أن ينقص توجهه الديني من مدنية ممارسته الدنيوية.