مهما تقدم الزمان واختلفت معه الأحوال والظروف والقرائن.. فإنّ الحاجة إلى الأخلاق ستبقى مُلِّحة وضرورية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها ونكران دورها في تشكيل حياة الفرد والمجتمع. فالأخلاق ليست مظهرا يتجلى في السلوك وحسب، وإنما جوهر مستقر في أغوار النفس يُدعى تارة بالقيم وتارة بالمبادئ... كما أنها -أي الأخلاق- قاعدة تنظم الحياة وليست استثناء يتم اللجوء إليها في أوقات دون أخرى... وقد علَّمنا التاريخ –ولايزال- أنّ بناء الحضارات والأمم إنما يرتكز في جزء كبير منه على الأخلاق؛ التي تُعتبر مطلبا أساسيا لأي أمة وليست مهربا يتم تحقيق المطامع بها ثم الاستغناء عنها. وحين نذكر أنّ مجتمعاتنا اليوم هي في أمس الحاجة إلى جرعات من التربية الأخلاقية فإننا لا نحتاج إلى كبير عناء لإثبات ذلك، فلازالت حياتنا اليومية وبكل تفاصيلها تزوّدنا بِكَمٍّ هائل من الأدلة والحجج والبراهين... التي لا تترك لنا مجالا للشك في تدني المستوى الأخلاقي لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع. ولعلّني لا أكون مبالغا إن قلت: إنّ تشخيص واقع الأخلاق لدى المسلمين يشكل إحدى التفسيرات الصادقة لأسباب ضعفهم وتخلفهم، كما أنّ العمل على تعديل الأخلاق والسلوك لديهم يشكل أولى الخطوات الجادة التي من شأنها أن تعين على تغيير حال المسلمين والرقي بهم في مدارج التحقق والشهود الحضاري. وإنه لمن المفارقات –حقا- أن يحتاج مجتمع مسلم إلى تربية أخلاقية وقد تَلقَّى من قبلها تربية إسلامية أحاطته علما بما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام... وقد تزول هذه الدهشة حين نعلم أنّ التصورات التي تُقدَّم لهذا المجتمع عن مثل هذه الشعائر؛ تجعل الصلاة في واد والمحافظة على الوقت في واد، والصيام في واد وعفة اللسان في واد، والزكاة في واد والتعفف عن أموال الغير في واد... بيد أنه غني عن البيان أنّ الكثير مما جاء به الإسلام -إن لم نقل كله- له من التعليلات الأخلاقية ما يغني عن إطالة الكلام في أهمية ومحورية الأخلاق في الإسلام. فلم تُشرع الصلاة –مثلا- للرفع والخفض واستقبال القبلة وحسب، وإنما شُرعت ل "تنهى عن الفحشاء والمنكر"[العنكبوت:45] وإلا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"[أخرجه أحمد]. وشُرع الصيام لتربية النفس وتعويدها على مكارم الأخلاق ف "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"[رواه البخاري] و"رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"[رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما]... في هذا السياق؛ يكون المطلوب من الإنسان المسلم أن يرتقي بأخلاقه كلما ارتقى بدرجة تدينه والتزامه بأحكام دينه، أَمّا إن كان الفرق شاسعا بين التدين والأخلاق، فإننا نقول لذلك المتدين: رجاء احتفظ بتدينك واعتكف بصلواتك وتراتيلك وصيامك... في إحدى المساجد، ولا تخالط الناس ولا تسعى بينهم فقد يعود الأمر عليك بالخسران، واعلم أننا لسنا معنيين -أبدا- أن نجاملك على (شعائر) المفلسين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إنّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة... ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فَنيت حسناته قَبْل أن يَقضي ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار"[رواه مسلم]. صحيح أنّ للشعائر شروطا ومعايير للقبول؛ كالإخلاص والاتباع وعدم الابتداع... لكن المُخْتَبَر الذي من خلاله يتم فحص وتحليل جدوى أدائنا لتلك الشعائر والتزامنا بها هو مختبر "التدين السليم"؛ الذي لا يرى في شعائر الإسلام جانبها الأدائي وحسب، وإنما يرى فيها أيضا الجانب الأخلاقي والقيمي والإنساني والحضاري للإسلام، فكلما كان التدين مُحقِّقا للرحمة والعدل والبر والإحسان والصدق والأمانة والتعفف... كلما كان دافعا ورافدا أساسيا من روافد الانبعاث الحضاري للأمة من جديد، وكان –أيضا- مُحقِّقا للعبودية الحقة؛ التي كما هي ضراعة وتسبيح، هي قدرة على امتلاك كل جوانب الحياة وتسخيرها لله تعالى. وأخيرا؛ يأتي التساؤل المرير عن نتائج الفحص والتحليل التي من الممكن أن يُمِدَّنا بها مختبر "التدين السليم" عن أداء المسلمين اليوم لشعائرهم؟.. وإني لأَخشى أن تكون النتائج صادمة..! ولعلّها لا يمكن أن تكون في أيامنا هذه إلا كذلك. فيا أيها المسلمون هذه شعائركم فأين أخلاقكم ؟! .. *باحث في علوم التربية والدراسات الإسلامية https://www.facebook.com/albakouri