مذهلة بالأولمبياد لأنها الألعاب الأولمبية التي لا تعترف إلا بكونية الموهبة وعالمية الإبداع، ولأن الإلتحام الرائع بالعلم وبأحدث ما توصلت إليه العقول البشرية من إستحداثات تكنولوجية ينعكس على الألعاب الأولمبية المقامة حاليا بلندن وتدع كل شعاراتها إلى تحفيز الجيال الحالية وإعطائها دليلا على الحلم، فإننا نقف مشاهدين وصحفيين وخبراء في صناعة الإبداع على بدايات الخوارق التي تصيب بالوله والشدوه والشعور أيضا بالمرارة جراء ما بات يفصلنا عن الآخرين وكأنهم جاؤونا من كوكب آخر. لنترك حالنا التعس في هذه الألعاب الأولمبية ولندع جانبا الحديث عن ما كان من سقوط رياضيينا كأوراق الشجر فصل الخريف ولنتعمق في مطالعة هذا الجنون الذي رمت به بطلة خارقة دورة لندن. إسمها يي شيوين وهي سباحة صينية، مراهقة في قمة النضج، رزينة تقدمها ملامحها على أنها أصغر من عمرها البالغ 16 ربيعا، تتمتع بقوام مثالي للسباحة الحديثة، حيث يبلغ وزنها 64 كيلو غراماً، وطولها 1.72متر. هذه الشيوين أدهشت العالم كله يوم السبت الماضي بمركز الألعاب المائية بالمنتزه الأولمبي عندما قدمت نفسها على أنها بالفعل واحدة من أبرز محترفات الجيل الجديد للسباحة في الصين، لم تصبح يي فقط أصغر سباحة تحرز سباق 400 متر فردي متنوع (وعمرها 16 عاماً و149 يوماً)، وإنما توجت بالذهبية مسجلة زمنا قياسيا عالميا جديدا، حيث قطعت السباق في أربع دقائق و43 ثانية و28 جزء الثانية متفوقة بفارق يقترب من الثانية على الزمن القياسي السابق الذي سجلته ستيفاني رايس في أولمبياد بكين قبل أربعة أعوام. المثير أن الزمن القياسي العالمي الذي حققته هذه المذهلة هو الأول للسباحة منذ حظر الأزياء المضادة للمقاومة التي تغطي الجسم بأكمله سنة 2009، وتمضي وكالات الأنباء التي تعقبت هذا الإعجاز في وصفها لهذا البروز الحصري. ما يلفت النظر بشكل أكبر إلى أداء «يي» هو أنها حققت هذا النجاح في السباق غير المفضل بالنسبة لها وهو سباق 400 متر، فهي تهوى أكثر سباق 200 متر وتعد المرشحة الأوفر حظاً للفوز بذهبيته في لندن 2012، خاصة بعد أن فازت بذهبيته في بطولة العالم التي أقيمت العام الماضي في شنغهاي. «يي» المعجزة الصغيرة قالت قبل خوض منافسات الدور النهائي لسباق 400 متر: «أتمنى أن أتمكن من الفوز بميدالية ولكنني سأكون سعيدة إذا حققت أفضل زمن شخصي لي، ومع ذلك يعد سباق 200 متر هو هدفي الأساسي. أبدا لم يثن هذه الصينية الرائعة أن حواسها تفضل مسابقة 200 متر، فقد مضت في تحديها الأسطوري ووقعت على انطلاقة مذهلة في السباق، وحققت إنجازاً قياسياً في مرحلة السباحة الحرة، ففي آخر 50 متر سجلت «يي» 28 ثانية و32 جزء من المائة متفوقة بفارق 17 أجزاء الثانية على الزمن الذي سجله نجم السباحة الأميركي ريان لوكتي في سباق الرجال، كذلك سجلت يي في أول 50 متراً، زمناً أسرع بفارق ثمانية أجزاء الثانية عن الزمن الذي سجله النجم الأميركي مايكل فيلبس الحائز على 16 ذهبية أولمبية. قالت «يي» وقد عمتها الدهشة مما صنعت: «في آخر 100 متر ظننت أنني متأخرة عن الأخريات، لذلك حاولت قدر الإمكان أن ألحق بهن، وبعدها اكتشفت أنني أنا من كنت في المقدمة»، وقال لوكتي السباح الأمريكي في إشارة إلى يي: «إنها سريعة، وإذا كانت تتنافس معي، لربما تفوقت علي». الإشادة جاءت أيضا من أسطورة السباحة الأميركي مارك سبيتز الذي حقق إنجازاً تاريخياً بإحراز سبع ميداليات ذهبية في السباحة خلال أولمبياد ميونيخ 1972 في مقالة له بوكالة الأنباء الألمانية عندما كتب: «لم أر طوال حياتي أداء يبتعد بصاحبه عن باقي منافسيه بهذه القوة في آخر 25 متراً من السباق». وأضاف: «لقد سجلت الفتاة زمناً أسرع من ريان لوكتي في تلك المسافة الأخيرة من السباق، دعوني أوضح الأمر بشكل أفضل، كاد ريان لوكتي يحطم الزمن القياسي العالمي، ولكنها كإمرأة كانت أسرع منه». وأوضح: «لقد حطمت يي الزمن القياسي العالمي بعدما سجلت أربع دقائق و43 و28 ثانية وقطعت آخر 50 متراً من السباق في 93. 28 ثانية و98 جزء الثانية مقابل 29 ثانية وعشرة أجزاء الثانية للوكتي في المسافة ذاتها». ولأن ما حققته هذه المعجزة الصغيرة القادمة من الصين أٍرض الأساطير يربك العقل ويحير الأذهان فقد إنطلقت الغزوات الإعلامية الأوروبية التي تنشد السبق الإعلامي مستهدفة هذه المذهلة بالتشكيك في كل هذه الخوارق التي جاءت بها وإدعت أن يي شوين تخضع لفحوصات طبية دقيقة لأن هناك ما يقول بأن من اتت بهذا الإنجاز الرائع والمدهش لا يمكن أن تكون إمرأة طبيعية، فكيف يكون الحال عندما تكون شوين في عمر تقضيه مثيلايها في اللعب بالعرائس وتلوين ضفرات الشعر أو الإبحار في عالم الأنترنيت بحثا عن عوالم إفتراضية. وتذكر الوكالات التي يوجد بها رجال التخصص بأنه عندما بدأ سباحو الصين يحصدون الذهبيات بشكل مفاجئ في بطولة العالم 1991 وأولمبياد 1992، أصاب ذلك الكثيرين بالذهول وأصبح الأمر أكثر غرابة عندما حصدت السباحات الصينيات 12 من إجمالي 16 ميدالية ذهبية لمنافسات السيدات في بطولة العالم 1994 . وبعدها بفترة قصيرة جاء سبعة سباحين صينيين من بين 11 رياضياً أدينوا بتعاطي المنشطات خلال دورة الألعاب الآسيوية لعام 1994، وهو ما أثار الشكوك بشكل كبير حول شرعية نتائج سباحي الصين، واستمر الجدل لبضع سنوات، حيث بدأ التألق الصيني في السباحة بشكل مفاجئ وشهد التتويج بالعديد من الألقاب، ثم ألقت فضيحة المنشطات بظلالها على هذا التألق خاصة بعد إيقاف رياضي صيني آخر بسبب المنشطات. وتغير كل ذلك بعدما فازت بكين في عام 2001 بحق تنظيم أولمبياد 2008، ولجأ مسؤولو السباحة الصينية إلى تعيين مدربي سباحة أجانب وإرسال سباحي الصين للتدريب في الخارج، وكانت «يي» واحدة من هؤلاء، حيث تدربت في أستراليا والتي قالت إنها أحبت الأجواء والطقس فيها بشكل كبير. وقالت يي: «إنني محظوظة للغاية، فالتدريب ليس صعباً بالنسبة لي لأنني أتدرب منذ الطفولة، لدينا تدريبات جيدة للغاية تعتمد على الأسس العلمية، وهذا سبب تفوقنا». وأكدت «يي» التي كانت قد كشفت عن خضوعها لبرنامج سباحة من نوع خاص نظراً لكبر حجم يديها أن قضايا المنشطات أصبحت شيئاً من الماضي. وقالت «يي» التي لم تكن قد ولدت عندما أدين سبعة سباحين من الصين بتعاطي المنشطات في الدورة الآسيوية لعام 1994: «لا توجد مشكلة تتعلق بالمنشطات على الإطلاق، فالفريق الصيني دائماً ما تكون لديه سياسة محددة فيما يتعلق بمكافحة المنشطات». الذين يعرفون من تكون هذه الصين يعرفون من أي معدن هي ومن أي فصيلة هو شعبها ومن أي رحم أسطورية خرج رياضيوها وفي أية بيئة نشأووا، فلم يعرفوا للمستحيل أي معنى. لتتوقف ألسنة السوء عن الكلام المباح فنحن أمام الذهول بأجل معانيه.