تتضمن سورة الفاتحة كنزا من فقه الدعاء. والدعاء فيها نوعان: أولهما دعاء البسملة والثاني دعاء الهداية. ويتوسط النوعين آداب جمة ينبغي للداعي أن يفيد منها في دعائه الله عز وجل. 1 . أدب الدعاء: يتأدب العبد في هذه السورة بالبسملة وبالإقرار لله تعالى بالحمد وبالتمجيد وبالثناء، وإفراده عز وجل بالعبودية والعون. فأول الآداب البسملة التي يتبرك فيها الداعي باسم الله تعالى لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجلف هو أبتر، أو قال أبتر"[1]. وبعد البسملة يقر العبد الداعي لله تعالى بالحمد والثناء والتمجيد ويفرده بالعبودية والعون. يقر بالحمد في قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين" أي ربا يدبر أمور خلائقه ويسوس شؤونها بمقتضى رحمته وحكمته وعدله. ويقر بالثناء عليه بأنه رحمن رحيم في قوله تعالى: "الرحمن الرحيم". ويقر بالتمجيد له في قوله تعالى: "ملك يوم الدين"[2]. فبالإضافة إلى كونه رحمن ورحيما هو أيضا صاحب الحكم والأمر في إقامة العدل وإحقاق الحق وإزهاق الباطل لقوله تعالى: "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" [سورة الأعراف، جزء من الآية 53]. وبعد قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم" انتقل إلى قوله: "ملك يوم الدين"، وإن هذا الانتقال من أوصاف الربوبية إلى أوصاف الملكية متسق مع نهج قرآني يجمع بين الرجاء والخوف أو بين الترغيب والترهيب. وهذا الجمع القرآني هو –كما بين باقتدار عجيب الإمام ابن عاشور رحمه الله[3] أفضل سياسة للنفوس البشرية؛ لأنه يجمع بين إثارة شعورين عظيمين: الشعور بالخشية والشعور بالمحبة وبدوام الارتياض عليهما يتغلب الشعور بالمحبة إذ المحبة من شأنها النماء. فإذا تغلب عامل المحبة صارت الخشية وقارا واقتضت الطاعة الاختيارية. يفرد العبد من خلال قوله: "إياك نعبد وإياك نستعين" الله تعالى بالعبودية والعون فيتحرر بذلك من كل الاعتقادات الشركية[4]. فمن أدب المؤمن في دعائه أنه كما يخص الله تعالى بالعبادة يخصه أيضا بالاستعانة. ولا يعني أدبه هذا أنه مقصر في الجهد والاجتهاد، وإنما هو امرؤ يتوازى عنده جهدان متوازيان: جهد أول جسمي وفكري وإرادي وعاطفي يروم من خلاله الظفر بمطلوباته الدنيوية وغير الدنيوية، وجهد ثاني روحي يطلب انطلاقا منه من الله تعالى نيل مطلوبات لا قبل للبشر بالإعانة عليها، ولا قبل للمستعين بتحصيلها بمفرده[5]. نفهم، انطلاقا من ضرورة التوازي الحاصل بين هذين الجهدين، المغزى من إبقاء الله تعالى حقيقة كل من العبودية والاستعانة سرا بينه وبين عبده، وذلك ما يتسق مع ما ينبغي أن يكون عليه الدعاء من خفية وتضرع أمرنا الله تعالى بهما في قوله عز وجل: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية" [سورة الأعراف، جزء من الآية 55]. ------------------------------- 1. أخرجه أحمد في مسنده ج 2 ص: 359 وابن ماجة في سننه ج 1 ص: 610. 2. ذهب الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله إلى القول بأن في الإقرار بالتمجيد في هذه الآية تنزيها من المؤمن عن آفات التعطيل والإلحاد والدهرية. تفسير التحرير والتنوير ج 1 ص: 194. 3. يراجع كتابه أصول النظام الاجتماعي ص: 84. 4. يتنزه العبد بهذا الإقرار بالعبودية والاستعانة بالله وحده من آفة الشرك، وبهذا التنزه يعلن الإنسان، كما قال سيد قطب رحمه الله"ميلاد التحرر البشري الكامل". في ظلال القرآن ج 1 ص: 25. وينظر أيضا الإمام ابن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 1 ص: 194. 5. نبهنا الإمام بن عاشور هنا على أن مقام الاستعانة في سورة الفاتحة هو مقام مفتتح الوحي فناسبه الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك، أما مقام حيث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" فهو مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام، ولذلك استغنى عن القصر. المصدر نفسه، ج 1 ص: 185.