لحسن كجديحي الرجل المجنون المشعث كان رائقا يلهو بمجموعة من علب البلاستيك الصغيرة الشفافة متدرجة الأحجام، راصا هذه العلب بتقاطر على سياج مصغر، يجعل العلب في تعاقب أفقي مرة، ومرة في تصاعد رأسي، كأنه يصف عساكر من الوهم، أو يبني عمارة في الخيال، لكنه فجأة- كما لو كان يرى بعيون خفية في مؤخر رأسه. جنون! وهل هناك جنون أكثر من تصور عشب ندي وزهور يانعة حقيقة وكائنات ملونة في اتصال حميم، على زهرة، وسط طاحونة هذا الميدان المزدحم الذي يتوسط إحدى أكثر مدن الوطن ازدحامًا؟ جنون... وبلمسة جنونية صغيرة صادت أصابع المجنون دراهم المتحلقين في لحظة واحدة كلمحة البصر. أراه كما هو ، في مراكش صيفًا، حيث درجة الحرارة في الشارع تجاوزت الخمسين درجة مئوية، يستلقي في بيته المكيف طبيعيا في الطابق السفلي، على السرير ،الذي اختاره منخفضا ومجاورًا للنافذة المسدلة عليها ستارة سميكة رمادية، يستلقي في ضجر. كان أبوه يغلق الباب دائما ويذهب. لم يكن أحد يستطيع أن يأتي إلى بيته ولم يكن بإمكانه مغادرة المنزل. وإن اضطرت أمه إلى الخروج لأداء عمل مهم، كانت تذهب عن طريق السطح إلى بيت الجيران، ثم تخرج من هناك مصطحبة أحيانا واحدا منهم. ولكن لم يقم أي منهم بهذا العمل دون والدته. حيث إنها- مثل والده- كانت محافظة جدا وكانت تقول دائما: "ليس من اللائق أن يخرج الفتى أو الفتاة إلى الطرقات والأسواق وحدها ". وكانوا هم يطيعونها بسبب حبهم الشديد لها ولا يخرجون من المنزل. في الأيام الأولى لمرضها، حيث كانت لا تزال تملك بعضا من نشاطها، كانت تحاول بكل وسيلة ألا تدع مرضها يؤثر في سير الأمور المنزلية، فتجبرهم على كنس البيت مرتين يوميا وعندما يحل الربيع كانت تقوم هي بزرع أزهار البنفسج. وكان ورد الياسمين في حديقتها موضوع حديث للجارات. كانت قد زينت الفناء كله بمزهرياتها وصنعت ممرا ضيقا بواسطة هذه المزهريات للوصول إلى أية نقطة في المنزل فكل من يجتاز سلالم غرفة انتظار الضيوف ويدخل الفناء يصل عبر هذا الممر إلى الحوض أو غرفة الضيوف أو غرفة الجلوس. وفي يوم شتائي بارد تشتم منه رائحة الثلج ماتت أمه من شدة الكمد. كانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها عن قرب موت شخص مذ التف هو و إخوته حول أمهم وبكوا. كان الخوف قد استبد بهم، ليس من الموت، حيث إنهم لم يجدوا فيه ما يدعو إلى الاستغراب وإنما من عدم وجود أمهم. لقد كان فراقها غير ممكن بالنسبة لهم فلقد كان تعلقهم بها شديداً، خاصة الفتيات منهم. كان إخوته ينتظرون أن يقول شيئا. و هو لم يكن لديه ما يقوله. انقضت تلك الليلة. أتى أبوه في الصباح الباكر وكالعادة لم يتعد غرفة انتظار الضيوف : - أتحتاج إلى شيء يابني؟ لقد أراد أن يخبره بأن أمه قد ماتت ولكنه على الرغم من محاولاته لم يتمكن من ذلك. ذهب أبوه وأغلق الباب. لم يبتعد عن جسد أمه. في الليل قطع صمته وقال لإخوته: "سندفن أمنا في الحديقة" . وجدوا المعول والمجرفة في القبو. أطفأوا النور في الفناء ولحسن الحظ كانت المدينة تغط في صمت عميق وتناوبوا على الحفر في الحديقة بواسطة المعول أو المجرفة، وعندما أصبح القبر جاهزا وضعوا أمهم فيه وألقوا عليها التراب. وعادوا إلى الدار. كان إخوته يرتعدون من الخوف. قال " لم ترتعدوا ؟ إذا عرف والدنا فإنه سيهلكنا ضربا! حاول أن يطمئنهم قائلا:"لا تخافوا لن يعرف شيئا على الإطلاق. كان أبوه عندما يريد أن يضرب أحد منهم يخرج سوطاً من صندوق يحتفظ بمفتاحه. في أحد الأيام عندما أتى إلى غرفة انتظار الضيوف أعطاه مفتاح الصندوق وقال له: "إن أرادت أمكم أن تعاقبكم فهذا هو مفتاح الصندوق لم يعط المفتاح لأمه أبدا. لقد خبأه في مكان ما. ذهب وأتى بالمفتاح . فتح الصندوق وأخرج السوط وانهال به على جسد أخيه. ضربه بالسوط على ظهره حتى فقد الوعي. أما بقية إخوته فقد استوعبوا الدرس جيدا.تساقط الثلج بشدة في تلك الليلة وغطى أرض الحديقة. لم يأت أبوه للمنزل لمدة أسبوع وعندما أتى- كالعادة- لم يتعد غرفة انتظار الضيوف ولم يضف شيئاً لما كان يقوله في الماضي: أتحتاجون لشيء يا أبنائي ؟ ليس لدينا زيت للوقود ولا دقيق و لا بقول. كان يرتعد من الخوف. ولكن أباه الذي كان يقف في ظلمة غرفة انتظار الضيوف لم يلحظ ذلك. وهكذا، اعتاد هو و إخوته هذا الوضع. كان هو كبير المنزل ولم يكن لدى إخوته الجرأة على القيام بأي عمل دون موافقته. كان في كل يوم يجد مبرراً لضرب واحد منهم. لا أحد يعلم إلى أي حد كان يتلذذ من عمله هذا. كان يشعر بالارتياح. لقد كان ينتقم... كان يقوم بما كان يفعله أبوه به في الماضي. لقد أصبح أبا بالنسبة لهم. حيث إنه كان ينام ليلا في حجرة أبيه. عاد أبوه من السفر الغابر، صعد السلالم ودخل غرفة أمهم، كان إخوته الأربع في الحجرة... أين أمكن إذن؟ لم يجب إخوته فرجع أبوه ونظر إليه، فأخبر ه مرتعشا بأنها ذهبت بصوت منخفض وأدرك أنه لم يسمعه. فقال إلى أي مقبرة ذهبت هذه المرأة؟ لقد أتى خالي وأخذها قبل عدة أيام . هذه المرة أجبت بصوت عال. بدأ الأب يسب ويلعن. وطبعا لم يستغرب أنها خرجت، حيث إنه كان يعلم أنها تخرج أحيانا من منزل الجيران. لم يصدق ما قيل له وفتش المنزل بنفسه وعندما تأكد أنها لم تأخذ شيئا معها قال، قد ترجع و في هذه الحالة لن تسمحوا لها بالدخول حتى أقوم بتصفية حسابي معها! لم يجبه. وعندما غادر المنزل أمره بالانتباه لإخوته. ثم إن السوط الذي في الصندوق هو ملكه إذا عصوا أوامره احرقهم به. لم يكن يعلم أنه كان يقوم بهذا العمل منذ زمن طويل. بل أصبح أكثر استعمالا للسوط، و منذ تلك الليلة تحمل فيها هذا العمل بشكل رسمي. لم يسمح لإخوته أبدا بأن يقوموا بتنظيف المنزل أو أن يسقوا الحديقة. لقد أحرق المكانس ورمى رمادها في البئر. تغير وضع بيتهم تدريجيا. لقد ظهرت مخلوقات غريبة واحد تلو الآخر، وهي التي لم يكن لها أي وجود في المنزل على الإطلاق. لقد امتلأ المكان بها: في المطبخ الذي كان ملاصقا للقبو .. في مخزن المؤن الذي كان ملاصقا لغرفة أمه، كانت هذه المخلوقات تعشعش وتتكاثر. لم يكن لإخوته أي عمل سوى النظر إليها. لقد كان هذا شغلهم الشاغل من الصباح حتى غروب الشمس. كان يراهم يتهامسون ولكن بمجرد رؤيته كانوا يلزمون الصمت. ولم يعرف عما يتحدثوا واعتقد أنهم يقومون بنميمته. ولذلك منعهم من الحديث وهم لم يجرؤوا عليه بعد ذلك، كان المنزل يغط في الصمت، حتى إنه لم يكن يختلف عن أية مقبرة، عدا أنه عندما كان يرفع سوطه وينهال به ضربا على أجسادهم كان يسمع لوقت قصير، صوت لسعات الصوت وصراخهم. إلى أن كان يوم لاحظ فيه غياب أخيه الصغير أثناء تناول الفطور. فسأل عنه لكن لم يتلق جوابا من أي واحد من إخوته الثلاثة. أخذ السوط وانهال به ضربا. ضربهم لأكثر من نصف ساعة حتى قام في النهاية أحدهم بالإشارة صوب المخزن. ذهب إلى هناك ولكنه لم يجد أخاه الصغير. غير أنه كان هناك وحش ضخم سمين معلق في زاوية السقف وفي فمه قطعة من رداء أخيه الصغير يقوم بابتلاعه على عجل. أراد أن يضرب الوحش بسوطه، ولكن لم يهن عليه ذلك.. لا يدري لمَ... رجع إلى حجرة أبيه فارتدى ملابسه ووضع قلنسوته على رأسه ورمى بملابسه المعتادة في الموقد. أحرقها ودفن رمادها تحت التراب. تكررت العملية مع الإخوة المتبقين دون أن يحرك ساكنا. انقضت سنة لم يأت فيها أبوه للسؤال عنهم.و فجأة ظهر في يوم رأس السنة. اجتاز غرفة انتظار الضيوف وتقدم إلى الفناء. لقد غضب كثيراً عندما وجده مرتديا ملابسه. لماذا ترتدي ملابسي يابني؟؟؟ ذهب أبوه للبحث عن إخوته في المخزن. أراه الوحوش الأربعة، ازرق وجهه من شدة الضيق مخاطبا إياه -أهكذا تكون المحافظة على إخوتك ؟ - هم الذين أرادوا أن يصبحوا وحوشا! ! . لم يكن من المفروض أن تتركهم يفعلوا ذلك. لقد كنت أنت المسؤول عنهم ، اذهب الآن وأحضر سوطي!. ذهب إلى حجرته واحضر السوط وألقى به عند قدميه. أخذ الأب السوط وقام بضربه إلى أن تمزقت ملابسه على جسده و عندما انتهى من عمله طوى السوط ووضعه في جيبه ثم ترك المنزل. قام بلف قطعة قماش حول جسده المدمي وذهب إلى المخزن، ظل أحد الوحوش يبتلع القماش رويدا، رويداً حتى أصبح مثل إخوته ، كانوا يلعنون أنفسهم لأنهم كانوا ضعافا ! ويلعن نفسه بدوره لأنه جعلهم كذلك!!...