ينوع محمد أمنصور انشغالاته بين النقد والقصة والبحث، بمعنى أنه يكتب من خلال هذه التنويعات المتباعدة، مع الوعي العميق بالفروق بين آفاق الاشتغال في كل مجال منها على حدة. ويعتبر كتابه النقدي «محكي القراءة» خلاصة هذه التجربة وعصارة التمرس على النص قراءة وإبداعا وبحثا. ولعل صدور كتاب نقدي عن شخص يمارس الإبداع، ويبحث في آفاق تجديد آليات الاشتغال به، ويتابع إنتاجات الأجيال السابقة والمحايثة والآتية، يكون له طابع خاص، ووقع متفرد. فالناقد البحت ينظر إلى العملية الإبداعية من فوق دون أن يعيشها، والباحث الخالص يرى في النص أرضا خصبة لتجريب آليات جديدة، ومقاربات مستحدثة، أما المبدع البحت فينظر إليها على أنها تجربة إنسانية، أو حالة تحول عاشها، ونقل ملامحها وتفاصيلها إلى الآخر. أما الذي يجمع بين كل هذه الممارسات بجانبيها الفني والإنساني، فإن له نظرة أخرى يصعب استكشافها، لأنه ببساطة ينظر إلى التجربة النصية من خلال هذه الرؤى جميعها في آن واحد دون أن يخلط بينها. لأنه، يعي عن عمق وقرب، مطبات هذا الخلط الإجرائي. لهذا كله أعتبر أن هذا الكتاب متميزا، خاصة أنه يقارب، من منظورات متنوعة، تجارب تختلف بين السرد والنقد. بمعنى أن الكاتب هنا، يتأمل من صميم تجربته، كتابات سردية وأخرى نقدية، راسما حدود مشاركتها في بصم المشهد الثقافي المغربي، وإبراز خصوصيته. يتضمن الكتاب؛ الذي صدر عن منشورات مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب، التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس في 133 صفحة من الحجم المتوسط؛ مجموعة من المقالات المتنوعة التي كتبت في أزمنة متباعدة تبعا لمناسبات مختلفة، المصنفة عبر خانتين: الخانة الأولى تناولت مقاربات حول الإبداع الروائي شكلا وموضوعات. والثانية درست قيم النقد ونقد النقد. وقد درس الكتاب ما درس في أفق رؤيا ديناميكية تنظر إلى موقعها في المشهد الثقافي المغربي، ومساهمتها في ترميم صدع الذات، وتشكيل هوية السؤال الثقافي المغربي، ذاك الذي لا يمكن فصله عن السلوكيات البشرية، وممارسات الشعب الثقافية، وجدال النخب وصراعها الخفي من أجل الصعود والهبوط. وهذه النظرة من فوق للمقروء، هي تمنح للقارئ روح التأويل العميق لما يمكن أن يحدث، وما يستنهض من أسئلة، وما يغلي في القاع. وهي ذاتها من يقدره على الحدس وافتراض المعنى في زمن اللامعنى. إن هوية المغرب الثقافية، بما تزخر به من تعدد وثراء، لا يمكن رسم ملامحها إلا في ضوء مثل هذه القراءات العمودية والأفقية، في استحضار تام للخصوصية، ووعي تام بقيمة السؤال. كتبت هذه المقالات منفردة، قبل أن تجمعها دفتا هذا الكتاب، بدعوة من جهات ومؤسسات ثقافية. وهي مهما تباعدت من حيث المنطلق، أو تقاربت من حيث الرؤيا، فهي تعكس المشاركة الفعلية للكاتب في تأثيث ما يسمى بالمشهد الثقافي المغربي، خاصة وأن تصوراته تنبثق عن رؤيا شاملة بانورامية تمسح حال الثقافة والمثقفين بنظرة عميقة، وتضعهم في سياق ما يخيم على الأفق من أحداث حالية ومستقبلية، يقول محمد أمنصور: «فلعل الثابت أيضا هو أنه ما من دعوة لبيناها من تلك الدعوات المحفزة إلا وكان هاجسنا الأول: التموقع بعنفوان في قلب المشهد المتحول لتجربة الكتابة السردية والنقدية بالمغرب، فضلا عن الانخراط الكلي بالمشاركة الفاعلة لتجذير أسئلة المغرب الثقافي» ص 8. وهذا ما يمنح للكتاب أهميته، ويؤهل ما كان مقالا منفصلا إلى أن يجد الخيط الناظم بينه وبين مجاوره في الكتاب. خاصة وأن الباحث تناول بالدرس نماذج سردية مغربية لها قوة تمكنها من التمثيلية «نموذج محمد زفزاف»، بقدر ما قارب من زوايا معينة نصوصا روائية ظهرت في نهاية القرن الماضي، مع منحه الأهمية الكبرى لنقد النقد في المشهد الثقافي المغربي. هذا الذي يطرح غيابه ونذرته وعدم مواكبته لمستجدات هذا المشهد أكثر من سؤال. وبالرغم من الانتقائية التي ميزت العمل في التعامل مع النماذج تبعا لسياق المشاركة، فإن القارئ اللبيب بمكنته أخذ تصور عام حول تحولات المشهد الثقافي بالمغرب، ورسم ملامح آفاقه المحتملة، وفق ما يغلي فيه من أحداث وتصورات. إن التحولات العنيفة التي تطول جسد الثقافة والإبداع المغربيين في غياب متابعة لصيقة من الناقد بشقيه الإعلامي والأكاديمي، تندر، بلا ريب، بإمكانية حدوث رجات عاصفة على مستوى الأشكال والأجناس والأصوات. وتشي بحدوث مسافات متباعدة بين الأجيال، وبين الجيد والرديء، والقوي والضحل. وفي هذا الفضاء العكر، الملغوم قد تبرعم الطفيليات، وتزهر الفقاعات، دون أن نجد من ينقد الأصوات العميقة من التلاشي أمام عاصفة اللامبالاة.