يأخذ العنف صورة وحش يستوطن فضاء المدرسة المغربية طيلة الموسم الدراسي، وتؤكد أخبار الاغتصاب والإصابات الجسيمة وتبادل الضرب والجرح واعتراض السبيل التي تتناقلها وسائل الإعلام وأحاديث العامة أنه يتضخم بشكل مرعب على الرغم من كل الحديث الرائج عن تحديث المنظومة التربوية. أصبح العنف ظاهرة مميزة للوسط التعليمي وينعكس بشكل سلبي على الوظائف التربوية الموكولة للمؤسسة التعليمية، ويأخذ تجليات عديدة منها ما هو رمزي وما هو جسدي وما هو نفسي، تنتجه أطراف وعوامل عديدة، فيعطل الكثير من المعاني الإيجابية للمدرسة، وحين يتضخم كثيرا، كما في الكثير من مؤسساتنا، يكون علامة دالة على اختلال حقيقي لوضعنا التعليمي. صورة وحش يأخذ العنف صورة وحش يستوطن فضاء المدرسة المغربية طيلة الموسم الدراسي، وتؤكد أخبار الاغتصاب والإصابات الجسيمة وتبادل الضرب والجرح واعتراض السبيل التي تتناقلها وسائل الإعلام وأحاديث العامة أنه يتضخم بشكل مرعب على الرغم من كل الحديث الرائج عن تحديث المنظومة التربوية، وإدماج التربية على حقوق الإنسان في المجال التعليمي. والحديث عن تضخم العنف في المدرسة المغربية الآن لا يعني أن العنف لم يكن ساكنا في عوالمها، فالكثير من الأجيال المتعلمة تحكي عن محنة التعلم في العقود السابقة، حيث كانت صورة المعلم والأستاذ وفقيه الكتاب ممقوتة عند الغالبية، وكانت أجواء الفصل الدراسي تحيل بامتياز على كوميسارية النصارى الذين كانوا هنا أو سجن المسلمين الذين تشبعوا بطرائقهم. فالفلقة كانت هنا ونفس الشيء بالنسبة إلى التعلاق وتكسير حزم القضبان الجافة على الأيادي الطرية للصبايا، والضرب بالبركار الخشبي فوق الرؤس والركل والصفع... إلخ. إنها سنوات مظلمة في مجال التعليم والتي كانت لها شعاراتها الخاصة لدى المربين سواء آباء أو رجال تربية، منها «العصا خرجت من الجنة» و«الفقيه يذبح والبو يسلخ»، لهذا تترسخ وقائع عديدة عن هذه المرحلة لدى الكثيرين، حيث يقول عبد الغني: «لقد قاسينا في مسارنا التعليمي خاصة في المرحلة الابتدائية، ولم أنس إلى حدود الآن أشياء عديدة من قبيل جحيم يوم الشكل والإعراب واستظهار الدروس السابقة لأن معلمنا لم يكن يقوم بهذا إلا بعد أن يكلف أحد الزملاء في اليوم السابق بإحضار حزمة من القضبان يتم تكسيرها فوق أرجلنا وأيدينا ورؤوسنا قبل أن نغادر منهوكين بعد انتهاء الحصة. إن هذا الأمر وإن كان قد ساهم في دفع البعض إلى المثابرة والجد، فإنه قد عصف بأحلام فئات عديدة أصبحت كارهة للمدرسة ولكل ما يحيل عليها. حكايتان ومن هذه النماذج استحضر حكايتين الأولى لمحمد وكان يختلق أسبابا عديدة لعدم الحضور، خاصة المرض، فبعث إليه المعلم مجموعة من التلاميذ ونبههم إلى ضرورة إحضاره بالترغيب أو الإكراه وإن لم يفعلوا سيلاقون المصير الذي ينتظره، وهو ما حصل حيث ذهبوا إليه وحاولوا إقناعه وحين رفض جروه جماعة لمسافة طويلة إلى أن خلصه منهم أحد الناس، وحين عادوا عاقبهم المعلم بشدة، وهو ما دفع التلميذ الهارب إلى عدم العودة مجددا إلى المدرسة. وهناك حكاية سعيد الذي كان يقطن وحيدا بعيدا عن أهله، وبسبب نفوره من الدراسة ومحنة الضرب أغلق على نفسه الباب لأيام إلى أن تم إخبار عائلته التي حضرت فكسرت الباب، وحمل مع أدواته المدرسية إلى بلدته ليودع بذلك ذكريات التعليم». ربما كان الكثير من المدرسين ينطلقون من خلفيات إيجابية ومن إيمان حقيقي بالواجب والمسؤولية، إلا أن ما كان يعطل هذه الإيجابيات هو طرائق التنفيذ، وعلى العموم ما كان سائدا أكثر آنذاك هو تعنيف المدرس للتلميذ خاصة في المراحل الابتدائية. وعلى الرغم من أن صورة هذا العنف قد تقلصت، فقد أخذت تجليات أخرى، حيث أصبحت أطراف عديدة منتجة للعنف، بما في ذلك التلميذ والمؤسسة التعليمية، خاصة بعد أن فقدت الكثير من بريقها، حيث أصبح كل العمر الذي يقضيه المتعلم فيها لا يفضي إلا إلى البطالة ومراكمة الأحزان، إن هذا القول لا يعني أن المدرسة كانت، أو هي الآن، أو ستكون بعيدة عن بعض صور العنف، وذلك ببساطة لأن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي حسب بيير بورديو، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين. تضخم العنف إن المدرسة ومشروعها التربوي حين يتكرسان داخل مجتمع غير مؤسس على العدالة، وتحكمه علاقات إنتاج غير عادلة لابد أن يوجههما منطق إعادة إنتاج ليس التعسف الثقافي فقط بل التعسف الاجتماعي كذلك خدمة للغالبين، ولهذا بالضبط يربط الكثيرون بين انسداد الأفق وتضخم البطالة والبؤس الأسري والاجتماعي وبين تضخم العنف في المدرسة، وإلى هذا الرأي يذهب محتاج بناصر (أستاذ) حيث يقول: «العنف المدرسي له أسباب عديدة لكن من أهمها اليأس من المستقبل وانسداد الأفق والإحساس بالإحباط بالإضافة إلى تأثير بؤس الواقع على الوسط العائلي، حيث تكثر العوامل التي تدفع التلميذ إلى التعبير عن سخطه وعدم رضاه بطريقة فوضوية قد تأخذ منحى عنيفا في الكثير من الأحيان، إلا أن ما يزكي الحاجة إلى العنف لدى التلميذ أحيانا هو السلوك السلبي الذي يلجأ إليه بعض الأساتذة، كالسخرية والتحقير والاستخفاف بالتلميذ وبمجهوده وعدم الإنصاف والعدل في التعامل مع الجميع». أسباب العنف له أسبابه الموضوعية ويخرب معنى كل الشعارات التي ترفعها الجهات المسؤولة على التعليم بالمغرب. وتعتبر شهادات عديدة أن المنحى الذي بدأ يأخذه ليس طبيعيا، ولم يفرز الواقع النظري والعملي والإداري ما يعالجه، لهذا تكثر الوقائع الصادمة التي يتناقلها الإعلام المغربي، وحسب خضارو زكريا فإن «العنف في المدرسة نتيجة طبيعية لبؤس التعليم في بلدنا وبؤس الواقع كذلك، ولكل ممارس دوافعه الخاصة، فالتلميذ حين يلجأ إلى العنف يكون أحيانا صيغة للتمرد على أوضاع فاسدة عديدة. فالكثير من التلاميذ يعيشون إحباطات بسبب الوضع المزري لعائلاتهم وبسبب عدم استطاعة الكثير من الحاصلين على شواهد جامعية إيجاد عمل، ويعرف التلميذ معاناتهم لأن منهم أخوه أو أبناء عمومته أو جيران له. إن هذه النتيجة التي وصل إليها الآخرون تعطل لدى الكثير من التلاميذ الحماس للجد والعمل، وتدعم جنوحهم إلى ممارسة الشغب الذي لا يقبل به المدرس أو الإدارة، وهكذا تقع احتكاكات بين أطراف العملية التربوية، ينتهي الكثير منها إلى عنف جسدي ضد التلميذ أو الأستاذ أو الإداري، وأكثر من هذا فضغط الواقع، وضغط تعسف العلاقات التربوية يدفعان بعض التلاميذ إلى تفجير عنفهم أحيانا بشكل أكبر ضد المؤسسة ككل، وهذا حال التلاميذ الذين حاولوا تفجير مؤسستهم بطنجة كما تحدث الإعلام عن ذلك». أوجه العنف المدرسي ارتبطت المدرسة عند الكثيرين بالعنف، لهذا لم يكن سهلا بالنسبة إلى العديد من الأطفال مغادرة حضن الأهل، حيث السماح بالشغب والتحرك. فالذهاب من أجل التعلم يعني التفريط في حميمية الأجواء الأولى، وهذا عنف أول يأخذ طعم المرارة مع بداية عملية الترويض داخل القسم، التي تقوم على أسس تبدأ بالأمر وتقييد التحركات والحديث، وتنتهي بالعقاب البدني، مما يعني أن العنف في المدرسة يأخذ أبعادا متنوعة، منها ما هو نفسي وما هو معنوي وما هو جسدي. وبالنسبة إلى عمر حرسط (أستاذ) «العنف لا يميز المدرسة فقط بل إنه أحد المكونات البنيوية للمجتمعات خاصة في الوقت الحالي، وعلى الرغم من أن العنف في المدرسة لا يبرز كمرتكز وحيد في العلاقات بين الأطراف، بل يحضر إلى جانبه مبدأ التحبيب كذلك الذي يعد وسيلة معتمدة لدى أكثر من طرف، بالإضافة إلى الحوار والتفاهم، فإن الإكراه البدني يبقى ممارسة بارزة داخل المؤسسات التعليمية، وهو عنف متبادل بين الفاعلين داخلها بما في ذلك المدرس والمتعلم والمؤطر التربوي، وتكون عواقبه وخيمة في الغالب. وبرأيي –يضيف حرسط- العقاب البدني سلوك غير مقبول يبعد المدرسة عن مقتضيات التربية ويقربها من عملية الترويض. ويعرف الجميع أن استعمال العنف هو صيغة تؤكد عدم القدرة على استعمال الطرائق التربوية الملائمة لتصحيح سلوك المتعلم وتحميسه على الانخراط الإيجابي في عملية التعلم والابتعاد عن تجربة الألم النفسي والجسدي. وهذا ما يدفع إلى طرح سؤال إشكالي كبير هو: أليست عقليتنا عقلية متخلفة وما قبل حداثية بامتياز؟». العنف ضد المتعلم يتضخم أكثر في المستويات الابتدائية، وقد يكون له الأثر السلبي على كل حياة المتعلم لاحقا، وعلى الرغم من أنه لا ينتج عن رغبة خاصة في تعذيب الآخر إلا في الحالات المرضية، فإن الدافع إليه في الغالب هو عدم التشبع بثقافة الحوار والتعاقد وحقوق الإنسان. وما يمكن حصره كمراحل منتجة له في المستوى الابتدائي حسب فوزية –أستاذة- هو «عدم الانضباط والشغب، وعدم جلب التلميذ لأدواته المدرسية، وغياب دور الأسرة، والجو المتوتر بين المدرسين أو بين المدرسين والإدارة واكتظاظ الأقسام، وتأثر المربي بالضغط النفسي والاجتماعي الذي قد يعيشه في البيت أو المجتمع، إلا أن وجبات العقاب الساخنة التي يأخذها التلميذ الصغير، خاصة حين يكون مظلوما، لابد أن تنطبع في أعماقه كآثار لا تنمحي، وقد يسعى إلى الانتقام لنفسه بسببها لاحقا سواء في المدرسة أو داخل المجتمع». فالمدرس حين يعاقب المتعلم على شيء ما لا يسعى إلى البحث عن السبب الذي يجعل التلميذ غير منضبط أو متأخر أو غير مهتم، بل يهمه فقط محاكمة النتيجة، وهذا ما يعتبر منطقا غير موضوعي وغير عادل، وإلى هذا تشير شهادات بعض التلاميذ. ففاطمة، التي تدرس بالثانوي الآن، لم تنس ضرب معلمها لها بشكل عنيف تسبب لها في جرح في يدها التي لم تحتمل صلابة قضيب الزيتون الذي تم تكسيره فوق جلدها، مما اضطرها إلى زيارة الطبيب بعد انتهاء حصة الضرب، وكان ذلك لأنها كانت تتأخر خاصة أن أمها كانت في صراع مع أبيها حيث تأخذها خلسة منه، وهكذا كان يحرص الأب على ألا يسمح لها بالذهاب باكرا حتى لا تأخذها أمها التي كانت تنتظرها دوما من أجل ذلك. وطريقة ضرب المعلم لفاطمة، بحسبها، كانت قاسية وبدون رحمة، ورغم إخبارها للأستاذ بمشكلها مع أبويها لم يرحمها يوما، لهذا عشش في أعماقها كره المدرسة والدراسة لسنوات، وإلى الآن كلما تذكرت هذا الأستاذ أزهرت في أعماقها كراهية الدراسة والمدرسين. الأثر النفسي للعقاب سكينة بدورها لم تشف من الأثر النفسي للعقاب الذي تلقته في مراحل سابقة، وكان هذا، بحسبها لأن أباها ومجموعة من الآباء تقدموا بشكاية ضد مدرس كان كثير الغياب إلى الجهات المعنية، ولأنه اعتبر ذلك إهانة له كان يعاقب أبناء هؤلاء بالشتم والضرب، وهو ما لم تستسغه سكينة، لهذا تريد من يجيبها عن سؤال جوهري تقول فيه: «هل من الممكن أن يتغير الوضع التعليمي في المناطق الصغرى، ويفهم كل مدرس دوره الحقيقي في هذا الميدان المقدس»، وتطرح سكينة هذا السؤال لأنها لم تشف بعد من آثار العقاب وكل استفزاز جديد لها الآن يحيي فيها كل محنة الأمس، إلا أن التحسر وطرح السؤال ليس هو الصيغة الوحيدة لمداواة جرح العنف بل هناك أيضا الرغبة في الانتقام أو تحقيقها بالفعل، وهذا ما تقوله شهادة عادل مصطفى (تلميذ): «عشت تجربة تعنيف قاسية هذا الموسم لم أعشها سابقا، فبعد خلاف بسيط مع أستاذ هاجمني بالضربات السريعة المتوالية والدفع والسب والشتم، والآن كلما عدت إلى حصته أستحضر لحظة الاعتداء علي وتنتابني رغبة الانقضاض عليه كفريسة وإذلاله كما أهانني أمام كل الزملاء، لكنني أقر وأقول إن الخطأ لا يعالج بالخطأ، وما يهم برأيي هو إحسان الأستاذ تدبير علاقته مع التلاميذ، خاصة أن له مؤهلات تربوية ومعرفية تسمح له بذلك، وتفهم التلميذ للحظات تشنج الأستاذ، لأن الكل من طبيعة إنسانية، لكن ومهما كانت المبررات يبقى العنف مرفوضا في التعاملات التربوية داخل المدرسة». إنه مطلب واضح يطرحه تلميذ، إلا أن الأستاذ بدوره وباقي الأطراف قد يكونون عرضة للعنف، لهذا يبقى لتدخل كل الأطراف الدور البارز في تقليص مساحة العنف، والمنطلق لذلك هو، حسب فوزية، الاقتراب من التلميذ وكسب ثقته ومعاملته بكل احترام، وتشجيعه على المبادرة والانخراط في أنشطة رياضية وثقافية وفنية، وفتح قنوات دائمة للتواصل مع الأسر وتأسيس العلاقات التربوية على التعاقدات والحقوق والواجبات، لكن حتى في تحقيق كل هذا سيتضخم العنف أكثر في المؤسسة التعليمية، وقد يأخذ بعدا أكثر درامية إذا استمر الارتكاز على شعارات شكلية فارغة من المضمون في سياسة الدولة المغربية في التعليم وفي كل المجتمع.