توجه اهتمام الأجيال الجديدة من الباحثين في مصر، نحو دراسة الروافد البشرية التي رفدت الشعب المصري ديموغرافيا عبر مراحل تاريخه ثم انصهرت فيه، بعد أن تلاقحت معه حضاريا، وضمنها العنصر المغربي. وفي هذا الصدد، اغتنت المكتبة العربية خلال السنين الأخيرة بأبحاث رصينة، انصب بعضها على دراسة هجرات المغاربة إلى المشرق العربي عموما، والقطر المصري على وجه الخصوص. ومن بينها، دراسة اقتصادية – اجتماعية على مستوى كبير من الأهمية، يمكن الاعتماد عليها لفهم ديناميكية الهجرات المغربية إلى مصر وصيرورتها ومآلاتها. وتحمل عنوان: (العائلة والثروة: البيوت التجارية المغربية في مصر العثمانية)، للباحث د. حسام محمد عبد المعطي. وتكمن أهمية هذه الدراسة في كونها تمتح مادتها العلمية من أرشيف المحاكم الشرعية في مصر، حيث كانت تقوم بمهام المحافظة العقارية، وتسجيل العقود التجارية، وتدبير الأوقاف وغيرها من العمليات. فحفظت وثائق تلك المحاكم ذاكرة مجتمع وإدارة مصر خلال العصر العثماني (1517 – 1805). كما يقدم لنا المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، من جانب آخر، في الأجزاء الأربعة من "تاريخه" الموسوم ب(عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، ثروة من الأخبار التي تكشف بجلاء حضور المغاربة في المجتمع المصري. والمعروف عن هذا المؤرخ (1756 – 1825) أنه كان دقيقا في ملاحظاته، ولا يحابي حاكما ولا سلطانا. وتغني هذا الأرشيف الغني أصلا، قصص الرحالة المغاربة والغربيين وكتابات المستشرقين ولوحاتهم، من أجل كتابة وقائع تلك الهجرات المغربية إلى أرض الكنانة على نحو صادق. فرارا من الفقر والقهر.. تعددت بواعث المغاربة على اللجوء إلى القطر المصري منذ القرن الميلادي 16، وكان من أبرزها الحج والفرار من الجوائح والقلاقل السياسية. فقد كان الحجاج الميسورون وكذلك التجار المرافقون لركب الحج المغربي كل عام، يشترون من السلع ما خف وزنه وغلا سعره، بدل حمل النقود المغربية معهم.ومن أبرز السلع التي كانوا يقبلون على أخذها معهم، نذكر: تبر الذهب والمصنوعات الجلدية والمعدنية الفاسية، من "البلاغي" والنسيج الرفيع والزرابي والسروج والأواني النحاسية والأسلحة. وكان المصريون يستقبلون الحجاج المغاربة وسلعهم بنوع مبالغ فيه من الحفاوة، التي كانت أقرب إلى التقديس. فالمعروف أن المغرب أصل مشاهير أوليائهم، من أبي الحسن الشاذلي المدفون في أقصى الجنوب، إلى أبو العباس المرسي الذي يوجد ضريحه بالإسكندرية في أقصى الشمال.. حتى أن المصريين أقاموا في القاهرة سوقا خاصا ب"الركب الفاسي"، كان يحمل اسم "سوق المغاربة". وفيه كانت تباع السلع المجلوبة من فاس بأسعار باهظة. وطوال قرون طويلة، كان مقام جزء من حجاج المغرب بمصر – خصوصا منهم التجار – يطول ويمتد لشهور وأعوام، لينتهي ببعضهم إلى مقام دائم واستقرار.وفضلا عن اختيار بعض الحجاج البقاء في مصر، حيث كانت فرص الإثراء أفضل من المغرب، فقد هاجر مغاربة آخرون مضطرين لأسباب مختلفة، في مقدمتها قهر السلاطين ورجالاتهم. ولنأخذ عبرة على ذلك محنة الفقيه الشهيد عبد السلام بن حمدون جسوس وأهله معه، بسبب معارضته جهارا للسلطان المولى إسماعيل. فالمؤرخون يخبروننا بأن عقاب هذا الأخير كان شديدا، حيث "استصفى السلطان عامة أمواله وأجرى عليه أنواع العذاب. فلما فرغ جميع ما يملك هو أولاده ونساؤه وبيعت دوره ورباعه وأصوله وكتبه، جعل يطاف به في الأسواق وينادى عليه: من يفدي هذا الأسير؟ والناس ترمي عليه بالصدقات من دراهم وحلي وحوائج أياما كثيرة لما يقرب السنة"، ثم كانت نهايته بالقتل خنقا في السجن، ليلة الخميس 4 يوليو 1709. وتذكر بعض المصادر المصرية أن أولاد جسوس هذا كانوا تجارا في فاس قبل نكبتهم، فهاجروا إلى مصر حيث تمكنوا من بناء ثروة في أسواق القاهرة. كما هاجر مغاربة آخرون إلى القطر المصري خلال فترات متعددة وعلى موجات، إما فرادى أو عائلات مكتملة العدد، فرارا من الفقر أو من المجاعات والأوبئة، التي كانت مخلفاتها قاسية على الأرض والإنسان في المغرب الأقصى، خلال القرون الخمسة الأخيرة، إلى حد أن بعضها كاد أن يفني – من شدة وطأته – مدنا مغربية عامرة بأكملها. تجارة الكماليات سر الإثراء ولقد استأثرت القاهرة باستقطاب النصيب الأكبر من التجار المهاجرين من المغرب، خلال الفترة المتراوحة بين القرن 16 وأواسط القرن 19. فهي كانت من أكبر عواصم العالم الإسلامي عمرانا ورواجا، بحيث لم يجدوا صعوبة في الاستقرار في أحيائها، خصوصا التجارية. ساعدهم على ذلك تشابه اللغة والدين والتقاليد مع أهل البلد. وإلى جانب القاهرة، استقر مغاربة آخرون في الإسكندرية التي كانت بوابة مصر البحرية من جهة الغرب. بل إن بعضهم استقر حتى في بعض مدن وقرى مصر البعيدة عن المحاور التجارية الرائجة، بحسب مصادر تاريخية مصرية. ولفهم أسباب إثراء التجار المغاربة، تنبغي الإشارة إلى أن حسهم التجاري وتجاربهم السابقة لعبا دورا كبيرا. فأغلبهم مارسوا التجارة من قبل في المغرب، وعندما هاجروا إلى مصر، اتجهوا على الخصوص إلى الاتجار في السلع الكمالية التي تحقق أرباحا كبرى، من قبيل البن (حبوب القهوة)، والأقمشة القطنية المجلوبة من الهند، والتبر (تراب الذهب الخام) المستورد من غرب إفريقيا، والتوابل، التي كانت توفر للتجار المغاربة أرباحا كبيرة خلال الفترة بين القرن 16 وأواسط القرن 17، قدرها بعض الباحثين ب25%. وسمحت ظروف عدم الارتباط بالبلد للمغاربة بأن يتنقلوا باستمرار بين أسواق الهند ومصر دون عناء، مما منحهم الصدارة في الميدان. كما دفع العمل في الصيرفة ودار ضرب النقود باليهود في مصر إلى تمويل تجارة المغاربة للتبر [تراب الذهب الخام]، الذي كانوا يجلبونه إلى مصر بأسعار بخسة من كانو وتمبكتو (في مالي الحالية). وكانت الأرباح من وراء هذه التجارة المطلوبة جدا ضخمة. واشتغلوا في تجارة البن الذي كانوا يستوردونه من اليمن، ويصدرونه إلى تركيا (التي كانت أكبر مستهلك للقهوة في العالم) وكذا إلى جنوب أوروبا. وبعد تكوينهم لثروات كبرى، امتلك التجار المغاربة سفنا تجارية ضخمة في البحرين المتوسط والأحمر، في وقت كان الاتجار عبر البحار من أنجح السبل لتحقيق الثروة، فاحتكروا بها أنواعا من التجارة مما سبقت الإشارة إليه وغيره. واتجهوا لاحقا إلى قطاع الإقراض بالفائدة، فكان من زبائنهم كبار الأمراء وسامي الشخصيات في مصر. ثم هناك قطاع آخر كان من أكثر القطاعات التجارية تحقيقا للربح، ألا وهو الالتزامات الزراعية التي كانت أحد أشكال تكوين الثروة في ذلك العصر، فكان التجار المغاربة يمولون زراعة بعض المنتجات التي يكثر الإقبال عليها، فيصدرونها خارج مصر، من قبيل الكتان، والسكر، والحبوب، والسك "لوبي" المغاربة في مصر "اللوبي" هو مفهوم سياسي معاصر يطلق على فئة من الناس توحدها نفس المصلحة، وتمتلك من أدوات الضغط ما يسمح لها بتحقيق مصلحتها. وإذ نقتبس هذا المفهوم المعاصر هنا، فللتعبير عن بعض أوجه التأثير الذي حظي به المغاربة المتحدرون من الأسر التجارية لدى مراكز القوة في مصر. فعندما انفرد المماليك بحكم مصر ابتداء من الربع الثاني من القرن 18، مارسوا تعسفهم وظلمهم المعروف على الرعية. وكان التجار المغاربة بالقاهرة، مثل غيرهم، عرضة للتجاوزات بحيث وجدوا لأنفسهم حلا لحماية تجارتهم وأموالهم، تمثل إما في مشاركة المماليك التجارة، أو بتقديم القروض الكبيرة لكبار أمراء المماليك. وطبعا لم يكن هؤلاء يعيدون مبالغ تلك القروض، لكن المغاربة كان يستفيدون في مقابلها من نفوذ وكلمة مسموعة لدى الحكام. على هذا النحو الواقعي، تكيف المغاربة سريعا مع الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية للقطر المصري. فقد امتلكوا وعيا مبكرا بضرورة ضمان تمثيلية مؤثرة في أغلب مراكز القوة في البلد. وفي هذا الصدد، نستشف من قراءة تاريخ الجبرتي [الجزء الثاني على الخصوص] بعض أشكال تأثيرهم البارز في ثلاثة قطاعات أساسية على الأقل (بحسب مطالعتنا)، متمثلة في: الجيوش المملوكية، وكبار ممثلي التجار وأمناء الأسواق، وعلماء الأزهر الشريف. لقد كان من العناوين البارزة على نجاح التجار المغاربة في مصر، لعبهم أدوارا كبرى في التنظيمات التجارية على مستوى الأسواق الكبرى بفضل الثروات الكبرى التي راكمها كثيرون منهم. وتمثل ذلك على الخصوص في دخولهم غمار التنافس من أجل تولي منصب "شاهبندر التجار"، وهو صفة أو منصب كان يحصل عليه التاجر الأكثر أمانة ونزاهة خلال عصر الخلافة العثمانية بتوافق التجار، ويعادل نوعا ما منصب "أمين التجار" في مغرب ذلك العصر، أو رئيس غرفة التجارة بالمفهوم العصري. ومن أشهر من تولى هذا المنصب في مصر العثمانية، يخبرنا الجبرتي باسم التاجر المغربي المدعو "محمد الدادي الشرايبي" في أوائل القرن 18. والشواهد كثيرة على نفوذ هذا الأخير الواسع، يجدها القارئ في المؤلفات التي ذكرنا، حتى أن جنازته حضرها أمراء مصر وأعيانها وكبار رجالاتها. وإلى جانب توظيفهم للمال من أجل التأثير والحصول على الحماية، انخرط أبناء البيوت التجارية المغربية في جيوش المماليك، ابتداء منذ الربع الأخير من القرن 16. ولم يكن ذلك مجاملة من المماليك لهم، بل لأن المغاربة كانوا يتقنون استعمال البنادق، كما يخبرنا الجبرتي، الذي امتدحهم مرارا. وقد تسلق بعضهم المراتب العسكرية حتى صاروا مسؤولي فرق كبارا. وثالث المجالات المؤثرة التي فرض مغاربة مصر العثمانية أنفسهم فيها، يتمثل في مؤسسة الأزهر. فقد كان "رواق المغاربة" بهذه المؤسسة الدينية ذا تأثير كبير، من خلال الأوقاف التي أوقفها بعض كبار التجار على طلبة الدين الأزهريين وسواهم وكذا على بعض كبار علمائه. كما أن كثيرا من الأسر التجارية دفعت أبناءها للدراسة في الأزهر، فجمعت النفوذ التجاري والمالي مع النفوذ الديني. ولعل من أبرز مظاهر قوة نفوذهم أن رواق المغاربة أصبح أكثر الأروقة أهمية ونفوذا في الأزهر، ابتداء من النصف الثاني من القرن 18. ويرى باحثون أن النفوذ القوي لمغاربة مصر داخل الأزهر، الذي كان ولا يزال أعظم مؤسسة دينية للإسلام السني، منحهم غطاء شرعية دينيا منع عنهم تجاوزات السلطة، التي كثرت رؤوسها زمن المماليك. أبرز العائلات التجارية المغربية المسلمة واليهودية في مصر منذ القرن السادس عشر، أصبح للمغاربة اليهود حارة في الإسكندرية. ويؤشر ذلك على قدم حضورهم في مصر، حتى أن خبرتهم بعوالم المال والتجارة أتاحت لهم بسط سيطرتهم على قطاع الجمارك المصري، الذي كان مواطنوهم المغاربة المسلمون كثيرو التردد عليه بحكم معاملاتهم التجارية مع الشرق والغرب. فكان لتحالف المصالح بين الطرفين دور كبير في ما راكموه من ثروات ضخمة. ومن أشهر العائلات المغربية اليهودية التي استقرت بمصر، تذكر لنا المراجع التاريخية: ساسون، وكاسترو، والأشعر، ونمرود، ومهدان، وفريحة، وابن سعد، وحنانو، والكوهن، وسعدون. أما التجار المغاربة المسلمون فلم يكونوا كثيري العدد قبل العام 1712، رغم أن شهبندر تجار مصر كان حينها مغربي الأصل (محمد بين محمد بن قاسم الشرايبي). لكن انطلاقا من هذا التاريخ أخذت الهجرة المغربية زخما أكبر عبر موجات متلاحقة. ومع ذلك ظل آل الشرايبي أشهر العائلات التجارية المغربية وأكثرها ثراء ونفوذا في مصر. ويصف لنا المؤرخ الجبرتي بالكثير من الإطراء أحوال هذه الأسرة، التي كانت تمثل التجار المغاربة من ليبيا وحتى مراكش. وكيف أن أفرادها جعلوا من رعاية العلم والعلماء واجبا دينيا تنهض به أسرتهم. فيصف دارهم الكبيرة في الأزبكية بالقاهرة وكيف كانت بها خزانة تأوي طلاب العلم والعلماء، يفدون إليها لإعارة الكتب النفيسة التي كان يشتريها أصحاب البيت بأسعار باهظة ويحبسونها وقفا لأهل العلم، فلا تباع ولا تورث ضمن ثرواتهم. ويعود تاريخ هجرة الجيل الأول من هذه الأسرة الفاسية الأصل إلى العام 1625، عندما قرر الأخوان قاسم وعبد القادر الشرايبي الاستقرار بمصر، في طريق عودتهما من الحج. وفضلا عن رعاية العلم وأهله، لعب بيت هذه الأسرة الكبير في القاهرة دورا مركزيا من حيث استقبال التجار المغاربة الوافدين الجدد على مصر، فكان يقدم إليهم النصح والتوجيه. وفي حي الغورية التجاري بالقاهرة، كانت لهذه العائلة وكالة مشهورة، شكلت معقلا للتجار المغاربة في مصر. وبفضل استقرار أجيال متلاحقة من التجار المغاربة في الغورية، أصبح ابتداء من القرن 18 أكبر سوق في القاهرة، فأخذ يتمدد داخل حي الفحامين المجاور. ومن العائلات التجارية الأخرى التي استقرت في وقت مبكر بمصر، هناك عائلة جلون التي هاجر جدها الحاج محمد بن علي في 1712. وعائلة جسوس، التي كانت في الأصل يهودية واعتنقت الإسلام في القرن 15 بفاس، وتعرض أفرادها للتضييق على عهد المولى إسماعيل، ما حملهم على الهجرة. وعندما توفي الأخوان قاسم وعبد الرحمن جسوس بالطاعون بالقاهرة في 1783، تركا ثروة خرافية تقدر بثمانية ملايين بارة، اعتبرت من أضخم ثروات مصر حينها، إلى جانب قصر كبير فخم كان يعد من أجمل قصور القاهرة وأغلاها. وكانت عائلة جسوس إلى جانب عائلتي السقاط والبناني، من العوائل التي جمعت بين التجارة والعلم معا في مصر. ومن العائلات التجارية الأخرى التي لمع بريقها في مصر (وكانت زهاء 60 عائلة في المجموع)، نذكر: ابن مشيش، الجيلالي، البناني، زاكور، العشوبي، الساكت، ابن كيران، الريس، الخ. وأغلبها هاجر من فاس، بينما الأقلية من مكناس أو مراكش. وبفضل الثروات الضخمة التي جمعتها بعض هذه العائلات، تمكنت من تشكيل قاعدة للبورجوازية المتوسطة المصرية، خلال القرن 18 على الخصوص. أما بصدد الحياة الاجتماعية التي كانت تعيشها، فاللافت أن أفراد الجيلين الأول والثاني من العائلات المهاجرة ظلوا يتصاهرون في ما بينهم (زواج أبناء العمومة)، ثم انتقلت الأجيال اللاحقة إلى الانفتاح على مكونات المجتمع المصري الأخرى، من خلال الزواج من أسر تركية ومصرية وشامية. وهو ما انتهى بها إلى الذوبان والانصهار في المجتمع المصري. على أن المهاجرين المغاربة إلى مصر والحجاز لم ينتهوا جميعهم تجارا ناجحين يغرقون في الثراء، فالشواهد التاريخية تخبرنا بأن منهم من كانوا فقراء يتسولون في الأسواق وعلى الطرقات. ومن مظاهر الرأفة بهم أن التجار المغاربة الأثرياء أقاموا لهم زوايا وملاجئ لإيوائهم وإطعامهم.