تعكف الحكومة البريطانية، حاليا، على إدخال تشريع قانوني جديد يسلب السلك القضائي البريطاني صلاحياته بإصدار مذكرة اعتقال في حق شخصيات أجنبية تزور بريطانيا متهمة بارتكاب جرائم حرب. ومن المتوقع أن تتقدم حكومة غوردون براون العمالية، التي تواطأت في الحرب على العراق، استنادا إلى أكاذيب ملفقة، بالتعديلات القانونية إلى البرلمان في الأسبوع الحالي، لإقرارها على وجه السرعة، وقبل حلول الانتخابات العامة قبل نهاية مايو القادم. وزارة العدل البريطانية، التي يرأسها جاك سترو وزير الخارجية الأسبق، تريد أن تنقل صلاحية إصدار أوامر الاعتقال من المحاكم البريطانية وقضاتها إلى المدعي العام البريطاني، تحت ذريعة حماية الشخصيات الأجنبية الكبرى الزائرة لبريطانيا من الاعتقال، وتقديمهم إلى المحاكمة بالتالي كمجرمي حرب. لا توجد شخصيات أجنبية كبرى تزور بريطانيا ومتهمة بارتكاب جرائم حرب غير الإسرائيلية، ولذلك فإن هذه التعديلات القانونية تتم وفق المقاسات الإسرائيلية ورضوخا لحملات الابتزاز التي تعرضت لها الحكومة البريطانية من قبل حكومة بنيامين نتنياهو واللوبي اليهودي البريطاني المناصر لها، على إثر قيام مجموعة من المحامين الشرفاء البريطانيين بالتقدم إلى المحاكم البريطانية بطلب اعتقال تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء عدوان قواتها الأخير على قطاع غزة مطلع العام الماضي. الابتزاز الإسرائيلي نجح في تحقيق النتائج المرجوة في تغيير تشريعات بريطانية جرى وضعها من أجل معاقبة النازيين، استنادا إلى معاهدة جنيف وقوانين حقوق الإنسان، وبضغط من اليهود أيضا، الذين كانوا، ولا يزالون، يريدون الانتقام لضحايا المحرقة على أيدي مجرمي الحرب الألمان في عهد النازية. أكثر من سبعين نائبا تقدموا بعريضة إلى مجلس العموم البريطاني (البرلمان) ينتقدون بشدة هذه التعديلات، وانضم إليهم عشرات اللوردات والممثلين والكتاب والمحامين الكبار، للتصدي لها ومنع تمريرها، لما يشكله ذلك من إهانة للعدالة والقيم الديمقراطية الغربية. العريضة، التي وقعها هؤلاء النواب والمحامون والنشطون الداعمون لحقوق الإنسان، قالت: «لقد تعرضنا لصدمة كبرى بالاقتراحات التي تقدم بها إيفان لويس، وزير الدولة في وزارة الخارجية، بل وديفيد مليباند وزير الخارجية نفسه، بتعديل القوانين البريطانية لتجنب أي محاولات في المستقبل لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، إسرائيليين كانوا أو غير إسرائيليين، أمام المحاكم البريطانية، نحن نرفض أي محاولة لتقويض استقلالية القضاء البريطاني، وأي قاض يملك الأدلة الكافية لمحاكمة أحد المتهمين في جرائم الحرب يجب أن يملك القوة لكي يطلب اعتقاله». المحامي البريطاني المعروف جون هاردي أكد أن سلب هذا الحق، أي حق مقاضاة مجرمي الحرب من قبل القضاء، يلغي الحقوق القانونية للمواطنين. قرار سياسي يشكل تدخلا سافرا وخطيرا في حقوق المواطن الأساسية. ما لم يقله هذا المحامي المعروف هو أن إسرائيل ومجرمي حربها هم فوق كل القوانين، وحمايتهم أهم من حقوق المواطن البريطاني واستقلال سلطته القضائية الذي يعتبر مفخرة ونموذجا يحتذى في العالم بأسره. فالسيدة سكوتلاند، المدعية العامة في بريطانيا، عبرت عن هذه الحقيقة بجلاء أثناء خطاب ألقته في جامعة القدس، الأسبوع الماضي، وقالت فيه «حكومتنا تنظر بشكل عاجل في طرق ووسائل تمكنها من تغيير النظام القضائي لتجنب اعتقال مسؤولين إسرائيليين، المسؤولون الإسرائيليون يجب أن يتمكنوا على الدوام من زيارة بريطانيا دون أي عوائق». فلو كان مجرمو الحرب من العرب، أو من أي دولة أخرى من دول العالم الثالث، خاصة غير الصديقة لأمريكا وبريطانيا، فإن هذه القوانين لن تعدّل، بل ستطبق دون أي تأخير، ولكن يبدو أن مجرمي الحرب الإسرائيليين على وشك الحصول على تفويض من بريطانيا، وكل الدول الغربية، لكي يقتلوا ما شاؤوا ومن شاؤوا من الأطفال في قطاع غزة أو لبنان، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، مثلما جاء في تقرير غولدستون، وهم مطمئنون إلى عدم مثولهم أمام العدالة ومحاكمها. الابتزاز الإسرائيلي البشع، والخنوع البريطاني المهين أمامه، والاستجابة لشروطه، ربما يؤدي إلى تحويل بريطانيا إلى دولة من دول العالم الثالث ويفقدها أهم مميزاتها الحضارية، فتعديل القوانين، نتيجة ضغوط خارجية، دون دراسة أو تمحيص كافيين، وانطلاقاً من مصلحة المواطن والبلد نفسه، أمر لا يتم إلا في دول لا تعرف القضاء المستقل ومبدأ الفصل بين السلطات والتجارب الديمقراطية العريقة. قوانين محاكمة مجرمي الحرب ليست قوانين بريطانية في الأساس، وإنما هي قوانين عالمية تبناها «العالم الحر» بعد الحرب العالمية الثانية، وألزم جميع الدول بها، ولذلك فإنه لا يحق لبريطانيا أن تعدّلها من طرف واحد، لأن هذا التعديل يتعارض مع اتفاقيات جنيف ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية. العالم بأسره انتصر لضحايا النازية واتخذ الإجراءات الكفيلة بالانتقام من مجرمي الحرب بتقديمهم إلى العدالة والقصاص منهم، للتأكد من عدم تكرار جرائمهم ومحارقهم الجماعية، فلماذا يتواطأ هذا العالم الآن مع مجرمي الحرب الإسرائيليين فقط لأن ضحاياهم من العرب والمسلمين؟ إنها انتقائية بشعة تكشف عن انهيار في الأخلاق والقيم. بريطانيا، التي تخطط لتعديل قوانينها هذا الأسبوع لحماية المجرمين الإسرائيليين، تتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية تجاه الشعب الفلسطيني الذي تبيح إهدار دمه لمجرمي الحرب الإسرائيليين وتعطيهم ضوءاً أخضر لمواصلة مجازرهم، فبريطانيا تكرر بهذه الخطوة، بل تؤكد، عداءها للشعب الفلسطيني وإصرارها على مطاردته حتى في منافيه بانحيازها المخجل إلى جلاديه الذين أقامت بريطانيا دولتهم على حسابه. الحكومة البريطانية بدلاً من أن تكفّر عن جريمتها الكبرى في حق الشعب الفلسطيني، وهي المسؤولة عن مأساته وكل ما تفرّع عنها على نكبات، تقدم على مواصلة هذه الجريمة حتى بعد أكثر من ستين عاماً على ارتكابها، بتوفير الحماية القانونية والسياسية لمن نهبوا أرضه وشرّدوه في مختلف أصقاع الأرض، بتواطؤ منها. نضم صوتنا إلى أصوات النواب والسياسيين والفنانين والحقوقيين، وكل الشرفاء البريطانيين الذين عارضوا تغيير هذه القوانين وإفلات مجرمي الحرب الإسرائيليين من المثول أمام العدالة، وإذا كانت هناك حاجة ملحة إلى التعديل، فمن أجل تشديدها والحفاظ على الحد الأدنى من استقلالية القضاء.