المدرسة المغربية التي أنجبت عبد الله كنون، ومحمد المنوني، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد عزيز لحبابي، وطه عبد الرحمان….قادرة على أن تنجب أبناء وأحفادا.. تلمع أسماؤهم ليس في السماء المغربية وحسب، بل في فضاء الساحة الأكاديمية والعلمية والثقافية العربية وحتى العالمية. على الرغم من حالة التدهور والنزيف الشديدين اللذين تعرفهما الساحة الرسمية المغربية سواء أكان أكاديميا أو بحثا جامعيا، أو ثقافيا، إلا أن بصمة النبوغ المغربي فرديا تبقى ثابتة لا تتخلف عن مواعيدها الكبرى. فمن أصل ثمانية جوائز ضمن مسابقة الجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة المقامة بالعاصمة القطريةالدوحة ما بين 12 و14 مارس، انتزع الباحثون الأكاديميون المغاربة ثلاثة جوائز ثمينة، ما يؤكد على تفوق العقل المغربي في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية رغم قساوة الظروف والأعطاب الذاتية والموضوعية. حيث حصل على الجائزة الأولى الباحث رشيد سعدي في فئة الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية باللغة العربية، عن بحث بعنوان «سؤال الدين والأخلاق والسياسة: المسارات الكونية وانغلاقات العالم العربي الإسلامي، حرية الضمير والمعتقد كمجال تطبيقي»، المنشور في العام 2014 في مجلة «ألباب» الصادرة عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث». كما فاز بالجائزة الثانية، في المحور الثاني للمسابقة: «المدينة العربية، تحديات التمدين في مجتمعات متحولة»، الباحث إدريس مقبول عن بحثه: «المدينة العربية الحديثة: قراءة سوسيولسانية في أعراض مرض التمدن. في حين احتلت الرتبة الثالثة الباحثة ماجدة صواب في فئة الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية باللغة العربية عن بحثها: «إعادة هيكلة السكن غير القانوني بالمغرب: حصيلة المقاربات» المنشور في العام 2013 في «مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية» الصادرة عن جامعة سيدي محمد بن عبد الله. ويذكر أن الجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة جائزة تنافسية أطلقها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، منذ عام 2011 من أجل تشجيع الباحثين العرب، داخل العالم العربي وخارجه، على البحث العلمي الخلاّق في قضايا وإشكاليّات تتناول صيرورة تطوّر المجتمعات العربيّة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. وقد دأب المركز على فتح باب التنافس أمام الباحثين العرب ضمن موضوعين كل سنة هما أيضًا موضوعا المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، فاسحا للمشاركين المجال نحو سبعة أشهر لإنجاز بحوث أصيلة لم يسبق نشرها من قبل في موضوعي التنافس. ومنذ الدورة الثالثة للجائزة (2013/ 2014)، أضاف المركز العربي فئةً ثانيةً للجائزة تُخصّص للبحوث التي سبق أن نشرها باحثون عرب في المجلات العلمية باللغة العربية وفي المجلات العلمية بغير اللغة العربية، على أن تكون ذات علاقة بالموضوعين المقترحين، لتنافس البحوث غير المنشورة، أو قريبة منهما. وللمعلومة، تقدر القيمة المالية الإجمالية للجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية ب160 ألف دولار أي أزيد من مليون ونصف درهم مغربي. وتُخصص لكل واحد من موضوعي التنافس في البحوث الجديدة ثلاث جوائز تبلغ قيمها: 25 ألف دولار / 243 ألف درهم مغربي، للجائزة الأولى، و15 ألف دولار/ 164 ألف درهم مغربي للجائزة الثانية، و10 آلاف دولار/ 97 ألف درهم مغربي للجائزة الثالثة. ويحصل الفائزون الثلاثة في فئة الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية باللغة العربية على جوائز قيمها: 15 ألف دولار/164 ألف درهم مغربي للجائزة الأولى، و10 آلاف دولار/ 97 ألف درهم مغربي للجائزة الثانية، و5 آلاف دولار/ 48 ألف درهم مغربي للجائزة الثالثة. ويحصل الفائزون الثلاثة في فئة البحوث المنشورة في المجلات العلمية بلغات غير العربية على جوائز مماثلة. جدير بالذكر أن الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية تعد الأكبر والأهم في حقل بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي. ويقرن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات موضوعي التنافس في الجائزة كل عام بالموضوعين المخصصين للنقاش في المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي اختتمت في الدوحة دورته الخامسة بعد ثلاثة أيام من المحاضرات والمناقشات في موضوعي المؤتمر. ويضم برنامج المؤتمر، الذي يستمر لثلاثة أيام، محاضرةً افتتاحية، ومحاضرتين أخريين رئيسيتين في اليوميين الثاني والثالث من المؤتمر. وقد شهدت جلسات المؤتمر الأخير، تقديم نحو61 باحثًا عربيًا أوراقًا بحثيةً. منها 25 ورقة بحثية لباحثين وأكاديميين مغاربة، من عدد من المنابر البحثية والجامعية نذكر منها : جامعة محمد الأول بوجدة/ جامعة محمد بن عبد الله بفاس/ وجامعة محمد الخامس بالرباط/ وجامعة مولاي إسماعيل بمكناس/ وجامعة القاضي عياض بمراكش/ وجامعة ابن زهر بأكادير/ وجامعة عبد الملك السعدي بطنجة/ وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء… وقد تخللت أشغال المؤتمر محاضرتين مركزيتين الأولى افتتاحية ألقاها المفكر الأردني من أصول فلسطينية الدكتور فهمي جدعان هي بمثابة محاضرة تأسيسية في موضوع الحرية وبعنوان «أسئلة الحرية: هنا … الآن»، أكّد المفكر فهمي جدعان أنّ «الحرية» وأسئلتها لا تزال مثار نقاشٍ كبيرٍ على مختلف الأصعدة بين المفكرين والفلاسفة والسياسيين. وقدّم، من وجهة نظره، خمسة أسئلةٍ رئيسةٍ تستحثها «الحرية» اليوم في واقعنا العربي. كما ركز وبإسهاب على مسألة نشأة الاستبداد في الدولة العربية أيضًا، حيث أعاد فيها طرح سؤال «الحرية والعدالة»، وخلص فيها، ومن دون أي ترددٍ، إلى رفض مقولة السلطان المستبد العادل التي قامت عليها فكرة السلطة والحكم في المجتمعات العربية منذ عهد الخلافة الإسلامية. وقال إنّ الحرية أسبق من العدل، وأنه لا وجود لطاغية عادل لأنّ العدل لا يحتمل أن يجتمع مع نقيضه «الاستبداد»، فالاستبداد ينقض الحرية، والحرية حق طبيعي أساسي لا يمكن لمبدأ العدل أن ينكره. كمل عرج على مسألة جدالية في غاية الأهمية ألا وهي سؤال «الحرية الدينية»، مناقشًا التراث الفقهي والفكري الإسلامي، وكيف تطور في مسألة حرية الاعتقاد التي جاءت صريحة في العديد من آيات القرآن الكريم، إلا أنّ الإجماع الفقهي أثبت حكم القتل للمرتد، قبل أن يأتي كثيرٌ من المفكرين المسلمين المعاصرين لنقض هذا الحكم. كما شهد اليوم الثاني من المؤتمر محاضرة مركزية أخرى للدكتور عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، حول «الحرية» في الفكر العربي. أخذت المناقشة الفلسفية ل «الحرية» الحيّز الأكبر في محاضرة الدكتور عزمي بشارة، وأشار منذ البداية إلى أنه يذهب في اتجاه القائلين بأنّ «الحرية» ليست معطى طبيعيًا، وأنّ الإنسان لا يولد حرًا فكريًا وجسديًا وإراديًا. وعندما يقول بعضهم إنّ الإنسان يولد حرًا، فإنما يقصدون أنّه لم يولد عبدًا. ولخّص قوله في أنّ الإنسان لا يولد حرًا وأنّ الحرية لا تشترى جاهزة ولا تورّث، وأنها تقوم على العقل والإرادة. وقد أضحى المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي ينظمه المركز العربي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وبعد أربع دورات سابقة، أحد أهم المواعيد السنوية بالنسبة إلى الباحثين والدارسين في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. إذ يوفر المؤتمر منصةً متفردةً للوقوف على تطورات البحث واتجاهاته في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويشمل برنامجه مساهمات باحثين من 13 بلدًا عربيًا، هي: مصر، المغرب، الجزائر، قطر، سورية، السودان، تونس، فلسطين، لبنان، السعودية، الكويت، العراق، موريتانيا. ويسجل الباحثون الشباب حضورًا لافتًا في المساهمة بأوراق بحثية في المؤتمر، كما يقدم أساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا مساهمات نوعية أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قد خصّص مؤتمره السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي عقد في الدوحة في مارس 2012 لموضوعي: «الهوية واللغة في الوطن العربي» و»من النمو المعاق إلى التنمية المستدامة: أي سياسات اقتصادية واجتماعية للأقطار العربية؟»، وفي الدورة الثانية في عام 2013 في الدوحة اختار المركز العربي مناقشة موضوعي: «جدليّة الاندماج الاجتماعي وبناء الدّولة والأمّة في الوطن العربيّ»، و»ما العدالة في الوطن العربيّ اليوم؟»، وعقد المركز المؤتمر السنوي الثالث للعلوم الاجتماعية والإنسانية في تونس في عام 2014، وناقش موضوعي: «أطوار التاريخ الانتقالية، مآل الثورات العربيّة» و»السياسات التنموية وتحدّيات الثورة في الأقطار العربيّة». واحتضنت مدينة مراكش في المغرب الدورة الرابعة من المؤتمر، حيث تناولت موضوعي «أدوار المثقفين في التحوّلات التاريخية» و»الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي». سعدي: المشكل ليس في علاقة التخصصات الأدبية بسوق الشغل بل في علاقتها بالممارسات التعليمية قال إن الانتقاص من هذه التخصصات يعمل على خلق تمثلات سلبية حول العلوم الإنسانية الدكتور رشيد سعدي من الوجوه الأكاديمية المغربية الشابة والمتألقة في سماء البحوث الاجتماعية والإنسانية خصوصا، مغربيا وعربيا، وهو أحد المغاربة الثلاثة المتوجين في الجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بالدوحةالقطرية في نسختها الأخيرة 2016، حيث حصل على الجائزة الأولى في فئة الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية باللغة العربية عن بحثه «سؤال الدين والأخلاق والسياسة: المسارات الكونية وانغلاقات العالم العربي الإسلامي، حرية الضمير والمعتقد كمجال تطبيقي». في هذا الحوار أو بالأحرى الجولة الفكرية المفتوحة، نحاول فيها أن نعرج على عدد من القضايا والمفاهيم، كواقع البحث العلمي والأكاديمي بالمغرب ووضعية البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والإصلاح الديني ، والتجربة الغربية في علاقة الدين بالسياسة، والدولة المدنية والعلمانية، وحرية المعتقد…. – ثلاثة أسماء مغربية متوجة من أصل سبعة أسماء، هل هذا مؤشر على أن البحث العلمي في الحقول الإنسانية والاجتماعية بالمغرب في صحة جيدة؟ لا أعتقد ذلك، إذ يصعب الربط بين الحضور اللافت للباحثين المغاربة ومأسسة البحث العلمي في الحقول الإنسانية والاجتماعية بالمغرب على صعيد المؤسسات الجامعية أو حتى على صعيد مراكز البحث. فالأمر يتعلق بمسارات فردية للبحث أكثر منه نتاجا لتقاليد مهيكلة للبحث العلمي. يمكن أن نسترشد هنا بالتقارير المقلقة حول تدني وتراجع مؤشرات البحث العلمي في المغرب، خصوصا في الفضاء الجامعي، وكذا ندرة دور النشر وغياب آليات الاعتراف المؤسساتي وآليات التتبع. لا شك أن البحث العلمي في الحقول الإنسانية والاجتماعية بالمغرب يحتاج إلى حكامة على صعيد المأسسة على مستوى البنية التربوية إجمالا والتشبيك الذي يسمح بالاشتغال عبر مشاريع طويلة المدى. كما أنه يجب منح نتائج البحوث الحقول الإنسانية والاجتماعية قوة وقيمة اقتراحية من خلال الربط بين بنيات البحث ومراكز اتخاذ القرار، مما سيسمح بمساهمة البحوث في الحوكمة السياسية والاجتماعية وتأسيس سياسات معرفية وقدرات وتكريس المعرفة المنتجة. يجب التأكيد هنا على ضرورة عقلنة العلاقة بين المدخلات والمخرجات عبر تحديد أهداف إستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالبحث النظري أو التطبيقي. لذا يجب تجاوز البحوث النظرية البحتة إلى البحوث ذات البعد الإستراتيجي، والهادفة إلى التنمية في منحاها الاجتماعي أو السياسي، مثلا البحوث المتعلقة بالأمن الروحي والديني أو تدبير التعددية الدينية من أجل تفكيك مهادات التطرف الديني. مثل هذه البحوث التداخلية تسمح بتعميق الوعي بالأساس العلمي، الذي يمكن أن تؤسس له المعرفة والبحث في الإنسانيات وتطوير الممارسات البحثية داخل المؤسسات الجامعية، بالإضافة إلى التأسيس لنماذج معرفية جديدة وتطوير استراتيجيات التجريب والتقويم العلمي وتغيير الخطاطات المفاهيمية التقليدية من أجل تكريس مفهوم كونية نماذج البحث في ميدان الظواهر الإنسانية. ونذكر على سبيل المثال مشروع ارتباط الحداثة السياسية والحداثة الدينية، وهو مشروع يمكن اقتراحه ومنحه طابعا إجرائيا من أجل تفكيك العديد من التناقضات السياسية والاجتماعية وبناء مجتمع مفتوح. – دائما وفي علاقة بالمشاركة المغربية، لاحظنا أن هناك 25 بحثا وباحثا مغربيا من أصل 61 باحثا مشاركا. هل هذا دليل على أن فرص الإنتاج والتنافس والتميز في المغرب أضحت منعدمة، لدرجة أن الساحة المغربية لم تعد ساحة جذب؟ من الواضح أن مؤسسات البحث الأجنبية، خصوصا بدول الخليج العربي، أصبحت فعلا تستقطب عددا كبيرا من الباحثين المغاربة إما للاشتغال داخلها بصفة دائمة أو جزئية، كما أنها تستقطب أعمال الباحثين المغاربة، الذين يسعون وراء فرص التميز التي تمنحها مراكز البحث هذه، بفضل هيكلتها ومشاريعها البحثية الطموحة، بالإضافة إلى آليات التحكيم التي تتمتع بقدر لا بأس به من المصداقية والموضوعية. من وجهة نظري، تكمن قوة هذه المراكز في قدرتها على الاشتغال وفق إستراتيجية المشاريع طويلة المدى لخلق تراكمات معرفية مهمة. وأود أن أؤكد أن بإمكان مؤسساتنا البحثية الجامعية وغير الجامعية أن تنحو المنحى نفسه إذا ما تخلصت من رواسب العقلية التقليدية التي لا زالت للأسف متحكمة في مناهج التسيير، فهي تشبه تكتلات شبه قبلية بدل أن تكون فضاء مفتوحا للبحث. من الضروري أيضا التأسيس لقيمة الاستحقاق عبر الربط الوثيق لأنظمة الترقية بالبحث العلمي عوض الولاءات الأولية أو مقولة الأقدمية. – بعض المسؤولين المغاربة من وزراء… ينتقصون علانية من التخصصات الأدبية، ومنها التخصصات الاجتماعية والإنسانية، هل هذه مواقف شخصية أم حالة تخبط وعدم إدراك لأهمية العلوم الإنسانية؟ فعلا هذا صحيح، فمثل هذه التصريحات تعمل على خلق تمثلات سلبية ودونية حول العلوم الإنسانية عموما، وتغفل الضرورة الحضارية لخلق توازن بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم البحتة. لا شك أن هذه التصريحات تنم عن خيارات إيديولوجية محافظة بشأن التصور المفتوح أو المغلق للمجتمع أو كون المشروع المجتمعي شيء تم إنجازه أو يجب علينا إنجازه. كما أنها تصريحات تتجاهل ضرورة الانخراط في مشاريع كبرى للتغيير الاجتماعي والسياسي تتأسس أولا داخل المنظومة التربوية. فضلا عن هذا، هي تصريحات تنم عن إغفال ما يمكن تسميته مأزق ديداكتيكا العلوم الإنسانية، التي لا زالت تدرس كعلوم نظرية، في حين يجب ربطها بمشاريع التغيير الاجتماعي واستراتيجيات تفكيك جميع أنواع الانغلاقات التي أصبحت تكلف الدولة الكثير (التعصب الديني، العنف ضد المرأة، عدم التمكن من اللغات…). لا يكمن المشكل في علاقة التخصصات الأدبية بسوق الشغل، بل بعلاقة هذه التخصصات بالممارسات التعليمية التي لا زالت منفصلة عن واقع المجتمع. لماذا لا يتم التفكير، مثلا، في تعويض تخصص الدراسات الإسلامية بتخصص الإسلاميات التطبيقية كمجال معرفي جد منتج ويتطلب إمكانيات معرفية مركبة؟نعتقد أنه يجب إدماج الإنسانيات بقوة حتى داخل الأسلاك العلمية لأنها ضمانة أساسية لبناء هوية المواطنة وتكريس قيم الاختلاف والتسامح والروح النقدية والنسبية وكذا تدبير مقولات الهوية والمرجعيات الدينية ضد الإيديولوجيات الشمولية. تغيير المجتمع فكريا يشكل مكسبا سياسيا واقتصاديا للدولة. يمكن ربط البحث في الإنسانيات بمسألة التقدم الحضاري والحداثة السياسية، الاجتماعية والدينية، عبر مشاريع استراتيجية لمؤسسات مراكز البحث العلمي أو المؤسسات الجامعية. – ثقل حضور عدد من المصطلحات المنتمية للحقل المسيحي والغربي عموما (في بحثك) في محاولة تنزيلها على الواقع العربي الإسلامي مثل: لاهوت، أرثوذوكسي وأقانيم….هل هي مجرد تشبيهات واستعارات أم هناك حالة تشابه حقيقية بين المجالين الإسلامي والمسيحي؟ لا يشكل حضور مثل هذه المفاهيم مجرد تشبيهات، بل هي تحاول أن تحيل على الوعي بوجود تماثل (أتجنب كلمة تطابق) بين المجالين الإسلامي والمسيحي. فالسياقات الثقافية قد تكون مختلفة فعلا، والصيرورة التاريخية للمفاهيم أيضا، لكننا نؤمن بوجود تماثل عميق على صعيد البنية العامة للمفاهيم ووظيفتها في بناء التاريخ المعرفي للإسلام والمسيحية، خصوصا فيما يتعلق بسلطة الحقيقة واللغة. مثلا استعمال الأرثوذوكسية أو الأرثوذوكسيات للدلالة على أن ما يسمى مذهب الجماعة والسنة أو مذهب أهل البيت لا يشكل إلا نسخة ممكنة من الإسلام تمت مطابقتها للأسف الشديد بفكرة الطريق القويم من خلال عمليات توليف وتركيب وانتقاء، بل حتى فبركة العشرات من النصوص. بالمعنى نفسه ليست المسيحية الكاثوليكية في نسختها «الجماعية « شيئا مختلفا عن هذا. تهدف الدراسة من خلال هذا الاستعمال المفاهيمي إلى خلق إطار أنثروبولوجي لأشكال التدين يفترض أنه لا سبيل مطلقا للولوج إلى الدين في حد ذاته، بل فقط إلى التدينات أو ما نسميه الإسلامات الممكنة. هذا الاختيار اللغوي محاولة منا لتوجيه القارئ نحو تحول معرفي يتخلص من خلاله من النرجسية الدينية أو العقائدية أو فكرة الخصوصية التي تحول، من جهة، دون تطور حقوق العلوم الإنسانية داخل الدين، وتشكل، من جهة أخرى، عائقا حضاريا أمام تطور المجتمعات الإسلامية. أعتقد بأن فكرة المركزية والخصوصية المطلقة تشكلان مظهرا من مظاهر البؤس الثقافي للفكر الإسلامي التقليدي، وللأسف لا تزال المنظومات الفكرية للحركات الإسلامية تجتر هذه الفكرة السقيمة. لذا، من الضروري التخلص من هذه الانغلاقات اللاهوتية كي نقترح شكلا جديدا من الإسلام الممكن من خلال مقولات الصراطات المستقيمة أو ديمقراطية الخلاص. – هل يمكن تطبيق نفس مسار الإصلاحي الديني الذي عرفته أوروبا في العالم الإسلامي، أي فصل الديني عن السياسي؟ أم هناك مطالب خاصة بالعالم الإسلامي؟ يثير هذا السؤال مرة أخرى مسألة الخصوصية، التي أعتقد أنها تشكل عائقا معرفيا (تشوه المعرفة الدينية)، وكذلك عائقا حضاريا. تجدر الإشارة إلى أنه في السياق الأوروبي يمكن الحديث عن مسارات إصلاحية وليس عن مسار إصلاحي واحد، كما نتحدث عن علمانيات غربية، فهناك مثلا فرق بين المسار الفرنسي والمسار الإنجليزي. هنا يمكن فعلا الحديث عن الخصوصيات. لكن المشترك في مجمل هذه المسارات هو الفصل بين الديني والسياسي، بمعنى تحييد المجال السياسي عن أي تصور عقدي أو ديني. وبالتالي فإن مجمل هذه المسارات كرست الانتقال من مفهوم جماعة أو جماعات المؤمنين المهيمنة (يمكن الكشف عن هذا الوضع في أغلب المجتمعات الإسلامية) إلى جماعة المواطنين. يمكن أن يشكل الفصل بين الدين والسياسة أساس الإسلام الحضاري، الذي يمكن تأصيله داخل النص القرآني: حرية العقيدة، اختيار الدين أو اللادين والإعلان عن الاختيار، وكذا حرية النقد الديني. قد يبدو غريبا كيف أن ما سميته فصلا، وأسميه حيادا، يسمح بإعادة بناء الإسلام الحضاري الذي تم اغتياله عندما تمت المماهاة بين الفقه والشريعة وتمت التضحية بالإسلام القرآني لصالح الإسلام الفقهي الكهنوتي. يجب الوعي بأن قيم حقوق الإنسان ليست فقط قيما وضعية، بل هي أيضا قيم قرآنية. لكن لا يجب أن نعتقد بإمكانية الفصل بين الدين والمجتمع من خلال علمانيات مضادة للدين، فهذا من الناحية الحضارية ليس أمرا محبذا لأن الدين يمكن أن يشكل، إذا تم فهمه مقاصديا وحسب الحداثة الأخلاقية، عاملا أساسيا لضمان الاستمرار القيمي للمجتمعات. أعتقد بأننا يمكن أن نجيب عن هذا السؤال أيضا انطلاقا من راهن الكثير من المجتمعات العربية الإسلامية المهددة بالتفكك، لأسباب تتعلق بالطائفية الدينية أو بالعنف الديني. إن غياب الوعي بخطورة منطقة التماس بين الدين والسياسة يجعل المجتمعات الإسلامية معرضة للهشاشة والقابلية للانفجار الداخلي والاستعمار الجديد. – هل لا يزال الخلط قائما بين مفهوم الدولة العلمانية والدولة المدنية في العالم الإسلامي؟ وهل هناك إمكانية وجود دولة مدنية في الإسلام؟ أعتقد أن البحث عن فصل الدولة المدنية عن «جوهرها» العلماني يكشف عن تهافت معرفي وسياسي، بل حتى أخلاقي، وعن رفض دفين للدخول إلى مجال الحداثة السياسية والدينية بسبب تكلفتها على صعيد ما يمكن أن نسميه «النرجسية الدينية»، التي تشكل جزءا من وعينا ومعرفتنا الدينية التي تأسست عبر قرون وآن الأوان لتفكيكها. أرى أن العقل الإسلامي التقليدي منفصم، ليس بالنظر إلى مقتضيات الحداثة المسماة «غربية»، بل بالنظر إلى الأسس الأخلاقية للنص القرآني نفسه، والذي يؤسس بوضوح للترابط بين الدولة المدنية والدولة العلمانية. لنقم بتحديد مفاهيمي بسيط. يحيل مفهوم الدولة المدنية على معطيين: – فهي نقيض الدولة الدينية أو الثيوقراطية، دولة لا تنبني فيها السياسة على العقائد الدينية، بل على برامج سياسية ومؤسسات وآليات التعاقد والاختيار السياسي (دولة ديمقراطية). بهذا المعنى تتناسق الدولة المدنية ومعنى سلطة الأمة ومبدأ الشورى في الإسلام. – تتأسس الدولة المدنية على فكرة المواطنة أو المساواة في المواطنة، فهي ترفض التمييز بين مواطنيها على أساس الدين، اللغة أو الجنس. بالنسبة للدولة العلمانية، قد تكون مرادفا للدولة المدنية، فهي نقيض دولة الإكليروس أو رجال الدين. لكننا نعتقد أن العلمانية تتأسس أساسا عبر موقف محايد من الدين تضمنُ الدولة العلمانية من خلاله المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم. تحيل علمانية الدولة، إذن، على منظومة من الحقوق، لذا من المهم الخروج من النقاش الفلسفي حول العلمانية إلى التفكير في بعدها الإجرائي، حيث تكون وظيفة الدولة العدل وضمان حقوق ومصالح كل المواطنين. ثمة دول غربية لا تتحدث دساتيرها عن العلمانية، بل تحيل إلى دين رسمي، لكنها تتعهد بضمان هذه الحقوق، فهي، إذن، دول علمانية. تجدر الإشارة هنا إلى أن العلمانيات الغربية تأسست من خلال تطبيقات ومسارات مختلفة. تسمح العلمانية بالحفاظ على السلم المدني من خلال فصل المجال العام عن المعتقدات الدينية واللادينية، أي المجال الخاص، بسبب طبيعتها التصادمية بنيويا. هكذا تضمن العلمانية الحريات وحقوق الإنسان (حق الإيمان أو عدم الإيمان أو حرية الضمير) المكتسبة على أساس المواطنة. يمكن أن نقول إن العلمانية هي أسمى تجليات الدولة المدنية وشرط جوهري لوجودها. من وجهة نظر إسلامية، وما دامت العلمانية لا تتخذ موقفا معاديا من الدين، فهي لا تتناقض مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية. ويمكن اعتبار ضمان الحرية (الدينية) من الضروريات التي يجب حفظها. لذا وجب تحديد العلاقة بين مرجعية الشريعة والمرجعية الدستورية والفهم الأمثل للمرجعية الإسلامية في سياق تعدد الإسلامات والإمكانيات التأويلية المتنامية لمفهوم الشريعة في إطار القراءات المقاصدية. يمكن للعلمانية الإسلامية أن تتأسس من خلال اجتهادات ومراجعات عديدة تهدف التمييز بين إسلامية المعتقد وإسلامية الدولة أو ترى ولاية الأمة على نفسها (بالمواطنة) وأسبقيتها على الدولة التي تصبح في خدمة الأمة في تنوعها الديني أو اللاديني. بطبيعة الحال مثل هذا التصور ينسف أحد أسس الإسلام السياسي، وهو الحاكمية أو المرجعية الإسلامية الوحيدة. لا يصبح الإسلام العقدي جزءا من الدولة الإسلامية التي أساسها الإسلام الحضاري. أعتقد أنه لا يعقل «إسلاميا» أن يكون للدولة مذهب رسمي إذا كان المجتمع متنوعا دينيا أو مذهبيا. تضمن العلمانية المساواة بين الأديان والمذاهب وتحول دون تكريس استبداد الأغلبية الدينية أو منحها امتيازات تشريعية أو مؤسساتية، وبالتالي تضمن المعنى الحقيقي للتعددية الدينية المحاطة بضمانات دستورية. تسمح العلمانية بتحرير الدين من سلطة الدولة، التي يجب أن تتجاوز الحاجة إلى الدين لتأسيس مشروعيتها. يتم تحرير الدولة من سلطة رجال الدين (المسؤولون بطريقة مباشرة عن الإفلاس الحضاري للمجتمعات الإسلامية) والسماح ببروز سلطة فكرية هي سلطة المثقفين المسلمين المتنورين. ماذا تعني مقولة الدولة المدنية المبنية على أساس المرجعية الإسلامية، والتي تم تداولها بكثافة إبان النقاشات السياسية التي أنتجها الربيع العربي. يمكن أن نجيب بتساؤلات؟ عن أية مرجعية إسلامية نتحدث؟ السنية أم الشيعية؟ هل هي المرجعية الفقهية الثابتة أم ما يسمى الشريعة المتحركة (الاجتهادات بشأن حرية العقيدة وحكم الردة)؟ هل يضمن تطبيق الشريعة الفقهية المغلقة مبدأ عدم التمييز بين المواطنين (الحريات الفردية أو القناعات الفكرية الشخصية، الحقوق السياسية مثل حق المرأة أو غير المسلم في تولي منصب رئاسة الدولة أو ما يسمى الإمامة الكبرى)؟. هذه الأسئلة تبين بوضوح استحالة الفصل بين مدنية الدولة وعلمانيتها. – هل ترى بأن التضييق على حرية المعتقد يتم بخلفية سياسية أم بخلفية دينية؟ أعتقد بأن دراسة التاريخ الديني للإسلام أو تاريخ الاضطهاد الفكري منذ البدايات التأسيسية للإسلام يسمح بتأسيس إجابات تمتلك قدرا لا بأس به من الموضوعية. لنتخلص أولا من فكرة التمييز التبسيطي بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام ليس إلا مجموع التأويلات التي تم القيام بها انطلاقا من النصوص التأسيسية (النص القرآني والنص الحديثي)، وبالتالي فالإسلامات أو الإسلام متعددا مسؤول عما يمكن أن نسميه المأزق الحضاري الذي وصل إليه المسلمون. لا يمكن الفصل بين الخلفية السياسية والخلفية الدينية، وذلك أخذا بعين الاعتبار تطابق المصالح بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وهو ما سميته الانغلاق اللاهو-سياسي. لا يمكن إنكار وجود علماء استطاعوا إلى حد كبير الحفاظ على حيادهم تجاه المؤسسات السياسية، لكن آراءهم يمكن استعمالها بسهولة لتبرير مواقف سياسية مستبدة. في أغلب الأحيان يتم التضييق على حرية المعتقد بناء على منظومة قانونية ذات أساس فقهي واضح، وتتم مباركتها بوضوح من طرف المؤسسات الدينية والمرجعيات الدينية حتى المستقلة منها. نذكر مثلا في حالة مصر حكم الردة، المساس بثوابت الأمة أو الإساءة إلى الأديان، أو الأحكام ضد الأقليات الدينية مثل البهائيين أو القرآنيين. كانت مؤسسة الأزهر مسؤولة عن عشرات الأحكام التي قامت بتأصيلها دينيا قبل التنفيذ السياسي، الذي من خلاله يتم البحث عن مشروعية دينية لنظام سياسي فاشل. من جهتها، تبحث المؤسسات الدينية عن مشروعيتها من خلال سلطة المنع ما دام المستوى الفكري لأغلب الشعوب الإسلامية لم يبلغ بعد مستوى سلطة الحرية أو مستوى مجتمع الرشد، وهو ما أسميه مجتمع «لا إكراه في الدين». لهذا يجب تحرير الدين من السياسة، والسياسة من الدين من خلال تحييد السياسة عن كل انتماء ديني والقيام بعملية إصلاح عميقة للمؤسسات الدينية وملاءمتها مع المواثيق الكونية لحقوق الإنسان. هذا هو شرط نشأة الإسلام الحضاري، الذي سيضع حدا لما أسميه «الإسلام المضاد للإسلام»، الذي يرفض الحرية المؤسسة للبنية التكوينية للإنسان ويكرس الطاغوت أو عبادة البشر، الفقهاء والأئمة. – في محاضرة الدكتور عزمي بشارة عن الحرية في المؤتمر، اعتبر بأن الإنسان لا يولد حرا، وبأنه لا توجد حرية طبيعية. ما رأيك؟ أعتقد أنه يجب التمييز بين مجال الطبيعة المحكوم بقانون الحتمية من جهة، ومجال الإنسان أو الثقافة الذي يتأسس من خلال الوعي والإرادة من جهة أخرى. لذا، الحرية ورديفتها المسؤولية هي أسمى تجليات تطور المجتمعات ورقيها. الكثير من المجتمعات الإسلامية لم تخرج بعد من مرحلة السلطة الأبوية الشاملة، فهي تجسيد للمجتمعات «الطبيعية» ما قبل الحداثة. هذه المجتمعات لا تزال أسيرة الفهم التبسيطي للحرية، حيث إن الإنسان الحر هو الإنسان الذي لم يولد عبدا. لذا، يرى عزمي بشارة أن «الحرية ليست أنطولوجية ولا كوزمولوجية، فهي في الوعي والممارسة الإنسانية وليست في الكون». كما أن الحرية قيمة تتأسس من خلال الممارسة، وليست مفهوما أو جوهرا. لذا، وجب على الباحثين والمفكرين العرب أن ينكبوا على «مسائل الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية». في السياق الحالي تجدر الإشارة إلى مركزية قيمة الحرية بصفتها براكسيسا مستمرا. وعليه، فإن «التحرر من الطغيان من دون تأسيس للحريات ونظام يحمي هذه الحريات، قد ينشئ لطغيان جديد» (عزمي بشارة). لا شك أن قيمة الحرية تتأسس من خلال العلاقة الجدلية بين الوعي بالحرية وممارسة هذه الحرية.