باحجي يستقيل من رئاسة جماعة مكناس    سجن العرجات يوضح بشأن " قلب زيان"‬    رصاصة شرطي توقف جانحا خطيرا    البوليزاريو: لا صفة له للتفاوض مع السوق الأوروبية المشتركة    المكتب الوطني المغربي للسياحة يطلق حملته الترويجية الثانية "نتلاقاو فبلادنا"    قيس سعيّد رئيسا لعهدة ثانية ب 90.69%    وليد الركراكي يستدعي بالعامري لتعويض غياب مزراوي    الداكي: رئاسة النيابة العامة حريصة على جعل حماية حقوق الإنسان ومكافحة التعذيب أولى أولويات السياسة الجنائية    لوديي وبريظ يستقبلان وفد مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يقوم بزيارة للمملكة    توقعات احوال الطقس ليوم الثلاثاء.. أمطار وانخفاض في درجة الحرارة    مديرية الأمن وبنك المغرب يعززان التعاون    الرجاء والجيش الملكي في مجموعة واحدة بدوري أبطال إفريقيا    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء        "سباق ضد الزمن" .. هل تستطيع إيران إنتاج سلاح نووي في أقل من أسبوع؟    النقيب الجامعي يوجه رسالة مفتوحة لعزيز أخنوش.. إلى أين تسيرون بالمغرب وبالمغاربة؟    النادي السينمائي لسيدي عثمان ينظم مهرجانه ال10 بالبيضاء    مجموعة "لابس" تتحدى الهجوم الجزائري وتغني في المغرب    مهنيو النقل الدولي للبضائع يستنكرون توقيف الحكومة لدعم الغازوال    زهير زائر يعرض "زائر واحد زائر مشكل" بالدار البيضاء ومدن أخرى        "القسام": طوفان الأقصى ضربة استباقية وندعو لأكبر تضامن مع فلسطين    إحباط محاولة للهجرة السرية نفذها حوالي 60 شخصا    حموشي يمنح ترقية استثنائية لشرطي فقد حياته بين طنجة والفنيدق    المنتدى العربي للفكر في دورته 11    المغرب يحتضن النسخة الأولى لمؤتمر الحوسبة السحابية    السلطات المغربية تعتقل مجرما خطيرا فر من السجن بإحدى الدول الأوروبية    بركان تتعرف على منافسي "كأس الكاف"    افتتاح السنة التشريعية حدث دستوري وسياسي واجتماعي واقتصادي بدلالات وأبعاد وطنية ودولية    اغتيال حسن نصر الله.. قراءة في التوقيت و التصعيد و التداعيات    أهمية التشخيص المبكر لفشل أو قصور وظيفة القلب    جائزة نوبل للطب تختار عالمين أمريكيين هذه السنة    ريال مدريد يعلن إصابة داني كارفاخال بتمزق الرباط الصليبي الأمامي وعدة إصابات خطيرة أخرى    جائزة كتارا تختار الروائي المغربي التهامي الوزاني شخصية العام    أرباب المخابز يحتجون على عشوائية القطاع وتدهور وغياب الدعم المالي    جهة سوس تسجل أعلى معدل بطالة على المستوى الوطني    بطولة احترافية بمدرجات خاوية!    الدحاوي تمنح المغرب الذهب ببطولة العالم للتايكوندو للشبان في كوريا الجنوبية    منتخب "U17" يواجه السعودية استعدادا لدوري اتحاد شمال إفريقيا    كتائب القسام تقصف إسرائيل تزامنا مع ذكرى "طوفان الأقصى"    تعريف بمشاريع المغرب في مجال الطاقة المتجددة ضمن أسبوع القاهرة للطاقة المستدامة2024    "حزب الله": لا بد من إزالة إسرائيل    فيلم "جوكر: فولي آ دو" يتصدر الإيرادات بأميركا الشمالية    حماس تعلن إطلاق صواريخ من غزة باتجاه إسرائيل تزامنا مع إحياء ذكرى 7 أكتوبر    في لبنان مصير العام الدراسي معلق على وقع الحرب وأزمة النازحين    بنحدو يصدر ديوانا في شعر الملحون    انطلاق منافسات الدورة ال25 لرالي المغرب    رواندا تطلق حملة تطعيم واسعة ضد فيروس "ماربورغ" القاتل    إسرائيل ربحت معارك عديدة.. وهي في طورها أن تخسر الحرب..    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)    دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يتهيب الروائيون العرب الكتابة عن الدكتاتور؟
نشر في المساء يوم 30 - 12 - 2015


عبدالله عرقوب
في ندوة نظمت بالقاهرة صيف2011 حول «الرواية المصرية الآن» قال محمد بدوي، رئيس تحرير مجلة «فصول» النقدية، إن الوقت قد حان كي يكتب الروائيون العرب عن شخصية الديكتاتور. محمد بدوي لاحظ أنه لا توجد حتى الآن رواية كبيرة عن الديكتاتور العربي، وتساءل عما يمكن أن يكتبه الروائيون العرب، مثلا، عن بشار الأسد أو معمر القذافي. انفضت الندوة، وبقي السؤال معلقا (وربما نسيه البدوي إثر التحولات الكابوسية التي عرفتها مصر ودول أخرى شهدت الثورة) حتى حدود صيف هاته السنة حين نشرت دار النشر الباريسية جوليار رواية عن معمر القذافي بعنوان «الليلة الأخيرة للريس» la dernière nuit du raïs . كان كاتب الرواية عربيا كما كان يأمل البدوي، لكنه كان ينتمي إلى الفضاء الفرنكفوني. تحكي الرواية التي كتبها الروائي الجزائري محمد مولسهول، أو ياسمينة خضرا كما اعتاد أن يوقع رواياته، وقائع آخر ليلة للقذافي (20-19 أكتوبر2011) حين كان مختبئا في إحدى مدارس مدينة سرت الليبية، مع ما تبقى من رجاله، في انتظار دعم ابنه المعتصم. في هاته الليلة سيسترجع القذافي، الشخصية الرئيسة في الرواية والسارد في الآن نفسه، تفاصيل من حياته الماضية عبر اعتماد تقنية المونولوغ، قبل أن يسقط في الأخير في قبضة الثوار ويغتالوه. ما يهم في الرواية أساسا هو هاته المغامرة التي أقدم عليها ياسمينة خضرا، والتي ظلت، ربما، تناوش عددا من الروائيين العرب دون أن يجترئوا على خوضها، أقصد اقتراف فعل الكتابة عن القذافي، بما أنه يشكل صورة عن الزعيم والحاكم العربي المستبد في أعمق وأقسى تجلياتها، وإن كان السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل استطاعت رواية ياسمينة خضرا أن تشكل فعلا إضافة نوعية في «رواية الديكتاتور»، بما أن تيمتها الرئيسة تمتح من هذا الشكل الأدبي الذي اشتهرت به الكتابة الروائية في أمريكا اللاتينية، وبما أن الشخصية التي اشتغلت عليها شخصية إشكالية، مسكونة بجنون العظمة وتجتمع فيها كل مواصفات الديكتاتور؟
في قراءته ل«الليلة الأخيرة للريس» سيلاحظ عبده وازن أنها كانت بعيدة عن أن تحقق «رواية الديكتاتور». كان السؤال الذي طرحه عبده وازن، والذي قد يتبادر إلى ذهن أي قارئ عربي يطالع هاته الرواية هو: «هل كتب ياسمينة خضرا رواية الديكتاتور العربي الذي يدعى القذافي؟»، فكان رده: «الجواب يتراوح بين نعم ولا. رواية جميلة، خفيفة (…) لكنها أضعف من أن تنضم إلى ما يسمى «رواية الديكتاتور» كما تجلت في أعمال ماركيز ويوسا وأستورياس وكاربنتيير». ياسمينة بنخضرا نفسه سيعترف، حين سؤاله عما إن كانت «الليلة الأخيرة للريس» تنتمي إلى «رواية الديكتاتور»، بأن روايته أقرب إلى المنظور الشكسبيري في «الملك لير».
ما ذكره عبده وازن بخصوص رواية ياسمينة خضرا، وما تحدث عنه محمد بدوي آنفا، وكتاب آخرون بخصوص غياب روايات كبرى عن الديكتاتور العربي يطرح سؤالا عريضا حول هذا الغياب شبه الكلي لمثل هاته الروايات في الأدب العربي، وحضورها بشكل ملفت في الأدب الأمرولاتيني، وكذا تأخر الروائيين العرب في الاشتغال على شخصية الديكتاتور مقارنة بالاهتمام المبكر لروائيي أمريكا اللاتينية، رغم أن العالمين كانا يرزحان سوية تحت ثقل الأنظمة التوتاليتارية. لماذا، إذن، تجرأ روائيو أمريكا اللاتينية على ديكتاتورييهم، وتهيب الروائيون العرب؟ هل المشكل في القدرة على التوغل في عمق سيكولوجية الديكتاتور العربي وتفكيك شخصيته؟ أم مرتبط أساسا بهامش الحرية وبتضخم فعل الرقابة، سواء كانت ذاتية أو مؤسساتية؟ أم هناك أسباب أخرى قد تفسر هذا الحضور الهش والمحتشم ل«رواية الديكتاتور» في الأدب العربي؟
طيلة قرن من الزمن، هو عمر الرواية العربية الحديثة تقريبا، يصعب العثور على نظائر ل«السيد الرئيس» لميغيل أنخيل أستورياس، أو «الأنا الأعلى» لأوغستو باستوس، أو «حفلة التيس» لماريو بارغاس يوسا، أو «أسباب الدولة» لأليخو كاربنتيير، أو «خريف البطريك» لغابرييل غارسيا ماركيز…، رغم أن هناك نظائر عربية لديكتاتوريي أمريكا اللاتينية. هناك فعلا نصوص روائية عربية استطاعت أن تلامس عن قرب شخصية الديكتاتور («الزعيم يحلق رأسه» لإدريس علي، «عالم صدام حسين» لمهدي حيدر…)، لكنها تبقى قليلة مقارنة بالكم الهائل من الروايات المنشورة، التي يكتفي الكثير من مؤلفيها بالكتابة عن التجليات غير المباشرة للاستبداد. وربما لا يزال الروائيون العرب يفضلون الكتابة عن شخصية العمدة أو الشرطي أو الجلاد، الذين هم مجرد موظفين بسطاء في مؤسسة الاستبداد، بدل الكتابة عن رأس الاستبداد، الذي هو الزعيم أو الديكتاتور العربي.
الاختلاف الوحشي والاختلاف اللفظي
أحمد بلخيري
الاختلاف الوحشي مصطلح من وضع عبد الكبير الخطيبي. وقد حدده في كتابه «النقد المزدوج» على النحو التالي: «لنسم «الاختلاف الوحشي» بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر في خارج مطلق. الاختلاف الوحشي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية… كانت هذه الدعوة إلى الاختلاف الوحشي )الوحشي والساذج( السخط الذي لم نتأمله، في مرحلة زوال الاستعمار، ويظل نقدها الغرب أسير العداوة وأسير هيجلية منحطة. وما نزال نتساءل: ما الغرب المعني؟ ما الغرب الذي نعارضه بنا، فينا نحن؟ ومن نحن؟». الواو الموجود في الثقافوية، التاريخوية، القوموية دال لغوي يدل على اختلاف أساسي وجذري. ذلك أن الكلمات التي يوجد فيها هذا الواو، بالإضافة إلى التزمتية الوطنية وكذلك العرقية… أدرجها الكاتب كلها ضمن الهويات، بصيغة الجمع، التي وصفها بالمجنونة، والتي تقود حتما إلى الضلال، حسب رأيه. هو إذن يختلف مع هذه الهويات. ذلك أنه إذا كانت هذه الهويات مقترنة بالتزمت في علاقتها بالغرب، الذي نعتبره عدوا، فإن علاقة الكاتب بالغرب ليست كذلك. هناك، إذن، تزمت وانغلاق يقابلهما انفتاح. هذا التقابل والتضاد في النظر إلى الغرب هما اللذان أديا إلى وضع مصطلح «الاختلاف الوحشي»، الذي ينطوي في حد ذاته على موقف من تلك الهويات. المصطلح، إذن، يدل على اختلاف فكري جذري.
في إطار هذا الاختلاف الجذري ميز بين التراثوية والتراث. وهو ينتقد ويختلف مع التراثوية وليس مع التراث. التراثوية معاصرة لنا، أما التراث فكان في الماضي. لذا فهو ينتقد طريقة نظر التراثوية إلى التراث، وكذلك طريقة نظر السلفية إليه. بسبب هذا الاختلاف في النظر إلى التراث من جهة، والغرب من جهة أخرى، وصف تلك الهوية بالعمياء. إنه العمى الفكري الذي كان سببا فيه التزمت والانغلاق. هذا الاختلاف الوحشي، عند عبد الكبير الخطيبي، مرتبط بالهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية. وقد لاحظ عبد الكبير الخطيبي أن هذه الهوية الأصلية «قد تصدعت وتمزقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية». وهي «مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتح على العالم». هي إذن مجبرة أو مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية من لدن عدوها: الغرب. هذا دليل انهزام فكري. لكن عبد الكبير الخطيبي لا ينتقد الهوية الأصلية ويختلف معها انتصارا للغرب. دليل ذلك هو مفهوم «النقد المزدوج» الذي «ينصب علينا كما ينصب على الغرب». من هنا كانت ازدواجية هذا النقد. وعلى هذا الأساس، ليس العرب مجبرين على اتباع مسيرة الغرب والمراحل التاريخية التي قطعها. فنحن العرب «لسنا ملزمين باتباع مسيرة الغرب ذاتها، بأن نجتاز من جديد المراحل التي اجتازها الغرب». هنا يختلف عبد الكبير الخطيبي مع عبد الله العروي وينتقد تاريخانية هذا الأخير.
هذا عن مفهوم الاختلاف الوحشي الذي استُعمل في سياق سجال فكري إيديولوجي مرتبط بسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. فما المقصود بالاختلاف اللفظي؟.
يستفاد مما سبق أن مفهوم الاختلاف الوحشي تمخض عن السجال الفكري وتباين التصورات الفكرية. وكان المقصود به هو التيار الفكري السلفي بشكل عام. أما مفهوم الاختلاف اللفظي فله سياق آخر مغاير تماما. ذُكر «الاختلاف اللفظي» في مقدمة كتاب «الوجه والقناع في المسرح» المخصص للكشف عن الانتحال. السبب المباشر الذي أدى إلى ذكر الاختلاف اللفظي هو محاولة تبرير الكشف عن الانتحال بالاختلاف من لدن المنتحل. عندئذ كان هذا التأكيد في مقدمة الكتاب المشار إليه آنفا. إذ «لا يجوز اعتبار فضح الانتحال من باب الاختلاف، فهذا الأخير صنو الاجتهاد». بعد نشر ذلك الكتاب نُشر كتاب آخر عنوانه «نحو تحليل دراماتورجي». في الفصل الأول من هذا الكتاب، وهو مكون من فصلين، تم الكشف عن إقدام البعض على نسبة نصوص نقدية إلى غير كتابها الحقيقيين. نُسبت إلى المترجم، رغم أن هذا الأخير أشار إلى أنه مترجم. كانت الغاية من هذا الفصل، إذن، هي التدقيق في النسبة، لأنه لا يجوز في البحث العلمي، عموما، نسبة نصوص إلى غير كُتابها.
بعد هذا الكتاب، أبديت ملحوظات عن عدم التفات أحد الباحثين المغاربة في مجال المسرح، في أحد حواراتي، إلى شراح أرسطو العرب القدماء، ومنهم ابن رشد، وتركيزه على مصطلحين اثنين فقط وإغفال المصطلحات الأخرى الموجودة في شروحات أولئك الشراح، علما بأنه لا توجد في كتابه المقصود أي إشارة إلى أولئك الشراح، وإنما اكتفى بترديد رأي معروف اعتمادا على محمد عزيزة مؤلف كتاب «الإسلام والمسرح». في الحوار نفسه كانت الإشادة بكتابي هذا الباحث والإشارة إلى إنصافه للأبحاث (الإثنوغرافية الاستعمارية التي أقر بأنها كانت سباقة إلى دراسة أشكال فرجوية تقليدية مغربية، ومنها «الحلقة» و»مسرح البساط» و»سلطان الطلبة»). وقد كنت مضطرا إلى تحديد مفهومي النحل والانتحال. وأضفت إليهما مصطلحا جديدا هو الاستنحال الذي تم تحديده هو أيضا. تحديد هذه المفاهيم الثلاثة كان في الكتاب المشار إليه سابقا «سيميائيات المسرح». ثم نُشرت مقالة لي عنوانها «من مترجم إلى دارس»، التي تم فيها الكشف، اعتمادا على الوثائق،على تحول المترجم إلى دارس فيما يخص الموضوع المقصود. كل الأسماء التي كان التلميح إليها من خلال كتاباتها هنا تَستعمل في خطابها النظري مفهومي الحداثة والاختلاف. لكن حينما يقوم المحلل بقراءة كتاباتهم النقدية والبحثية قراءة موضوعية، قوامها الحجة النصية وليس سواها، ويتوصل إلى نتائج تخالف الصورة التي يحملونها عن أنفسهم، يتبدد عندهم مفهوما الاختلاف والحداثة ويتلاشيان. فيطل برأسه التفكير التقليدي العتيق، رغم الأدلة والحجج النصية!. في هذه الحالة تكون الصورة التي تحملها الذات عن نفسها فوق الحداثة وفوق الاختلاف. وبهذا يغدو استعمال هذين المفهومين نظريا من قبيل اللغو والحشو اللغوي، بعد أن أُفرغ المفهومان من مضمونيهما. وبهذا تكون الممارسة قد كشفت حقيقة الادعاء النظري عند هؤلاء. وبسبب هذا التناقض بين استعمال مفهوم الاختلاف على المستوى النظري، وعدم تقبل نتائجه على المستوى العملي، ينوب السلوك الانفعالي عن الرد المقنِع المعتمد على الأدلة النصية. السلوك الانفعالي ليس غير دال، بل هو دال دلالة بليغة لأنه يكشف حالة نفسية أو حالات نفسية. وهو تعويض نفسي يعوض الكتابة أمام العجز عن الرد والتصحيح والتصويب، إن كان هناك ما يدعو إلى التصحيح والتصويب. هكذا يتحول مفهوم الاختلاف الخلاق عند هؤلاء إلى اختلاف لفظي للاستهلاك، وليس مفهوما بانيا للمعرفة ومطورا للعلم. إن مفهوم الاختلاف الوحشي في مجمله استُعمل في سياق صراع إيديولوجي بين تصورين فكريين مختلفين اختلافا جذريا تعكسه صفة «الوحشي». أما الاختلاف اللفظي فاستُعمل في سياق يوحي بوجود دفاع نفسي عن الخطأ وليس عن الاختلاف الحقيقي. وشتان ما بين السياقين والاختلافين. سياق أساسه جدل وصراع التصورات والأفكار، وسياق يتم فيه الرد عن الكشف عن الخطأ بآليات الدفاع النفسي، ومنها السلوك الانفعالي، والاغتياب الذي ليس هو سلاح الأقوياء. وليته كان ردا من جنس الفعل: الكتابة.
فخ الحداثة في الفنون التشكيلية العربية
الأنستليشن والفن المفهومي نموذجا
ابراهيم الحيسن
لا يزال العديد من التشكيليين العرب ممن انخرطوا في الحداثة الفنية (وما بعدها) عاجزين عن تخطي ما تنتجه المحترفات والمشاغل الأوروبية من تقنيات وأساليب تعبيرية حديثة ومعاصرة. وبالنتيجة، فقد تحوّل المنجز التشكيلي العربي المعاصر إلى فن عبثي ومبتذل ذي مراجع ممزقة، وإلى منتوج مغلف بالخوف والتردّد وعدم الثقة في النفس، مع وجود استثناءات إبداعية قليلة. الفنان التشكيلي العربي لم يسلم انخراطه في الحداثة الفنية من زوغان وتعثر، ولم يبرهن بعد عن قدرة إبداعية مقنِعَة قادرة على إنتاج تشكيل معاصر بإمكانه قلب المعنى وابتكار آليات جديدة لتدمير ذاكرة اللوحة والمطبوعة بمفهومهما الكلاسيكي. وباستثناء تجارب عربية معدودة، فإن السواد الأعظم لدينا من (الفنانين) ينتجون أعمالاً سطحية خالية من أي عمق. معظم تشكيليينا وجودهم مثل عدمه، مشكلتهم تكمن في عدم قدرتهم على استيعاب ما يجري في محيطهم من تغييرات فنية وجمالية متسارعة، كما قال أحد النقاد العرب. وعلى الرَّغم من محاولات التجديد والتحديث، فقد ظل المنجز التشكيلي في الوطن العربي مقيَّداً بصورة متعسفة إلى الأداء التشكيلي في الغرب، لأسباب تتصل بالوضع الثقافي والإبداعي العربي العام، ولأسباب أخرى تتعلق بضعف الدرس الجمالي في مؤسسات تعليم الفنون.
على ضوء ذلك، أضحى الفنان التشكيلي العربي تائهاً ومشدوداً نحو البحث عن منافذ «سهلة» لولوج العالمية من أوسع الأبواب بالقفز على المراحل وحرقها دون تحقيق تراكمات إبداعية كفيلة بمنحه هذه الإمكانية وانتزاع الشرعية الدولية.. ولهذا اعتبرت هذه الورقة مقاربة أولية لأعمال بعض التشكيليين العرب، الذين اختاروا الأنستليشن والمفاهيمية Conceptualisme مجالين للإبداع مع ما يرافق ذلك من شروط إبداعية معقدة أرسى دعائمها الوعي الجمالي الأوروبي والأمريكي منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. ومن الأمثلة الفنية العالمية المعاصرة على ذلك نذكر أعمال الفنان والكنر الذي نال إحدى جوائز تورنر Turner عن عمل فني عبارة عن يافطات حملها متظاهرون بريطانيون ندَّدوا طويلا بغزو العراق، ثم الأداء الحي لهوغو بال H. Ball (1916) والعروض الشبقية لفرانك ودكند F. Wedekind (ميونيخ، 1950) الذي يظهر أسنانه ولسانه استهزاءً وتهكُّماً على الواقع. وفي التجربة الفنية العربية نذكر أسِرّة الفنانة الفلسطينية منى حاطوم، التي لا تصلح للنوم، أبرزها «سرير المبرشة» Grater Bed (2008) المثير للرعب رغم أنه جميل الصنع، لذلك لا أحد يرغب في الاستلقاء عليه، بخلاف سرير الفنانة التركية البريطانية تريسي إمين Tracey Emin، التي نالت بواسطته جائزة تورنر لعام 1999 بعد أن أحضرته كما هو إلى المتحف معبأً بوقائع ليلة ساخنة. عقب مرحلة إبداعية استغرقت سنوات في إنجاز لوحات تشبيهية، شرعت الفنانة منى حاطوم في إنجاز أعمال فنية في الأداء والإنشاء والفيديو آرت، وبدأت منذ التسعينيات في إبداع أعمال تركيبية ضخمة ومنحوتات تحول المألوف إلى قلق تروم الفنانة من ورائها إثارة مشاعر التقزز والاشمئزاز والخوف والانبهار لدى المشاهد. وهنا يكمن عمق فنها.
كما يمكن أن نستحضر أيضاً أعمال الفنان السعودي فيصل السمرة، فنان مفاهيمي اهتم بالبعد الثالث، وبموضوع الفراغ والامتلاء وعلاقات الأشكال بظلها وبالمادة وبالعناصر الأساسية: الهواء، الضوء، النار والأرض. وغالبا ما تكون أشكاله صورا حية مشتقة ومثيرة مصنوعة من مواد عدة كالخشب، والأنسجة المعدنية، والقماش، والزجاج الصناعي، والأسلاك، والحديد، والبلاستيك، والطين، والريش، والجلد، والرمال وألوان الطبيعة. من جيل الفنانين الشباب بالسعودية يُمكن ذكر تجربة الفنان أحمد ماطر من خلال إنجازه أعمالا فنية ذات حمولة دينية. أضف إلى ذلك الفنان المصري أحمد نوار، الذي أنشأ مقبرة في ركن من حديقة الفن بالزمالك ترمز إلى شهداء فلسطين، ترتفع من وسطها أياد تشير أصابعها إلى علامة النصر. ثم مواطنه الفنان أكرم زعتري، الذي يعد واحداً من أهم الفنانين المعاصرين المرموقين في العالم العربي في الوقت الراهن، وهو أحد مؤسسي المؤسسة العربية للصورة. فهو يعتمد في تشكيله على التجريب والبحث وإعادة الإنتاج من النبش في التراث البصري الذي يعود إلى منتصف القرن الماضي. من بين الفنانين التشكيليين العرب الآخرين، نذكر الفنان الإماراتي شريف حسن، الذي انفتحت تجربته على أعمال الفنان البريطاني كينيث مارتن (1905/1984) الذي أرسى دعائم الحركة البنائية في الفن ببلاده، والذي كان لأعماله الأثر البالغ على بداية المسار الجمالي لشريف حسن، حيث بدأ ميله واضحا نحو الاشتغال على نتائج الصدفة والعفوية وتدبير الفضاء وابتكار عناصر جديدة لتوليد الأشكال والأفكار.. بينما من المغرب نذكر أعمال الفنان المغربي محمد القاسمي، الذي سبق له أن نصب عدَّة أعمال وتجهيزات وإرساءات تشكيلية سنة 1985 بشاطىء الهرهورة تماماً كما فعل من قبل مجموعة من الفنانين في جنوب فرنسا، الذين أقاموا سنة 1970 تظاهرات فنية في الهواء الطلق، ووضعوا على الشواطئ والقرى قماشات من دون إطارات، ونصبوا أعلاماً ملوَّنة كردِّ فعل ضِدَّ طغيان التمركز الفني في باريس. والعديد من أعمالهم التي قوبلت آنذاك بالرفض توجد الآن بمتاحف مشهورة، أهمها متحف الفن الحديث في باريس تحت عنوان: «حوامل وسطوح»، وأبرزهم لوي كان، برنار باجيه، مارك ديفاد، توني غران..وآخرون. كما عرض القاسمي بساحة جامع لفنا، فضلا عن معرضه «مغارات الأزمنة الآتية»، الذي أقامه سنة 1993 بالمعهد الثقافي الفرنسي بالرباط، وقد ضم إرساءات تشكيلية مكونة من تلفزات قديمة وعلب وقارورات وآلات موسيقية عتيقة، إلى جانب الكتب والمجلات والمصابيح الغازية والحواسيب والتلفزات المشتغلة وعدة أدوات إلكترونية مستعملة قام بتجميعها بشكل توليفي غريب يذكرنا ببعض أعمال وتجارب الواقعيين الجدد (طاكيس، أرمان مثلا(. كما سبق للقاسمي أيضا أن عرض تنصيبات فنية تعبيرية برواق باب الرواح قبل توجهه إلى مصر للمشاركة في بيينالي القاهرة الدولي في دورته الخامسة 1994، وقد فاز بجائزته الأولى. والواقع أن المغامرة التي ركبها القاسمي كانت مسبوقة بتجارب مماثلة عديدة قام عليها الفيديو الإنشائي، وعلى الخصوص بعض أعمال الفنان الكوري نايم جون بايك N. Jun Paik، الذي أقام معرضاً مهمّاً سنة 1963 برواق بارناس Parnass (Wuppertal) حشد فيه عدداً هائلاً من التلفزات والشاشات المتراصة التي ترسل صوراً مختلفة ومشوّهة، وفق أسلوب فني يقوم على الالتزام بإشراك المتلقي في العملية الإبداعية والمشاهدة والإثارة، ولو بطريقة لا إرادية عن طريق فخاخ كاميرا المراقبة، كما هو الشأن لدى الفنان الألماني دييتر فروسيز Dieter Frosese (1937)، ولاسيما عمله المنجز سنة 1987 والموسوم ب Nota model for big Brother's soy cycle.. أما الفنان فريد بلكاهية، فقد أنجز تنصيبات بواسطة الصفائح المعدنية والنحاس الأحمر المطروق والمنقوش، مع وجود ملاحظة أساسية هي أن جل قطعه الفنية اتسمت بطابع إيروسي شبه مباشر يتمثل في الاشتغال على الرموز الجنسية والأجساد الأنثوية، فأعماله قدمت الجسد في صور مختزلة ذات أبعاد جنسية. نضيف إلى ذلك تجربة الفنان منير الفاطمي، الذي تسجل سنة 1997 قطيعته النهائية مع التصوير، إذ سينخرط بشكل مباشر في إنتاج قطع فنية جديدة تعتمد الاستعمال العضوي للجسد. كما حقق عملاً ناجحاً بعنوان «التبادل الحر» انتقد من خلاله الليبرالية، متسائلا حول الهوية والذات. في الفترة نفسها، أنجز فيديو إنشائي بعنوان «الآخر هو الآخر» يظهر (هذا الآخر) ببعض اختلافاته وتناقضاته. أما في عام 2002، فقد أنجز الفنان الفاطمي فيديو أطلق عليه اسم «الاتصال الهش» أشار من خلاله إلى اندثار الأشياء التي تتحد وتنصهر مع بعضها البعض. غير أن خاصية جديرة بالإشارة أمست تسم التجربة الفنية لدى الفنان الفاطمي، لاسيما على مستوى السنائد التعبيرية، هي ارتباطه منذ عام 1998 بالكابل الكهربائي الأبيض الذي يستعمل عادة لربط الهوائي بالتلفاز، إذ صار مادته الأولى للتشكيل والتعبير الفني. ونظرا لجل هذه المعطيات يظهر بأن الممارسة التشكيلية الحديثة والمعاصرة في البلاد العربية عموماً ظلت عاجزة عن تمتين العلاقة الإبداعية والجمالية مع الدعامات الرئيسة المؤسسة للفن الحديث والمعاصر، الأمر الذي حوَّل جزءاً يسيراً من منجزنا التشكيلي إلى فن هش فاقد للخبرة البصرية.
عودة آدم
شعر: عبد الرحيم الخصار
أنا آدم
أول رجل على هذه الأرض
كان بمكنتي أن أبقى هناك
لكن يدي طالت شرك التفاح
ليست ريحا تلك التي عصفت بالأشجار حين نزلتُ
إنها أنفاسي
أنفاس رجل شلّ الندمُ قدميه.
هذه المياه أُريدَ لها أن تمر في الأراضي الأخرى
هذه المناديل لم تكن لتجفف شجن أحد
أما يدي التي ظننتُ أنها غصن في جسدي
فقد صارت غصنا في جسد آخر.
لا زالت رائحة التراب في أنفي
الحسرة أهرشها ما بين الساعد والكتف
أما عيناي فيسيل منهما حنيني إلى الملائكة.
كان الغبار كثيفا
فلم أتبين موطئ أفكاري
رأسي يضج بالكلمات التي طفقت حواسي تتلمس لها المعنى
و ما من شيء على الأرض لأشبه به هذا التيهان
لم يكن لي صديق أو نديم بعد
صادقت التراب والحجر
جربت أن أحلق مثل طائر أو أجدف مثل سمكة
فلم تسعفني ذراعاي.
لم أضع يدا في كهف
ولا قدما في غدير
لم أراوح ظل هذه الصخرة
رفعت عينيّ إلى الشمس
فعرفت أن تعاقب الليل والنهار
هو سر المحن
ستمر القرون تباعا
سيحرث أحفادي هذه الأرض
وسيجنون نهاية كل صيف
غلالا من التعب.
أسندتُ منكبي لجذع شجرة
وجلست أصغي للريح
ماذا تقول هذه السيدة التي سبقتني إلى الأرض؟
في نحيبها سمعت نحيب الآخرين
وتعالت أصوات كثيرة بداخلي :
بكاء طفل بلا بيت بلا سرير
ندم كهل تخلى عنه الحظ
صراخ عبد يسوطه عبد آخر
أنين يد تتوسل ليد تصدّ
خفق جناح أثقلته التعاسة
نواح ناي بين شفتين حائرتين
خرير ماء يمر في قلب رجل مخذول
عويل نساء وأنا لا أعرف السبب.
أغمضت عيني
فمرقت الريح بنحيبها
ومن غصن في الشجرة
سقطت دمعة كبيرة على الأرض.
قلت للطائر الذي حط على مقربة مني:
«إن الشفاه التي تبتسم في النهار
تتحسر في الليل
إن اليد التي تغدو موجا حين تلامس اليد الأخرى
تتخشب حين تغيب
إن الدمعة التي أسالها الفرح
هي الدمعة التي سيسيلها الحداد».
الصحراء والكتابة
محمد رمصيص
تلتقي الكتابة بالصحراء في كونهما معا مجالين شاسعين يصعب ارتيادهما دون دليل.. فدخولهما كالخروج إلى رحلة صيد إن لم تتوفر لك العدة اللازمة قد تجد هلاكك في أول منعطف.. يتشابهان في القسوة والتمنع والهبة والبهاء. فقسوة المكان توازيها برودة بياض الورقة وحياديتها القاتلة. لكن بالإلحاح على رفقتهما والإصرار على معاشرتهما تصير الكتابة ملاذا والصحراء مأوى للتأمل والإنتاج الرمزي، تماما كما الكتابة فسحة لغوية مخصوصة وموطن نوعي لاستضافة الذات. فإذا كانت الصحراء تتوفق غالبا في إسقاط الأقنعة ومواجهة الذات دون رياء، فإن الكتابة تعوض الكاتب بعضا من خسارته الفادحة. لكنها قد تتحول هي نفسها إلى وهم جميل وملتبس تماما كما الصحراء المستدعية للاستكشاف باعتبارها مكانا مركبا يجمع بين الشيء ونقيضه.. الصحراء مكان للثبات والتحول. إذ الكثبان الرملية التي تبيت هنا تصبح هناك. الصحراء هي كذلك مكان لندرة الماء ووفرة الضوء.هي عالم تنعدم فيه الحواجز بين الأرض والسماء.عالم الوضوح التام والغموض الكاسح.غموض طبيعتها الجامعة بين قيظ النهار وبرودة الليل..الصحراء مكان للتيه والمغامرة وفضاء للتصالح مع الذات..مكان يجمع بين عري الامتداد وغموض الأفق. لكل هذه الاعتبارات، ليست الصحراء مكانا محايدا.هي فضاء ناطق برموزه وإيحاءاته الخاصة. مجال أنتج فعل الترحال كنمط عيش. فعل تخلقت عنه قيم الفروسية والجرأة والإقدام، علما أنه مع الترحال قل التوثيق وتم تفعيل الذاكرة والاحتكام للمعرفة النفعية كالاهتداء بالنجوم والمعطيات الفلكية قصد التوصل إلى الماء والواحات حيث ثبت أن هناك من عشاق الصحراء من وصلوا إلى حد معرفة وجهة الماء من خلال شم حفنة من التراب ولونه. غير أن فعل الترحال كنمط عيش يطرح علينا الآن أكثر من سؤال: هل كان الترحال اختيارا أم قدرا؟ علما أن ندرة الماء هي التي كانت خلف الترحال. إذ مع دخول المدن مجال الصحراء وما يعينه ذلك من توفير الماء حل نسبيا الاستقرار محل الترحال. ومع المدينة كذلك بدأ الإيقاع السريع يمحو الكثير من تقاليد البيداء كطقوس سقي الشاي البطيئة، التي تتوافق مع إيقاع البداوة المرتخي. فمع الاستقرار تغيرت الكثير من طقوس العيش الصحراوي، حيث خرجت المرأة للعمل، وأثرت وسائل الإعلام في نمط سلوك الأفراد والجماعات. لكن مع ذلك ظلت الصحراء نسبيا مدموغة بطابع البداوة، علما أن البداوة هي الأصل والحضارة شيء طارئ. إن تفاعل الإنسان مع الصحراء كمجال أنتج لنا ثقافة ومعارف شديدة الخصوصية. مجال شكل على مر التاريخ مكانا لمجاهدة النفس ومأوى للصلحاء والمتصوفة ونقطة لتجديد الوعي الديني وتطهير الإسلام من الشوائب..وبالتالي ما لبثت الصحراء أن أضحت منبعا للتصوف (أستحضر هنا زاوية الشيخ سيدي أحمد الركيبي، زاوية سيدي أحمد العروسي، زاوية الشيخ ماء العينين..). كما أن الصحراء بخلاف منتوج الأمكنة الأخرى أنتجت لنا شعر «التبراع»، وهو شعر غزلي تتغزل فيه المرأة بالرجل مخلخلة ضوابط بداوة مجتمع «البيضان» والتقاليد الصحراوية. فمع «التبراع» انقلبت الأدوار بين المرأة والرجل ووجدت الثقافة الذكورية نفسها في حرج ومأزق حقيقيين. وإلى جانب شعر»التبراع» تحضر رقصة «الكدرة» كرسم بالجسد واحتفاء طقوسي بالشعر والنغمة والحركة. رقصة شعبية تحكي تاريخ المجال وتفجر المكبوت والمسكوت عنه، علما «أن الرقص يعني أنك تنظم الشعر بيديك ورجليك» على حد تعبير شارل بودلير.
الصحراء كمجال تتلون بجنس الكاتب، إذ أن كتابات المرأة غير كتابات الرجل. الكتابة تتلون كذلك بالشريحة العمرية للكاتب، فاليافع غير الشيخ. تقول الحكمة الصحراوية الأثيرة «يشوف الشيخ التاكي لم شاف افكراش الواقف». حكمة تحيلنا على مقولة عربية قديمة تقول إن «حلم الشيخ أعمق وأدق من رؤية اليافع». كما أن الجنس الأدبي يفرض نفسه لحظة انكتاب الصحراء. فصحراء روايات إبراهيم الكوني وعبد الرحمان منيف غير صحراء الشعر. لكن الاستثناء الفارق في انكتاب الصحراء يبقى هو شعر «التبراع» ورقصة «الكدرة». أما «التبراع» فالقصد به تغزل المرأة بالرجل. غزل يتراوح بين البعد العذري والسقف الحسي الفاضح، إذ يكفي تأمل القرائن الشعرية التالية للوقوف على هذا النوسان والتأرجح بين حدي هذه المعادلة. واضح أن «التبراع « شذرات شعرية مجالها بوح المرأة بعواطفها تجاه الرجل وكأنها تتبادل المواقع وإياه، مقدمة نفسها دونجوانية المنزع وكازانوفية الهوى. امرأة في منتهى الجرأة والتمرد على الهيمنة الذكورية الممتدة عبر التاريخ. لذا تبدو أشعار «التبراع» شذرات تبدو خارج الزمن القيمي العربي. غزل مثير للدهشة والحيرة معا بسبب جرأتها في كشف جغرافية مشاعر النساء التي ظلت مخبوءة طيلة التاريخ الأبيسي. غزل بذات القدر الذي أزم مفهوم الفحولة العربية، رسم علو سقف نضال النساء قصد كسر طوق الصمت والتلجيم… من خلال لعبهن الماكر مع سلطة الحجب والمنع، إذ تتوسل الشاعرة هنا بضمير مخادع يدل ولا يدل على رجل بعينه (هو وأنت) دون تسمية المتغزل به أو توقيع المتغزلة باسمها الخاص. وذات الشيء يمكن قوله عن رقصة «الكدرة»، باعتبارها كتابة بصرية متحركة تتوسل الجسد لرسم لوحات في غاية الخصوبة جراء بثها رسائل بالغة الثراء. فرقصة «الكدرة» كفرجة مشهدية تعتمد خطابا مركبا يشمل حركات الجسد والحلي والرموز والألوان واللباس وما شابه ذلك، علما أن جنسية الجسد تتصدر هذه الوسائط. فالجسد يشكل الوجه الفيزيقي والمادي للهوية الجسدية للفرد، ونحن نعلم أن المرأة -على امتداد التاريخ البشري- شكلت بؤرة إغراء وإثارة، وذلك لطبيعة تموجات جسدها نفسه وطرق تعبيراته وإعلانه عن حضوره وغيابه وصيغ تجميله وعرضه كسلوك ثقافي دون أن يعني هذا أن الجسد شكل دوما وأبدا موطنا للذة والمتع، فهو أحيانا مصدر المآسي والشرور كذلك. وبالعودة إلى رقصة «الكدرة « ما يثير الرائي هو «الملحفة» كلباس خاص، وخصوصيته نابعة من كونه زيا غير مفصل، وبسبب ذلك فهو لا يقسم الجسد إلى نصفين كالزي العصري في نقطة الحزام (جزء علوي مقدس وجزء سفلي مدنس). وبسبب هذا تحديدا فهو يتمرد على التقسيم التقليدي للجسد ويعرضه من شرفة جديدة تماما. إن الرقص عموما هو كتابة خاصة يمنح فيها الجسد شكلا فرجويا متحررا من تدجيناته اليومية، ولذلك فأثناءه تتصالح الراقصة مع نفسها من خلال محاكاة الطيور، مثلا، رغبة في التحليق عاليا، وهي إحدى الرغبات التي لازمت الإنسان على امتداد التاريخ. كما أن الجسد بسبب الرقص يوسع هامش حريته في قول مكبوتاته، دافعا بالمتلقي إلى اشتهائه أكثر، إما بسبب شكله أو حركاته أو تلوينه للفضاء.. علما أن الراقصة هنا ترقص برجلين حافيين تماما متماسين مع الأرض، وهي رغبة لا شعورية للعودة إلى الأصل المجالي والجذور البعيدة والزمن البدئي.. فلحظة الرقص يفارق فيها الجسد خموله ليدخل عوالم غير مسبوقة، عوالم الحركة والفرجة وصناعة الفرح والإقبال على الحياة بملء الانتشاء.. والجسد الراقص لكل هذه الاعتبارات يخلخل صرامة المنع والتحريم ويضع الممنوع محط استفهام.
مرايا الغريب
محمدغرناط
غمرته حيرة لم يدر معها ماذا يفعل. ارتبك لحظات، ثم تماسك وجعل يبحث بين أوراقه عن رسائل قديمة ليقرأها. كان الصباح في أوله، وأشعة الشمس البيضاء الناصعة تتسرب من النافذة، فتملأ أركان الغرفة ضوءا لكنه لا يعيرها اهتماما. انشغل وقتا طويلا يقلب أوراقه حتى بدا بغتة متوترا كأنما عثر على كل الرسائل التي توصل بها خلال حياته ولم يعثر على الرسالة الأخيرة التي بعث بها كارلوس من بلاده. لاح خائفا من أن يكون قد غادر البيت الذي اكترى في قرية نائية على سفح جبل عال وقرر ألا يعود إليه دون أن يخبره. ربما، فيوم أمس، حينما التقيا بباب بيته، وقعدا فوق مقاعد مصنوعة من أعواد الصفصاف، كانت تعلو وجهه سحابة حزن اختفى معها نور عينيه، فلم يتردد عشيق كثيرا وسأله بصوت هادئ إن كان هناك أمر أزعجه.
تمايل كارلوس بمكانه وأدار بصره يمينا وشمالا، ثم قال بنبرة خافتة:
اطمئن.
وتنهد، ثم أضاف:
سأسافر غدا باكرا إلى بلدي، سآخذ الطائرة من مطار البيضاء في وقت ربما تكون مازالت في فراشك..
قاطعه باندهاش:
غير ممكن، لم أكن أتوقع ذلك، وهذا أمر يصعب علي احتماله، لقد ألفت الجلوس والحديث معك، وتمنيت أن نبقى مدة أطول قرب بعضنا.
– لا تتأسف، وتأكد أنني سأعود إن شاء الله. لكن..
– لكن ماذا؟
– أظن أنني سأتوقف بعض الوقت عن الكتابة..
وصمت برهة، ثم تابع:
لا يهم، ما أخشاه فقط هو أن تطول مدة غيابي بدون إرادتي، فلا أخفيك أنني في حاجة إلى قدر كاف من الراحة قبل أن أواصل الحكي..
بدا كمن استسلم فجأة لقدره ولم يعد يبالي بشيء، فقال له عشيق متسائلا:
ما تقول سيد كارلوس؟
رد عليه بعد لحظة تفكير وبثقة بالغة:
هذه هي الحقيقة، وفي جميع الأحوال لا بد أن أعود لألتقي بك وأستمتع بهذه القرية وما يحيط بها من جبال ووديان وجداول ماء. إنها ساحرة، أحببتها بصدق، وأحببت أهلها، وهم كذلك أحبوني، وأكرموني، وحضنوني فلم أعد أشعر بالغربة حتى صرت أحس أنني واحدا منهم.
أصغى إليه عشيق دون أن يقاطعه، ثم دنا من وجهه وقد بدا متشككا وسأله:
سيد كارلوس، اعذرني، هل أنت بخير؟
أجابه في الحين:
أنا بخير، وفي تمام عافيتي البدنية والنفسية. لن أنساك صديقي، سأعود إن شاء الله من البرازيل لأمكنك من أسرار أخرى تقوم بترجمتها هي كذلك إلى لغتك، ثم تنشرها بين الناس الطيبين مثلك.
وذكره بالساعات الطويلة التي قضاها في الكتابة بالبيت القروي الذي منحه ما لم يتصوره من القدرة على الخيال، وكيف كان ينهض باكرا ليقوم بجولة على قدميه قبل أن يعود ليكتب فقرات يرى نفسه فيها كما يرى ملامح وجهه في مرآة صافية يسمعها عشيق بعد ذلك وينقلها بشغف إلى لسانه. كما ذكره باللحظات التي يأوي فيها إلى جذع شجرة باسقة ليتكئ عليه، ويرفع بصره ويراقب صبيانا يغدون ويروحون في حركاتهم الخفيفة الرشيقة، ونساء يخفين وجوههن وأجسادهن في أردية ثقيلة فضفاضة. كانت لحظات تعطيه الانطباع بأن الحياة تتحرك أمام عينيه. وأبدى اعتزازه الفائق باليوم الذي تعارفا فيه والسعادة التي غمرته حتى أحس أن حياته تغيرت بالكامل. ودمعت عيناه فمسح دموعه بكفه وصمت. كانت بالفعل لحظة لقائهما نادرة، فما أن التقى به حتى استغرق يحدثه عن نفسه من فرحة ميلاده إلى الساعة التي غادر فيها الجندية، ولم يعد محط اهتمام أحد. ومنذئذ صار لسانه طليقا، فلم يتوقف عن الحكي إلى هذه الساعة التي هم فيها بوداعه، عندها خفت صوته وانطفأ نور عينيه، ولاح كما لو أنه لا يرى شيئا وجعل يتمتم كأنما يحكي لشبح لا يراه، ثم اهتز بغتة والتفت بخفة نحو عشيق ووعده بأن يكون في الموعد.
لم يبد عليه أنه ذاهب إلى أي مكان آخر، كان واضحا أنه ذاهب إلى البرازيل كما لو ليكتب فصلا من مذكراته في وقت قصير ويعود عند عشيق كي يترجمها وينشرها بين الناس الطيبين، لكنه لن يفعل بالتأكيد، كان صادقا، لذا غادر عشيق غرفته، وركب سيارته واتجه نحو مطار البيضاء حتى لا يخلف الموعد. ولما وصل، أخذ مكانه في قاعة الانتظار، وظل يراقب الوجوه ويصغي إلى الأصوات المتعالية وهدير الطائرات التي تهز المطار من حين لآخر، حتى إذا ما رأى كارلوس، أنيقا، بقامته القصيرة المكتنزة، يدب بخطى متأنية قام من مكانه واستغرق ينظر إليه. كان شاحبا، منهمكا، يكاد من فرط الإنهاك أن يتهاوى، ثم نط بخفة وتقدم باتجاهه. حياه بحرارة وأمسكه من ذراعه، وقاده نحو مقهى قريب من قاعة الانتظار. طلب له كأس ماء، وانتظر حتى تناول جرعات صغيرة متتالية فقال له بصوت لا يخلو من إشفاق:
أراك متعبا سيد كارلوس.
رد بصعوبة:
أجل.
واستأنف بصوت خافت:
لا تشغل بالك، لحظات قليلة وأستعيد راحتي.
فقال عشيق:
أظن أن سبب ذلك هو طول السفر.
أجابه بدون تردد:
ليس هذا وحده، بل أيضا حجم القلق الذي عشته هذه الأيام.
فتأوه وسأله:
ماذا حصل سيد كارلوس؟
رفع رأسه واستغرقه التفكير برهة، ثم قال:
لا شك أنك منهمك في إعداد كتابك.
– أجل، إنه كتابنا نحن الاثنين.
– طيب. والمهم أن هذا حلم تحقق، وهذا ما كنت أتوقع منك. لكن ما أقلقني هو أن زوجتي قدمت لتلتقي بك.
تساءل عشيق باندهاش:
لماذا؟
رد عليه بعد صمت قصير:
لا أعرف، ربما علمت أنني استمتعت معك في هذه القرية الهادئة بوقت لم يخطر ببالها أو ببال أحد فدفعها الفضول إلى زيارتها.
ثم نهض قائلا:
مهما يكن فهذا جيد، وهي الآن تجمع أمتعتها داخل المطار، بعد قليل ستلتقي بك، رحب بها كما رحبت بي، واعتن بها هي الأخرى لتكون راضية سعيدة.
رد عليه عشيق باستغراب:
من فضلك. أنا لا أفهم ماذا يجري.
لم يأخذ معه في حديث طويل، واكتفى بأن نبهه إلى أن هذا الحدث عارض، وهو هنا ليطمئنه، فقد تقرأ السيدة فصلا أو فصلين، أو أكثر، مما نقل إلى لغته وتبدي ملاحظاتها وتمضي لتستمتع بالطبيعة التي تحيط بالقرية. وبدا متفائلا وهو ينصحه بصوت هادئ أن يحافظ على هدوئه، ويكون يقظا، فقد تعثر السيدة على فقرة أو صورة لا توافق على أن تكون ضمن كتابه، فتطلب منه أن يجري تعديلا ربما لا يروقه، لذا في انتظار أن يعود طلب منه أن يتحكم في مشاعره كما عهده، وألا يدخل في نزاع معها، وليتريث فقد تأتي بإضافات تغني عمله. ودعا له، ثم أرسل أنفاسا قصيرة ودعا لنفسه بأن تسعفه ظروفه فلا يتأخر عنه، وأبدى عزمه على أن يتابع تأليف الكتاب معه، وغادر مقعده ليهرع بخفة نحو مدرج الطائرات وقد أخذت مظاهر الإنهاك تختفي عن وجهه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.