هل يقبل يهودي باستقبال نازي ومصافحته والجلوس إلى جانبه؟ نطرح هذا السؤال ونحن مقتنعون بأن اليهود الإسرائيليين لا يقبلون باستقبال حتى مجرد اليهود الذين لا يعتنقون الصهيونية. ابن وزير الخارجية المغربي، إبراهيم الفاسي الفهري، استضاف لنا في المغرب مجرمة حرب اسمها تسيبي ليفني، ورئيس الطائفة اليهودية بالمغرب، «سيرج بيرديغو»، استضافها في بيته ونظم لها عشاء على شرفها، في استهانة واضحة بمطالب المحامين المغاربة الذين طالبوا باعتقالها ومحاكمتها فور دخولها إلى المغرب. فيما وزير الخارجية، والد الشاب إبراهيم، أنكر معرفته بخبر حضور تسيبي ليفني إلى طنجة. بينما في بريطانيا، أصدر القضاء مذكرة اعتقال في حق تسيبي ليفني وطالب باعتقالها إذا ما دخلت التراب البريطاني. وليست ليفني وحدها غير المرحب بها في بريطانيا، فقد سبقها نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه يعلون الذي ألغى قبل شهرين زيارة للندن كانت مقررة له بسبب تخوفه من الاعتقال. مباشرة بعد هذا القرار، ستدفع الحكومة البريطانية ثمن استقلالية قضائها وسترضخ لضغط اللوبي الصهيوني وتقرر تعديل نظامها القضائي لتفادي اعتقال مجرمي الحرب الإسرائيليين وعرض التعديل للتصويت. المسؤولون الإسرائيليون يصنعون المستحيل لكي يحاكموا ويحاصروا ويعتقلوا بقايا النازيين الذين يشكون في تورطهم في ما يسمونه «الهولوكوست»، رغم أن ما وقع لليهود على أيدي النازيين يعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، بينما نحن الذين تابعنا «الهولوكوست» الذي تعرض له إخواننا الفلسطينيون في غزة والذي لازال طريا في الأذهان ولم يمر عليه أكثر من أحد عشر شهرا، أصبحنا نستقبل بالأحضان مجرمي هذه الحرب الصهاينة. وبالأمس فقط، وافق الفاتيكان على فتح تحقيق في الاتهامات التي توجهها إسرائيل إلى البابا Pie XII بسبب ما تعتبره الدعاية الصهيونية تهاونا من طرف هذا البابا في اتخاذ موقف مساند لليهود ضد النازية. ومع أن البابا مات وشبع موتا، فإن إسرائيل تستغل هذا الملف وتحرك آلتها الدعائية التي تسمى «الهولوكوست» لفرض المزيد من الرعب على حكومات الدول الغربية عبر اللعب على وتر المسؤولية الأخلاقية لأوربا في ما وقع لليهود على يد النازية. إنها طريقة إسرائيل في ممارسة الابتزاز على العالم عبر إظهار الصرامة والتشدد والشراسة في تعقب النازيين والمتعاونين معهم حتى آخر يوم في حياتهم. وقد جاء فيلم Inglorious Bastards لمخرجه «طارانتينو»، والذي لعب فيه «براد بيت» دور البطولة، ليمحو صورة اليهودي الضحية الذي اجتهدت الآلة السينمائية الهوليودية في تقديمه دائما ككائن مضطهد يتعرض للنفي والطرد والتعذيب والقتل. فعنوان الفيلم يعني «كمشة من الصالوبارات» مكونة من مرتزقة يهود ولدوا وتربوا في الأحياء الهامشية للمدن الأمريكية، جاؤوا إلى فرنسا من أجل هدف واحد: قتل النازيين بلا رحمة. الصورة التي أعطاها الفيلم عن اليهودي تختلف جذريا عن الصور التي شاهدناها في أفلام سينمائية أخرى تعرضت لنفس الموضوع. فاليهودي في فيلم «كمشة من الصالوبارات»، عكس بطل «عازف البيانو» الحساس والمرهف لرومان بولانسكي، شخص بلا قلب لا يعرف الرحمة، ولا يتورع عن تحطيم رؤوس النازيين بعصا «البيزبول» الحديدية، مثلما لا يتردد «براد بيت»، زعيم العصابة، في وشم علامة النازية المعقوفة بسكينه على جباه النازيين. إن الانعكاس الواقعي للنوازع الحيوانية التي يدافع عنها هذا الفيلم، نراه مجسدا على أرض الواقع من خلال محاكمة «جون ديمجانجوك» في «منيخ» بألمانيا بتهمة المشاركة «المحتملة» في جرائم حرب ضد اليهود. فهذا الألماني من أصل أوكراني والبالغ من العمر 89 سنة يحاكم بتهمة اشتغاله كحارس لستة أشهر سنة 1943 في «صوبيبرو»، أحد معتقلات النازية ببولونيا. وإذا أثبتت المحكمة أنه اشتغل فعلا حارسا للمعتقل الذي تدعي إسرائيل أنه شهد تصفية 27.900 يهودي على يد النازية، فإنه سينال حكما بالسجن المؤبد. إخراج هذه المحاكمة يقترب كثيرا من الإخراج السينمائي لفيلم «كمشة من الصالوبارات». فالمتهم الذي شارف على التسعين من عمره، والمشلول بسبب السرطانات التي تنخر جسده، يأتي محمولا فوق سرير متحرك إلى قاعة المحكمة. وبسبب الألم لا يكاد يسمع الصحافيون الذين يتابعون أطوار المحاكمة سوى تأوهات المتهم كلما أخرجته الشرطة من قاعة المحكمة وتعرض سريره لهزات خفيفة بسبب أدراج المحكمة. إنها صورة سينمائية واقعية عن الهمجية الإسرائيلية وانعدام الرحمة والتسامح مع من تعتبرهم الدعاية الصهيونية متعاونين مع النازية ضد اليهود. وأكاد أشك في أن التهمة في حق البابا Pie XII بخصوص التورط في «جريمة» الصمت أثناء تهجير اليهود نحو معتقلات هتلر، إذا ما ثبتت فإن إسرائيل ستطالب باستخراج جثته من القبر لمعاقبتها على صمتها المتواطئ والإجرامي، هي التي تهاجم اليوم العدالة البريطانية لأنها أصدرت قرارا باعتقال مجرمة حرب متورطة حتى الأذنين في إبادة شعب بكامله اسمه فلسطين. ما الفرق، إذن، بين هذا الحارس الذي تطالب إسرائيل بسجنه إلى الأبد عقابا له على اشتغاله حارسا على معتقل نازي، وبين الحراس الإسرائيليين الذين يحرسون اليوم معتقلا جماعيا مفتوحا على السماء اسمه غزة؟ ما الفرق بين هذا «المجرم» المفترض ومجرمي «تشاحال» الحقيقيين؟ ما الفرق بين هذا الحارس المتهم بالمشاركة في عمليات إبادة اليهود، وبين كل هؤلاء الجنرالات الإسرائيليين المجرمين المتورطين في مجازر إبادة الشعب الفلسطيني منذ دير ياسين وصبرا وشاتيلا وكفر قاسم وغزة؟ لا يوجد أي فرق، عدا كون إسرائيل تعتبر ما تقوم به من مذابح ومجازر في حق الفلسطينيين واجبا دينيا مقدسا وتطبيقا حرفيا لتعاليم التلمود ووصايا الحاخامات المتطرفين الذين يحركون خيوط السياسة الإسرائيلية من وراء الستار، بينما تعتبر ما قام به خصومها ضد اليهود قبل خمسين سنة جريمة لا تغتفر يستحق مقترفوها التشنيع والتشهير والمطاردات القضائية حتى ولو تطلب الأمر إحضارهم فوق أسرة احتضارهم والتلذذ بعرض تأوهاتهم أمام أنظار العالم. داخل هذه الصورة يجب قراءة القرار المتسرع الذي قام به شاب في الخامسة والعشرين من عمره اسمه إبراهيم الفاسي الفهري، عندما استقبل في معهده، الذي صنعه له أبوه على مقاسه، مجرمة حرب اسمها «تسيبي ليفني» تحسب ألف حساب قبل أن تسافر نحو العواصم الأوربية خوفا من الاعتقال والمحاكمة. وداخل هذه الصورة أيضا يجب أن نقرأ لجوء شركة «صوفريكوم» المغربية إلى طرد مهندس من عمله لمجرد أنه رفض تلقي تدريب على أيدي خبراء إسرائيليين استدعتهم الشركة إلى المغرب. إسرائيل تطالب بمعاقبة الحكومات الغربية التي تطارد وزراءها ومسؤوليها العسكريين، والحكومة المغربية، في شخص وزير تشغيلها الاتحادي، تصم آذانها عن قرار طرد مهندس مغربي رفض المشاركة في مؤامرة التطبيع الاقتصادي الذي تقوم به بعض الجهات في المغرب مع الكيان الصهيوني. إن الذي تجب محاسبته ومعاقبته ليس المهندس الذي رفض المشاركة في التدريب تحت إشراف خبراء إسرائيليين، وإنما مدير الشركة المغربية التي تحدت قرار الدولة المغربية، القاضي بقطع أية علاقة بإسرائيل منذ سنة 2000، واستدعت خبراء إسرائيليين إلى المغرب. وكم هي مضحكة التهمة التي ساقتها إدارة الشركة لتبرير طردها للمهندس، حيث تتهم هذا الأخير بتعريضه، برفضه، لسلامة مواطنين إسرائيليين للخطر وبتعريض مصالح الشركة كذلك للخطر. إن من تتعرض سلامة مواطنيه للخطر بمثل هذه المبادرات التطبيعية مع الكيان الصهيوني هو المغرب، ومن تتعرض مصالحه للخطر هو الشعب الفلسطيني الذي تغتصب إسرائيل أرضه وتمارس تهويدها لأراضيه وتستمر في بناء مستوطناتها في تحد سافر للعالم بأسره. ماذا تمثل مصالح شركة صغيرة وسط آلاف الشركات أمام مصلحة أمة بكاملها؟ لا شيء. إلا إذا كانت هذه الشركات المغربية المتهافتة على التطبيع تراعي مصلحة «كمشة من الصالوبارات» على حساب المصلحة العامة، فهذا كلام آخر.