كان صوتها يشي بقرب النهاية، كلماتها توحي بدنو الأجل المحتوم ولقاء الخالق الرحيم، كان أنينها أنينا عفيفا، يخفت الصوت ليعود بعد ذلك، كانت تلمح إلى أنها تحن إلى الدعم والمساندة، إلا أن شيئا كان يحول بينها وبين البوح الصعب. يتحسس كل امرئ عاش بقرب الفنانين شيئا يمنعها من القول إنني أحتاج إليكم، قربكم قرب لقلبي ودعمكم لي دعم لكل الفنانين، ووفاؤكم وفاء لكل لحظة كنت فيها الوفية لكم، هو قليل مما شعرت به وأنا أنصت إلى آهات الفنانة التشكيلية «الركراكية» التي رحلت عنا بكثير من الحزن والتأسف. بعدما أسرت مصادر مقربة من الرسامة «الركراكية» ل«المساء» عن معاناة الفنانة في آخر أيامها بعد حديث عن تهميش وعدم استطاعتها أداء مصاريف الدواء والعلاج المكلفة، كان اللقاء الأخير مع الفنانة الركراكية للاستماع إلى نخوة الفنان الحقيقي الذي لا يتنازل عن عفته، رغم وقع الألم وضعف الحيلة. سألتها عن المرض، فكان الجواب بكل الألم حديثا عن الربو ومضاعفات مرضية أخرى كثيرة، تكلمت عن بعضها والتزمت الصمت عن أخرى. سألتها عن وضعها في المستشفى الذي قضت فيه آخر أيامها، فقالت «إنهم يهتمون بي»، ورغم ذلك بدا في كلامها شيء لم ترد أن تخوض فيه، شيء يعرفه بشكل دقيق من التحق بالمستشفيات العمومية المغربية. «راه اتصل بيا كمال كمال، راه تيجمع ليا الوراق على قبل التغطية الصحية، راه جاو عندي بعض الفنانة وشافوني»، بهذه الكلمات اختزلت الفنانة الراحلة الركراكية في آخر أحاديثها الصحفية مع «المساء» صورة ما تعيشه. صورة تعكس حقيقة الواقع الفني المغربي الذي يتم اللجوء فيه إلى الحلول «الترقيعية» أو الحلول الفوقية التي تكون في غالب الأحيان في وقت غير الوقت المأمول، صورة تكشف كذلك بالنموذج (الحي)؟ أن الفنان المغربي رغم ما يصدر حوله من خطابات لن يخرج في الوقت الحالي من الاستثناء. رحل عنا فنانون حقيقيون دون أن يجدوا من يقدم لهم الدعم المادي أو المعنوي، في الوقت الذي يتصارع فيه النقابيون عن الصفة النقابية التي تصير، في مثل هذه الحالات التي يموت فيها الفنان دون رحيم أو منقذ، سبة لذوي النفوس العفيفة. رحلت الركراكية وعتيق والحدادي والغرباوي... والفن المغربي يتخبط بين التغطية الصحية الملتبسة التي وصلت إلى القضاء وبين التعاضدية الصحية التي تحوم حولها الكثير من الشكوك والأسئلة والصراعات، وبين هذا وذاك، وجب طرح السؤال بكل الجرأة الممكنة: ألم يحن الوقت بعد لتأسيس صندوق وطني خاص بالفنان المغربي يعفينا من كل هذا الألم الذي ينتابنا كلما سمعنا عن رحيل فنان في لحظة العوز والمرض والألم؟...