كشف جمال الدين غربي، وزير التنمية الجهوية والتخطيط التونسي السابق، عن الوضع الاقتصادي الصعب، الذي تعيشه تونس، بالرغم من ثورة «الياسمين». وأثار الوزير التونسي مكامن الاختلالات في بنيات مؤسسات الدولة. كما تطرق إلى قضايا الشأن الديني في تونس في عهد الرئيس المطاح به، ومشاركة حزب النهضة الإسلامي في الحكم، والجهوية، وغيرها من قضايا وتحديات تونس ما بعد بنعلي. – هل حققت ثورة الياسمين في تونس أهدافها المتمثلة في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية؟ تحقق منها جزء مهم، هو الدستور الجديد للبلاد، الذي يحمل في طياته حفظ الكرامة البشرية، وتحسين حقوق التونسيين، وضمان حرية التعبير، والقضاء، والإعلام، ومكاسب كبيرة أخرى. تونس وقع فيها تحول ديمقراطي، من خلال انتخابات أولى وثانية، اختار فيها المواطنون من يمثلونهم في المؤسسات. ورغم أن هذه الحكومات مرت بفترات قصيرة، فقد حافظت على استمرارية الدولة، والمشاريع، والمسؤولية تجاه المواطنين والأجانب، وهذا ما حفظ استقرار تونس من الإرهاب، والعنف، والاقتتال الداخلي. هناك سعي لتحسين اقتصاد البلد، والقيام بجملة من الإصلاحات الداخلية القادرة على توفير الشغل، وإعطاء نسبة نمو كبيرة في الاقتصاد، قادرة على تحقيق توازن بين الجهات، على إدماج النساء وحاملي الشهادات العليا في النشاط الاقتصادي، لأن المنظومة الاقتصادية التي كانت موجودة من قبل، كانت تطرد هذه الفئات من الأنشطة الاقتصادية. هناك استثمارات اقتصادية في كافة الجهات من أجل توفير بنيات أساسية، ومرافق اجتماعية عمومية، مثل الصحة والتعليم والثقافة والرياضة. هذه الاستثمارات من شأنها تحسين ظروف العيش، والاستجابة لحاجيات الناس. اليوم في تونس هناك حرية تعبير، وتعددية سياسية، تعتبر مكسبا هاما، والعديد من الصحف صارت تتكلم بدون قيود. هذه خطوات ذات قيمة كبرى، ولكن يبقى طموح التونسيون والشباب، الذين قاموا بالثورة، أكبر مما تحقق، ولهذا ليس هناك رضا. الثورة لم تقدم الشيء المنتظر منها. فالعديد يرى أن الثورة كان يجب أن تؤدي إلى تغيير استراتيجي وهيكلي في البلاد، وهذا لم يتم بعد. تغيير استراتيجي في شقه الاقتصادي، فالصناعة في تونس كانت تعتمد على مؤسسات صغرى جدا، وذرية: 87 في المائة من المؤسسات الاقتصادية في تونس لا تُشغل البتة، و10 في المائة من المؤسسات تُشغل ما بين 1 و5 أشخاص. وهذا يعني أن كل مؤسسة تُشغل أقل من 6 أشخاص هي غير مهيكلة ومتناهية الصغر. النسيج الاقتصادي في تونس متكون من 97 في المائة من المؤسسات غير المهيكلة، ومن هنا جاء الخلل الاقتصادي وعدم القدرة على التشغيل، وعدم القدرة على استيعاب حاملي الشهادات العليا. المؤسسات الاقتصادية، التي تشغل من 6 أشخاص إلى 50 شخصا، هي مؤسسات صغرى، لا تمثل سوى 2.5 في المائة. والمؤسسات التي تشغل ما بين 50 شخصا و200 شخص، هي مؤسسات متوسطة نسبتها 0.4 في المائة، والمؤسسات الكبرى التي تشغل أكثر من 200 شخص نسبتها في تونس 0.1 في المائة. لذلك لدينا نسيج اقتصادي ذري، متناهي الصغر، وغير قادر على خلق قدرة تنافسية للاقتصاد التونسي لخلق القيمة واكتساح الأسواق الأجنبية والتشغيل داخل البلاد وتنمية الثروات الطبيعية. – والحل في نظرك؟ التغيير الاستراتيجي هو تغيير هذا النسيج الاقتصادي، وتحويل تلك المؤسسات متناهية الصغر إلى مؤسسات صغيرة، وتحويل المؤسسات الصغيرة إلى متوسطة، ثم إلى مؤسسات كبرى، لكن هذا لم يتم بعد، وليست لدينا بخصوصه استراتيجية. هذا جاء نتيجة للعديد من الضغوطات الإدارية والعقارية والتمويلية، التي تمنع المؤسسات من النمو كي تصير مؤسسات مهيكلة ذات قدرة تشغيلية. ولذلك هذا التغيير الاستراتيجي يتطلب تغييرات هيكلية، من قبيل إعادة النظر في هياكل التمويل. فاليوم 70 في المائة من العراقيل وبعث الاستثمار في المؤسسات التونسية يرجع إلى عدم القدرة على الحصول على تمويلات بنكية، فالأبناك تمول الاستهلاك أكثر ما تمول الاستثمار، وهي تتجنب المخاطرة ولا تمول المشاريع الجديدة. القطاع البنكي يعتمد على الربا والاقتراض ومسك جملة من الضمانات. لتوفير المساهمة لبعث مشروع جديد من الضروري أن نجد نوعا جديدا من الهياكل التمويلية، التي تكون تشاركية، عبر الدخول كشريك مع صاحب المشروع في تسييره وضمان نجاحه. التغيير الاقتصادي يقتضي تغيير مصادر التمويل والتحول من التمويل المعتمد على الاقتراض إلى التمويل المعتمد على التشاركية. اليوم، لدينا ضعف في النسيج الاقتصادي لأن سوق الأوراق المالية لا تساهم إلا ب6 في المائة من تمويل المؤسسات. لدينا في تونس 602 ألف و222 مؤسسة، بينما لا توجد إلا 62 مؤسسة مسجلة في البورصة، وتتداول أسهمها. لذلك فالتحول الذي يجب أن يقع هو الاعتماد على مثيل أسواق المال والبورصة في تمويل المشاريع وخلق بورصات جهوية لتمويل الاستثمار، إضافة إلى التحول من التمويل المعتمد على الاقتراض إلى التمويل المعتمد على التشاركية في عملية التمويل، ورأس المال، والتسيير والمخاطرة، والربح والخسارة. لدينا 45 ألف مؤسسة جديدة تولد كل سنة، وهذا يخلق 37 ألف منصب شغل، فيما تموت كل سنة 25 ألف مؤسسة، و4 آلاف مؤسسة تولد ميتة، وهذا يؤدي إلى فقدان ما يقارب نفس عدد المناصب التي خلقتها، وتراجع الاستثمارات، وإفلاس حقيقي، وعدم القدرة على تسديد الديون. والسبب هو عدم القدرة على التسيير، وغياب النجاعة في تدبير الموارد. عملية التسيير يجب أن تكون عملية تشاركية بين كل الخبرات. والحل في الاقتصاد التونسي ليس هو تكثيف المؤسسات والمقاولات الصغرى، في غياب المؤسسات المهيكلة، التي لها القدرة على التصدير وتتوفر على التكنولوجيا. لدينا في تونس ثروات مثل الطين والرمل السيليسي والرخام، لكنها تصدر خاما. اليوم، عندنا جبال من كربونات الكلسيوم، تستعمل في المواد الغذائية، وتصنيع المواد الطبية والتجميلية، لكنها تصدر خاما. كما لدينا الفوسفاط، ويمكننا إنتاج أكثر من 100 منتوج، باستعمال المعارف والتكنولوجيا، لكنه للأسف يصدر إلى خارج تونس. كذلك 90 في المائة من زيت الزيتون نصدره خاما. في تونس توجد آلاف الهكتارات من الجبال، تتوفر فيها النباتات الطبية والتجميلية، لكن لا توجد صناعة تحول هذه النباتات إلى منتوجات. لدينا ثروة من السمك كبيرة، لكن لا تتوفر في البلاد مؤسسات صيده، لديها القدرة على تحويله وتصديره. المطلوب، إذن، هو إيجاد مؤسسات قوية ومهيكلة، واستثمارات ذات رأسمال عال، وتكنولوجيا متقدمة، لتثمين الثروات الموجودة. – وماذا عن البطالة؟ معدل البطالة في تونس يبلغ 15 في المائة، ومعدل البطالة في صفوف حاملي الشواهد هو 38 في المائة، أي 600 ألف عاطل، فيما المعدل لدى حاملات الشواهد العليا هو 43 في المائة، مع العلم أن المتخرجين من الجامعات التونسية أغلبهم من الفتيات. ولذلك فالتغيير الاستراتيجي هو تحويل النسيج الاقتصادي، الذي يعتمد على المؤسسات متناهية الصغر، التي تمثل 97 في المائة، إلى مؤسسات قوية تستعمل المعارف العلمية وبراءات الاختراع لتثمين الثروات الطبيعية، والتحول من المناولة إلى اقتصاد ذاتي، يعتمد على القدرات الداخلية للبلاد، مع جلب الاستثمارات الخارجية في قطاع الجلد، والملابس، والإلكترونيك، والميكانيك. الاستثمارات الأجنبية تأتي إلى تونس للبحث عن اليد العاملة الرخيصة لتقليص الكلفة، ومن ثمة يجعلون التونسيين يقومون بأعمال يستنكفون هم عن القيام بها، أعمال ليست فيها معرفة ولا خبرة ولا قيمة مضافة. وهذا يجعلني أقول لك إن المؤسسات القوية، التي تشكل 0.4، والتي سبق لي أن تحدث عنها، هي مقاولات أجنبية. لماذا لا نعتمد، اليوم، على الكفاءات والخبرات التونسية المهمشة في المقاهي والمنازل؟. – الكل يعرف أن السياحة تراجعت بشكل كبير. هل تونس قادرة على النهوض من جديد؟ وكيف ذلك؟ لتونس بحر وشمس وآثار فينيقية ورومانية وإسلامية، وآثار للإنسان البدائي. لدينا طاولة «يوغورتا»، هي عبارة عن جبل مساحته أربعة هكتارات. التنوع في النباتات والمناظر الخلابة والمآثر التاريخية لم يستثمر بعد في السياحة داخل تونس. اليوم، بالإمكان بعث سياحة علمية، نظرا للتوفر على جامعات تستقطب الطلبة من إفريقيا وأمريكا الجنوبية وكافة بلدان العالم. ولهذا فالتصور السياحي لا يجب أن يبنى على رؤية تستقطب السائح أسبوعا أو أسبوعين، بل 10 أشهر فأكثر. – وماذا عن القطاع الفلاحي؟ القطاع الفلاحي في تونس يؤدي إلى الفقر، فقد وقع تهميشه، والإنتاجية فيه ضعيفة جدا، والفلاح عاجز عن تسديد تكاليفه، وهذا يؤثر على مصاريفه الصحية، وقوت يومه، ويجعله يجبر أبناءه على مغادرة المدرسة مقابل حفاظه على البقرة أو الأرض. اليوم تم عزل أراض كثيرة، حيث تتوفر كمية كبيرة من المياه السقوية، إذ يتم استعمال منتوج ذي قيمة ضعيفة جدا، وهو إنتاج القمح. في المقابل يمكن الاستثمار في منتوجات في الصناعات الطبية والصيدلية، أو منتوجات في الصناعة الغذائية. لذلك، فآمال الثورة لم تحقق، لأنه لم يقع تحول استراتيجي، سواء على المستوى الصناعي أو السياحي أو الفلاحي. كما أنه لم يقع أي تغيير على مستوى المؤسسة التعليمية والتكوينية. وضعف استعمال براءات الاختراع والتكنولوجيا ناتج عن ضعف مؤسساتنا التعليمية. وهذا يتجلى في عدم تطرق مختبرات البحث إلى الإشكالات الاقتصادية، والسياسية، والمؤسساتية الحارقة في تونس. وبالتالي، فالمعرفة والخبرات تأتينا في علب جاهزة كعلب السردين، إذ يأتي الخبير الأجنبي ليقدم لتونس حلولا منفصلة عن إشكالاتها الاقتصادية، والاجتماعية، والإنسانية، والمؤسساتية. لذا من اللازم القيام بمراجعة على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي. – هناك تراجع في إنتاجات النخبة التونسية، التي كانت تعاني هي أيضا من غياب الحرية، لكن اليوم زال هذا العائق. كانت ولا تزال هناك حرية في اختيار مواضيع البحث، لكن الإشكال أنه كانت هناك إشكالية في التعامل بطريقة مؤسساتية مع مختلف مصادر المعلومة. فالأستاذ الجامعي إذا أراد الاشتغال على الاختلالات الجهوية، وتوزيع الدعم، وخلق القيمة المضافة، والفقر، والبطالة، ستمنع عنه المعلومة من قبل المؤسسات صاحبة القرار. وحتى المعطيات الموجودة لدى المؤسسة الوطنية للإحصاء كانت ممنوعة عن المؤسسات التي تشتغل في هياكل الدولة. إذ كانت لا تستطيع الحصول على المعطيات المتوفرة في المعهد الوطني للإحصاء. – حتى لو كانت وزارة ما هي التي تريد هذه المعلومة؟ حتى لو كانت الوزارة، فالمعلومة تمنع عنها. سأعطيك مثالا: وزارة التخطيط والتنمية تشرف على المعهد الوطني للإحصاء، والمعهد الوطني للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، وقد تمت عملية الفصل بين المؤسستين على اعتبار أن المعهد الوطني للإحصاء أنيطت به مسؤولية جمع المعطيات، فهو المسؤول عن توفير المعطيات بطريقة قانونية ومؤسساتية، فالمعطى الرسمي في تونس يُحصل عليه من المعهد الوطني للإحصاء، الذي أسندت له مهمة إجراء ونشر دراسات حول جملة من المواضيع حددت مسبقا مثل التنافسية، والقضايا الاجتماعية الاقتصادية، وخلق القيمة، ومد الوزارة والحكومة بتقارير حول تلك الأوضاع، باعتباره مكتب الدراسات الخاص بالحكومة. لكن حين يتوجه المعهد الوطني للدراسات التنافسية والدراسات الكمية إلى المعهد الوطني للإحصاء للحصول على المعلومات لا يتمكن من ذلك. ومن هنا كان الوزير هو الذي يقرر ما إذا كان المعطى سينشر للعموم أم لا، وهل سيتم تقديمه على حقيقته أم بشكل مختلف. كانت تونس تعيش في تعتيم كلي. – الخطير هنا هو تغليط الرأي العام. صحيح. يتم التلاعب بتلك المعطيات. فتقرير حول الفقر والبطالة أعد سنة 2008، لكنه لم ير النور إلا سنة 2012. المعطيات كانت تأخذ طابع السرية. ثم إنه لا يحق قانونيا للأستاذ الجامعي أن تكون له مهمات في مؤسسات أخرى، ومن هنا تم عزل ذوي الخبرات العلمية عن النشاط المؤسساتي أو الاقتصادي. – وحتى الاشتغال في مراكز الدراسات والأبحاث؟ قانونيا، ليس له الحق في ذلك، ولو اكتشف أمره يعرض على المحكمة الإدارية. نعيش في تونس انفصاما بين العقل النظري والعقل العملي. وهذا ينعكس على قدرات الطالب. – هل هذا ما دفع النخبة التونسية إلى الهجرة خارج البلد؟ في تونس غادر 4500 أستاذ البلد صوب دول الخليج، خصوصا السعودية, للتدريس هناك، وهم من خيرة الجامعيين، وهناك من سافر إلى فرنسا. – هل في تونس حرية التدين، خصوصا أنه كان هناك حديث عن قيام نظام بنعلي بتجفيف منابع التدين؟ هذا كان في عهد بورقيبة وبنعلي. فمنشور 118 يمنع على كل فتاة ترتدي الحجاب أن تمارس نشاطا في مؤسسة عمومية، وأن تدرس، أو تعمل في الإدارة. ولو عملت في القطاع الخاص، فإن صاحب المؤسسة سيلقى مضايقات كبرى. التونسيون كانوا ممنوعين من إطلاق اللحى، ومن ارتداء الجلباب. لكن بعد الثورة انفلتت المساجد من رقابة الدولة ووقع تسيب كبير فيها، وبعض الأطراف أخذت الميكروفون وتحولت إلى الأئمة الخمسة. وهذا أدى إلى نشر الفكر الوهابي، الذي ارتبط بتكوين جماعات إرهابية. – هل كان التونسيون بالفعل يمرون إلى مركز الشرطة من أجل تسجيل أسمائهم، قبل التوجه صوب المسجد لأداء صلاة الفجر؟ نعم. الذي يصلي الصبح في المسجد يُستدعى إلى مركز الشرطة، ويسجل في دفاتر البوليس بأنه متشدد دينيا، وأنه منضبط في صلاة الفجر. ومن هناك يعد له ملف، ويصبح تحت رقابة البوليس السياسي. – هل مشاركة حزب «النهضة» الإسلامية في الحكم منحت نوعا من الاطمئنان للتونسيين؟ حركة «النهضة» سعت إلى تقديم أولويات في الحكم، من خلال خدمة المواطنين، وتوفير متطلباتهم في التنمية والاستثمارات، أكثر من اهتمامها بتحقيق أهداف سياسية لها، بل أكثر من خدمتها لمرجعيتها الدينية. إسلاميو «النهضة» لم يكن لهم خطاب ديني، والحركة كانت تفصل العمل السياسي عن مرجعيتها الدينية، وكانت تقوم بعملها السياسي بطريقة مدنية تكاد تكون علمانية، وسعت إلى أن تكون منفتحة، وهذا تأتى من خلال مشاركتها في «الترويكا»، مع حزب التكتل الاشتراكي العلماني، وحزب المؤتمر، رغم تنوع تياراته الفكرية، وقد طلبت رسميا من مختلف الأحزاب اليسارية أن تشاركها الحكم. لقد عملت على جمع الشمل، والعمل جماعيا من أجل تحقيق أهداف الثورة لضمان مستقبل أفضل لتونس. ودخولها في حكومة «نداء تونس» هو تعبير عن عملها وفق منطق تشاركي، إذ طالبت أن يكون اختيار الرئيس اختيارا توافقيا. وقد قدمت تنازلات مع علي العريض حفاظا على تونس. لكن تصوري أن التحول من العمل التنظيمي إلى العمل المنفتح، ومن العمل السري كعقلية ومنطق إلى الانفتاح في المجتمع يقتضي نقاشا كالذي يطرح اليوم لدى أجهزة حزب «النهضة»، وكان نقاشا في المغرب، وهو الفصل بين الدعوي والسياسي. تونس تريد أن تستفيد من التجربة المغربية وكذا التجربة التركية في هذا المجال. وأنا أرى أن تونس تعاني من خمس إشكاليات: على المستوى الاقتصادي، والمؤسساتي، والثقافي، والإنساني، والاجتماعي، وبالتالي فالعملان السياسي والدعوي يذوبان في هذه الإشكاليات الخمس، لأن العمل السياسي جزء من العمل المؤسساتي. في النظام اللامركزي، مؤسسات المجتمع أهم من مؤسسات الدولة. ومن هنا فالسؤال المطروح هو: كيف بإمكان حركة «النهضة» أن تؤطر كافة قواعدها وكفاءاتها، كل حسب اختصاصه، وأن يطالب كل واحد بتشخيص دقيق للقطاع الموجود فيه، ثم تقديم مقترحات، وفي الأخير التحول إلى إنجازها عن طريق الهياكل المتوفرة. الانفتاح الحقيقي هو أن تتحول حركة «النهضة» إلى ما يشبه الكريات البيضاء والحمراء، التي تتنقل في الدم إلى كافة أعضاء الجسم، حتى تحارب الميكروبات والأمراض، وتعطي البدن المناعة، والطاقة، والقدرة على التحرك والنجاعة. ومن هنا من اللازم الانفتاح على كافة القطاعات لتحديد أبرز الإشكالات على المستويات الخمسة، وإيجاد حلول، وتطبيقها إلى جانب كل الفاعلين بطريقة تشاركية. حركة «النهضة» لها كفاءات كثيرة جدا، لكنها أعطت بظهرها لهذه الكفاءات، فهي مقتصرة على جملة من الأنشطة السياسية على مستوى القيادة. وبالتالي، فالتحدي الذي يواجهها هو كيف تستقطب الكفاءات والجامعيين وذوي المستويات العالية والنخب وأصحاب المؤسسات ليكونوا على الأقل متعاطفين ومتشاركين ومساهمين في برنامج الإصلاح. – باعتبارك كنت وزيرا للتخطيط والتنمية الجهوية، كيف تقرأ التصور المغربي للجهوية المتقدمة؟ دستور تونس يضم 12 فصلا تنص على اللامركزية، والعمل هو في تحديد القوانين الترتيبية.هناك العديد من الجمعيات المختصة في اللامركزية، إضافة إلى الإدارة العامة للجماعات المحلية، التابعة لوزارة الداخلية، ووزارة التخطيط والتنمية الجهوية مهتمة بمسألة الجهوية. تونس عبر تاريخها كانت تتميز بمركزية مفرطة، وبالتالي ليس في رصيدها المؤسساتي والقانوني والاقتصادي تجربة في اللامركزية. وهذا ما يميز المغرب عن تونس، لأن بلدكم متقدم بعشرات السنين في مجال اللامركزية مقارنة بتونس. وأقول لك إن تأجيل الانتخابات في تونس من 2015 إلى 2016 سببه أن عددا من القوى تتناقض مصالحها مع اللامركزية، لذلك تسعى إلى تأخيرها. والذي يخيفني أن تتصاعد مشاكل اجتماعية بسبب عزم البلاد مراجعة منظومتها في دعم المحروقات والمواد الاستهلاكية. تونس ستنطلق بدءا من السنة المقبلة في تسديد الديون، وهذا سيثقل ميزانية الدولة.