إذا كانت الدولة، على مَضَضٍ، تدعم العمل الثقافيّ، أو تجد في وجود جمعياتٍ، ومؤسَّساتٍ ثقافية، ضرورة تمليها طبيعة الشِّعارات التي تحملها، في ما يتعلَّق بالديمقراطية والحق في التَّجَمُّع والتعبير، وانخراط المجتمع المدني في التسيير، وتدبير الحياة العامة، أو تأطير المواطنين، فإنَّ هذه الدولة، نفسها، هي التي تجعل من الثقافة، ومن المثقفين، ومن الجمعيات والمؤسَّسات الثقافية، مُجرَّد نوع من الأكسسوارات التي تُضْفِي على هذا الديكور العام نوعاً من المَسْرَحَة التي تقتضيها ضرورة التمثيل، أو المَسْرَحَة، بالأحرى. إذن، هاهي الدولة، خارج ما يجري، أو هي تتعامل مع الثقافة بنوع من التَّقْتِير، ولها، هي، بدورها، مفهومها الخاص للثقافة، القائم على مجتمع الفرجة والاستهلاك، لا مجتمع العلم والمعرفة، فما الذي يجري في المؤسسات الثقافية، التي كان مُفْتَرضاً فيها أن تكون بديلاً عن هذا التعطيل الذي هو من سمات الدُّوَل التي لا تُولِي الثقافة أي اهتمام؟ لنأخذ اتحاد كتاب المغرب، وبيت الشعر، وجمعيات أخرى مثل المحيط وأبي رقراق، وغيرها ممن تعمل بنوع من الأريحية المادية واللوجستية، ولو بصورة نسبية، كما هو وضع الاتحاد، وبيت الشِّعر، مثلاً، إذ نجد أنَّ هذه المؤسسات، بعد تاريخ من العمل الثقافي، الذي كان مبنياً على مشاريع حالِمَة، تحوَّلت إلى مؤسسات لا أفق، ولا معنى لها، لأنها مؤسسات أصبحت تعمل خارج الوعي بدورها الذي وُجِدَت من أجله، وتحوَّلت هذه المشاريع، من مشاريع أفكار، ورُؤى، ومواقف إلى غنائم أشخاص احْتَلُّوا هذه المؤسسات بصيغة أو بأخرى، وجعلوها شبيهة بجمعياتٍ تغدق عليها الدولة، فقط، لتكون جزءاً من الديكور العام، الذي به تستكمل مفهومها للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. في هذا الملف نقف، من خلال أقلام كُتّاب ومبدعين، من الذين خبروا العمل الجمعوي، وكانوا بين من حرَّكُوا في وقتٍ ما البِرَك الآسِنَة، وأحْيَوْا ماءَها، على تشخيص لحالات العطب التي كان فيها لأكثر من طرف دور واضح، مما أفضى إلى هذه الفجاجة الخانِقَة التي بات فيها العمل الثقافي نوعاً من الغنيمة، كما تُساهم فيها الدولة، تُساهِم فيها الجمعيات التي كان مفترضاً أن تكون صورةً حقيقية لديمقراطية المثقف ونزاهته، بعيداً عن كل أشكال الإقصاء، والهيمنة والاستحواذ، التي لم تكن من سمات المثقفين، ولا من شِيَمِهِم، وأعني، دائماً، المثقف الذي لا يتنازل عن فكره، وعن القيم التي بها يَبْتَنِي أفق رؤيته، وما يكتبه من أفكار. اتحاد كتاب المغرب أصبح منظمة تخبط خبط عشواء.. الطاهر الطويل نعم، هناك حاجة إلى بقاء واستمرار اتحاد كتاب المغرب، بشرط أن يقوم مكتبه التنفيذي الحالي بوقفة مراجعة نقدية ذاتية لمساءلة سبب وجود هذه المنظمة الثقافية وكينونتها وآفاق عملها. فعوض أن يشكل اتحاد كتاب المغرب قاطرة لطموحات أعضائه المتمثلة في المساهمة في التغيير من أجل مجتمع حداثي وديمقراطي، تكون ضمنه المعرفة حقّاً متاحا للجميع، وعوض المساهمة في الارتقاء بالأوضاع الاعتبارية للكتاب المغاربة وبمكانة الكتاب والقراءة؛ نجد الاتحاد قد أصبح مجرد جمعية كباقي الجمعيات، تنحصر مهمتها في تنظيم الأنشطة الثقافية هنا وهناك، ومزاحمة المكتب التنفيذي للفروع المحلية بل والنيابة عنها في إقامة الندوات واللقاءات الثقافية. يبدو أن الاتحاد منذ بضع سنوات ماض في التخلي عن أدواره الطلائعية، بعد عقود من التمترس في الخندق المعارض للسلطة وللمؤسسة الرسمية، إلى حد يجوز معه التساؤل :هل أمسى اتحاد كتاب المغرب مجرد ديكور يؤثث المشهد العام في البلاد؛ لاسيما بعدما «طبّع» علاقاته مع الكل تقريبا؟ وبدل أن يكون تطبيع العلاقات هذا (حتى إذا سلّمنا به تجاوزاً وبراغماتياً) في خدمة الثقافة المغربية والكتاب المغاربة والكتاب المغربي، وفي النضال من أجل سياسة ثقافية وطنية ومواطنة، وجدنا اتحادَنا يبدو كالحائر الذي لا يهتدي إلى سبيل، يخبط خبط عشواء في كل اتجاه. لقد صارت قيادة الاتحاد أسيرة «عقدة تدني المطالب»، بتعبير أحد كُتّابنا؛ ودليل ذلك استنساخ ندوات ولقاءات ومناظرات أكل عليها الدهر وشرب، بالإضافة إلى الولع الشديد لرئاسة الاتحاد بالتقرب من المسؤولين المغاربة والعرب، من خلال موضة التوقيع على اتفاقيات» الشراكات» التي لا تنتهي…فهل من أجل ذلك أُسس اتحاد كتاب المغرب؟ أخلص إلى القول بأن مسؤولية أعضاء المكتب التنفيذي ثابتة في الحرص على استقلالية هذه المنظمة الثقافية، وفي تقويم أي انحراف عن المسار قد تؤدي إليه نوازع ذاتية معينة. مُؤسَّسات تَغْتالُ المُثَقَّف النَّزيه مالكة العاصمي سادت ممارسات معينة في الحقل العمومي المغربي طيلة الثلاثين أو الستين سنة الماضية، لا بد من التذكير بها، لأن ما يعانيه المغرب اليوم في مؤسساته الثقافية أو الحزبية أو التمثيلية، وفي الدولة نفسها، ليس سوى آثار ممارسات تمت في الماضي وتراكمت على بعضها لتنتج الفشل والدمار الحالي. أعتقد أن من واجبنا أن نُجْرِي نقدا نزيها لهذين الحقلين، الثقافي والسياسي، لما بينهما من تداخل، وأن نناقش المواقف، وأن نحدد المسؤوليات بصدقية ومسؤولية ووضوح، وأن نَطَّرِح، جانباً، الأكاذيب والادعاءات والأضاليل. هذا الواقع ليس جديدا بالنسبة إلي، على الأقل، إذ رأيته جليا واضحا في مرآة الماضي. أي راصد حصيف يمكن أن يُعْتَبَر مُتخصِّصا في الدراسات المستقبلية أو رائيا. وشخصيا، قمت بعمليات الرصد والتتبع والتحرك والمراقبة لعدة حقول، ثقافية وسياسية واجتماعية، وعرفت أنها لا بد واقعة، وحددت المدى الذي ستسقط فيه سقطتها النهائية أو ما يشبهها. هل نتوقع أن تكون المؤسسات الثقافية أحسن حالاً مما هي عليه باقي مؤسسات البلاد الأخرى؟ ربما سقطت المؤسسة الثقافية قبلها جميعا، وهي التي آذنت بسقوطها. كان المثقفون ركائز في البنيات السياسية. هل كانوا في مستوى مسؤوليات المثقف؟ وهل مارسوا في سلوكهم وأنفسهم ما كانوا يقولونه ويطالبون به؟ وهل سمحوا لكائنات وصولية انتهازية أن تتسرب إلى صفوفهم؟ أم إنهم أفسلوها واستعملوها فاستأسدت في المجال، أو استأسدت عليهم أيضا؟ هناك مشكل النخب وحدود مطالبها وفعلها، وهي التي أنتجت وتنتج الفشل أو النجاح، في الحاضر كما في الماضي. المثقفون العضويون الحقيقيون، أو ما يمكن تسميته بالنُّخَب النزيهة، اسْتُهْدِفُوا في المؤسسات الإعلامية والحزبية والاجتماعية. وأزيحوا، فَطمِسَتْ أصواتهم. وعُتِّمَ عليها، وغالبيتهم ماتوا كَمَداً، أو اغتيلوا، واقعيا أو رمزيا. ليست المؤسسات الثقافية سوى أرض أخرى للصراع ضد حضور وتعبير وفعل المثقف العضوي النَّزيه. لقد استنفرت جهات لممارسة الإرهاب الفكري والإرهاب المؤسسي ضد هذا النوع من المثقفين. إذا اختلف المثقف مع البنيات السياسية تُقصيه وتحاصره، وأحيانا تعدمه أو تضعه في تزمامارت. كذلك البنيات الثقافية إذا لاحظت وجود مثقف من هذا النوع، تنهشه بكلاب الحراسة التي تبثها وتستقطبها لمثل هذه المهام، وتحشدها في المؤسسات الثقافية للنهوض بهذا الدور. هذه الممارسة التي سادت في فترة معينة، أفرزت في الواقع الجديد فشلا عاما، تداعياته القادمة أخطر مما ننتقده أو نتألم منه اليوم. نحن منذورون بمخاطر كبرى إذا استمر المثقفون أساسا على هذه الهشاشة، واستمرت بنياتهم بهذه السلبية والتهافت أو التبسيط. هناك تحديات كبرى ورهانات مطروحة على البلاد في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد ومخططاته وبرامجه ومتطلباته منها. لقد ظهرت ثقافة ومؤسسات جديدة موازية مدمرة، وأفكار ومشاريع وبرامج وبنيات تفعل وتتحرك في ثنايا المجتمع، وتمارس فعلها بوقاحة حينا، وبأياد ناعمة حينا آخر. وهناك مثقفون على قدر من الهشاشة والقابلية للسقوط، وتبدو المؤسسات الثقافية المغربية القائمة سلبية أو غائبة عن هذا الواقع، أو مشلولة أو غير مثقفة، ولا مستوعبة لما يجري، أو متواطئة أو غير ذلك من الاحتمالات. هناك إشكال كبير اليوم. وكما أن الديمقراطية لا تقوم إلا بالديمقراطيين، كذلك الثقافة والفعل الثقافي والمؤسسات الثقافية لا تقوم إلا بالمثقفين الحقيقيين المسلحين بقدر من الوعي النقدي الحصيف. ونرى اليوم أن غالبية المثقفين أو النخب، حتى العالمة، وضعت نفسها في سوق النخاسة، تبيع الأفكار والمواقف لمن يدفع أو من يضمن المواقع والمصالح وشبه ذلك، بعيدا عن تحمل مسؤوليتها التاريخية. مسؤولية النخب كبيرة وحاسمة. يبدو لي أننا الآن في مرحلة السقطة الكبرى، وأن أوضاعنا لم تعد تسمح بالنهوض في الظرف الراهن، لأن النخب الحالية على قدر من الهشاشة لم يسبق لها نظير، والقوة المؤهلة للتغيير مستهدفة ومحاصرة ومهددة، وأن الأجيال الجديدة لم تتلق التكوين الفكري والوطني، والتنشئة على القيم، كما كان عليه الأمر بالنسبة إلى الأجيال السابقة، وحتى بالنسبة إلى جيلنا الذي كان مستعدا لكل العواقب وهو يخوض معركة تحرير الثقافة والمثقف من قبضة السلطة. لقد دفعنا ثمنا غاليا لم يقدره من سلمناهم مسؤولية صون وحماية شمس الحرية والتحرر، رغم أننا كنا قرابين أمام أعينهم. لكنهم لم يقدروا الهدية الثمينة التي قدمناها إليهم، كما لم يقدروا مقدار ما نعانيه لقاء ذلك فيحافظوا عليه. هناك مشكل كبير. لست عدمية ولا متشائمة. أنا باحثة أنثروبولوجية أو مفكرة أو قريبة من ذلك أو ما يشبه ذلك. مهرجان أصيلا..بكل هدوء يحيى بن الوليد سيكون أي كان «حالة مرضية» في حال اعتراضه على جهة من الجهات في تقاليدها المحمودة على مستوى الحرص على التعاطي للمسألة الثقافية وتوفير مهرجانات لها، وغير ذلك من أشكال تنزيل الثقافي إلى اليومي، ولا سيما بالنظر إلى الأهمية الراديكالية للثقافة على مستوى التصدي ل»التجريف»، بشتى أشكاله، الذي صار المغرب، بدوره، مجلى له؛ على النحو الذي راح يؤكد على أن جانبا أساسيا في المشكل كامن في الذهنية بعد أن نهشها «التصحّر الثقافي» و«الخواء اللغوي». غير أن مناط الاعتراض، هنا، في الذكاء الانتهازوي السافر، والسخيف، لجعل الثقافة مطية لأوساخ لا تقلّ خطورة عن أوساخ السياسة، ما لم نقل تطمس هذه الأخيرة وتتفوّق عليها بأشكال شتّى. وبالنظر إلى إقامتي اليومية بأصيلا، المدينة الصغيرة والمفترى عليها إعلاميا، أكثر من أي مدينة مغربية، وبالنظر إلى اشتغالي على قطاع الثقافة، وفي مقالبها ومكائدها أيضا، يسهل عليّ، من خلال ما يعرف ب»مهرجان أصيلا الدولي»، التأكيد على أن هذه المدينة «مختبر متفرِّد» للفساد الثقافي في تشابكه الدقيق مع الفساد السياسي في أفظع تجلياته. والمؤكد أن ما أقدمت عليه «الجمعية الوطنية لحماية المال العام»، قبل أيام، حين بعثت، في حال مدينة أصيلا تعيينا، برسالة إلى الوزارة المعنية، جدير بأن يعفي من الشرح في الموضوع. وللمناسبة، فالرسالة متداولة في شبكات مواقع الاتصال الدولي، وقد تضمنت معطيات «عقارية» خطيرة، على النحو الذي جعل الرسالة تطالب بإخضاع «حاكم أصيلا الأبدي» إلى مسطرة القانون الجنائي. لا أخفي أنني كتبت، وكتبت، عن هذا المهرجان العجب الذي لا يعلمه كثيرون، لكي لا نشير إلى المأجورين من العارفين، أن ما يعرف ب»منتدى أصيلا» لا وجود له بمعزل عن المجلس البلدي الذي ظل حاكم أصيلا مصرّا على التشبث به على مدار يزيد على ثلاثة عقود. ودونما دخول في الطريقة ذاتها التي يحصل بها كل مرّة على المجلس، وتكفي الإشارة إلى أنه، منذ العام 1992، لا يملك شجاعة اعتلاء المنصة لأنه يعرف ما ينتظره. إجمالا، لقد وفّر المجلس البلدي لمنتدى أصيلا درعا عقاريا غامضا، مثلما وفّر لمهرجان أصيلا موارد مالية وبشرية سخية وغير متوفرة لمهرجانات أخرى. فالرجل يحصل على غلاف مالي خيالي، يوظفه في أكذوبة الثقافة كما في حملته الانتخابية المستديمة. وإذا كانت المدن المجاورة لأصيلا ذات «هوية فلاحية وبحرية»، كما حال العرائش، أو «هوية تجارية فلاحية»، كما حال القصر الكبير، أو «هوية سياحية»، كما حال مرتيل… ففي أصيلا، لا مجال لمثل هذه الهوية. فالثقافة لم ترق إلى أن تمكّن المدينة من هذه الهوية، على الأقل من الناحية السياحية. يكفي أن نشير، تبعا لإحصائيات رسمية، إلى أن مرتيل تستوعب ما يزيد عن 400 ألف سائح خال عطلة الصيف، فيما لا تتجاوز أصيلا على أبعد تقدير 150 ألف سائح دون نسيان المستوى الاجتماعي لهؤلاء. إضافة إلى الصناعة التقليدية، التي كان من الممكن تنشيطها، كما في حال الصويرة، التي تمثل فيها 17 في المائة من دخل المدينة، والتي يعقد فيها، وسط العام، مهرجان كناوة، الذي يستجلب 400 ألف زائر على مدار لا يزيد عن أسبوع واحد. هناك مشكل آخر، في حال أصيلا، وهو أن منتداها، الذي يتمظهر بالثقافة، يعقد الصفقات ويبني ويبيع الشقق، مما يطرح السؤال حول ما إذا كان هذا المنتدى ثقافيا أم أصلا تجاريا. إجمالا المهرجان مرفوض، بشكل قاطع، من قبل الغالبية العظمى من الأهالي من أبناء المدينة. والدليل على ذلك السخط الذي صار يواجهه هذا المهرجان في افتتاحياته الأخيرة، على النحو الذي أرغم فيه حاكم أصيلا كما وفده على الفرار وسط الغبار من خلف «لكْوادرة» (الإسطبل) التي افتتح فيها مهرجانه قبل ثلاث سنوات، وعلى النحو الذي أرغمه بعد سنة على تهريب الافتتاح إلى مكتبة بندر المسيجة بالحديد من جهات ثلاث، لكن مع ذلك تكرّرت اعتقالات الناس وحرم الحاكم من نشوة التجوّال وسط المدينة. لقد بدا واضحا أن المهرجان لا يمكن افتتاح «أشغاله» دون حراسة أمنية مشدّدة وكثيفة، ودون عسكرة المدينة عن آخرها. وأظن أن الرسالة الملكية التي حرم منها المهرجان، خلال دوراته الثلاث الأخيرة، جاءت في محلها. وعلى ذكر المكتبة، فأصيلا كانت تنعم بمكتبة غنية ومتوفرة على كتب نادرة تعود إلى الثلاثينيات من القرن المنصرم، وبعد أن تم هدمها ظلت المدينة، على مدار خمسة عشر عاما، بدون مكتبة أو بمكتبة مهجورة في سرداب لا يجرؤ أحد على بعث أبنائه إليها. وعندما تمّ تشييد مكتبة أبى الحاكم إلا أن يكون الطاقم التابع لوزارة الثقافة تحت إمرته، وعندما رفض من رفض الانصياع لهذه النزوة التسلطية غير السوية تمّ تشتيت هؤلاء ما بين طنجة وقرى مجاورة وعلى حساب ملفهم الاجتماعي. وللأسف، لم يتم الالتفات إلى ملف هؤلاء والتعامل معه بجدية إرضاء لحاكم المدينة الأبدي. وحتى الآن لا تزال المكتبة تحمل عنوانا مبهما لا صلة له بالأدبيات المنصوص عليها في دولة «الحق والقانون». سيقول قائل إن الذي نعترض عليه، وبشراسة ملحوظة، كما سيضيف هذا المعترض، أبدع وأنشأ بنيات. ورأيي هو مع مركب ثقافي، بمواصفات مقبولة، وقبل هذا وذاك تابع لدولة الحق والقانون كما أسلفنا حتى لا يتمّ فيه تصريف الأعطاب النفسية وإرضاء المجموعات الداعمة والمنبطحة. ورأيي هو عدم التستر على الجرائم العقارية باسم الثقافة التي هي أنبل من أن يتم استعمالها في لوثة الفساد السياسي. ورأيي كذلك مع عدم التسوّل والارتزاق بكرامة الناس والفقراء، في عواصم الخليج، والحصول على غنائم لا يعرف حجمها إلا المعني بأمرها، من أجل مهرجان باهت لا يتعدى أسبوعين لا أكثر. وكم كان سيكون مفيدا لو أن أموال المهرجان، التي يتم الحصول عليها باسم ساكنة المدينة وباسم كرامتها وبراءتها ومعاناتها المفتوحة، تصرف في ما يدعم «ملفها الاجتماعي» وفي المدار ذاته الذي لا يقصي الثقافة ذاتها من «الدورة السياسية». كما أنني لا أملك صلاحية الاعتراض على مشاركة «منتجي الأفكار وعمّال المعرفة» في هذا المهرجان، والكثير منهم أصدقاء لي من المغرب وخارجه، ألتقي بهم طبعا خارج «مربّع الفساد». ذاك أن المثقف هو آخر من يمكن شرح ما ينبغي شرحه له. وأظن أن الحد الأدنى من الأخلاق، أو «الإيتيك» بالتعبير الفرنسي، لا يزال مطلوبا. ولذلك أجدني ضد الأبواق الزاعقة، والصدئة، التي تلخص المغرب، بأكمله، في أصيلا بحثا عن «الضلع والجزيرة»… بل تقاتل، بشراسة فولاذية، من أجل دعم الفساد ومن أجل دعم شخص مع احترامي للقارئ محدود المعرفة، لكنه مجيد ل«خواء الشهرة» ومنطق «الشكارة» مثلما هو مصّر على القتال إلى «الربع ساعة الأخير». لسنا ضد الثقافة بمعناها الإنسانوي الأنبل، لكننا ضد الثقافة بمعناها الارتزاقي المترهّل على نحو ما هو حاصل في «مدينة الثقافة والفنون» تبعا للكليشيه الخادع والمترهّل بدوره. أعتقد أن السياق الذي جاء فيه المهرجان لم يتغيّر فقط، وإنما راح أيضا. كما أعتقد، باطمئنان المؤمن، ومن ناحية الثقافة تحديدا، وفي مغرب اليوم ككل، أنه لا مجال ل«تجْبادْ لوْجَهْ» و«تخْراجْ لعينينْ»…. إلخ. سؤال المؤسسة الثقافية سعيد يقطين يمكننا التمييز بين نوعين من المؤسسة الثقافية :لازمنية وزمنية. أما الأولى فهي متعالية على الزمن، وهي غير ذات طبيعة مادية. إنها المؤسسة الثقافية ذات البعد التاريخي، وتتمثل في اللاشعور الثقافي الجماعي، أو المتخيل الثقافي لأمة من الأمم، والذي ينهل منه المثقفون والمبدعون، وفي نطاقه ينتجون ويفكرون. إن المؤسسة الثقافية التاريخية مغرقة في الزمن، وجذورها غير قابلة للتحديد، يمكن البحث عنها في ما هو سائد في أنماط التفكير والتخييل لدى المجتمع، ونجد لها أبعادا في اللغة والتاريخ وفي الثقافة الشعبية بصورة عامة. وهي تغتني في الصيرورة التاريخية بما يطعمها أو يغنيها. ورغم حصول تطورات ثقافية جديدة، مع الزمن، فإن رواسب المؤسسة الثقافية العريقة تظل ماثلة: الثقافة الإسلامية، مثلا، لم تمح نهائيا آثار الوثنية. كما أن الثقافة الفرنسية الغربية، التي تفاعلت معها الثقافة المغربية، لم تحل محل الثقافة العربية الإسلامية في المجتمع المغربي. أما النوع الثاني فنسميه المؤسسة الثقافية الاجتماعية، وهي ذات بعد زمني، لأنها تتحدد في واقع معين، ويمكن رصدها في نطاقه. إنها ما يتشكل في حقبة معينة من خلال الإنتاج والتفكير في الثقافة، ومختلف الوسائط التي تتحقق من خلالها. وهي تستمد مقوماتها من الثقافة الأولى، وفي الوقت نفسه تتحقق ماديا من خلال عملية التدبير الثقافي، عبر الجمعيات والجماعات المختلفة التي تشتغل بالعمل الثقافي. لا يمكن للمؤسسة الثانية أن تتطور إلا بتفاعلها الإيجابي مع الأولى، التي تمثل جذورها، ومع مختلف الإنتاجات الثقافية البرانية المعاصرة لها، التي تعتبر روافد لثرائها وارتباطها مع العصر. إنها وهي تتأسس على قاعدة التفاعل مع التاريخ والعصر، تعمل على تطوير وعيها بطبيعتها، والوظيفة التي تسعى إلى تحقيقها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك بدون قدرتها على استيعاب مختلف الأطياف الثقافية الوطنية، على اعتبار أن العمل الثقافي المؤسسي جماعي وذو بعد وطني لأنه يجسد تطلعات الشعب أو الأمة واستشرافها للمستقبل. وبالنظر إلى واقعنا الحالي، نجد أن مفهوم» المؤسسة الثقافية»، بالمعنى الذي حاولنا تحديده، غير متحقق بالمعنى الذي يعطيها الطابع الذي يضمن لها صلة بالمؤسسة الثقافية التاريخية، بصورة واعية، ومنظمة، من جهة، وبالثقافة المعاصرة، من جهة ثانية، وبالفاعلين الثقافيين، من جهة ثالثة. ويكفي أن نتأمل واقع» وزارة الثقافة»، التي يفترض أن تكون» المؤسسة الثقافية «الوطنية التي ترعى شؤون الثقافة، وتعمل على تدبيرها، وفق المحددات المذكورة، التي تلخص» الرؤية الاستراتيجية «للعمل الثقافي المغربي، لكننا نجدها تكتفي بشؤون التسيير الإداري، عبر تقديم الاعتمادات، وتنظيم المهرجانات، أو المساعدة عليها، وإصدار مجلات، ومنشورات. ويمكن قول الشيء نفسه عن اتحاد كتاب المغرب، الذي تأسس في شروط خاصة، كانت ترمي إلى جمع شمل الكتاب في مؤسسة ذات بعد مغاربي. وبفشل هذا المشروع صار تجمعا لكتاب ومثقفين يسعون إلى تشكيل جبهة معارضة للنظام، وتكون بذلك امتدادا للحركة الوطنية، والديموقراطية، في الصراع نفسه. وعندما تم تجاوز هذا الدور، بعد التطور الذي عرفه التجاذب بين المعارضة والنظام، عاد الاتحاد إلى أصله كجمعية ثقافية، لا تختلف عن بقية الجمعيات، تقوم بأنشطة، وتصدر مجلة، وتطبع كتبا. ويمكن تعميم الواقع نفسه على باقي الجمعيات الثقافية، ومؤسسات «المجتمع المدني». إنها تشتغل بالكيفية نفسها، والتصور عينه الذي يغيب فيه الانطلاق من فهم خاص للمؤسسة الثقافية، وتصور محدد لطبيعتها ووظيفتها في المجتمع. لذلك لا غرابة أن نجد العمل الثقافي المغربي لا يزال يتحقق خارج المؤسسات الثقافية المختلفة، ولا يزال المثقف المغربي، في مختلف أشكال الممارسة الثقافية التي يضطلع بها، ينجز عمله بمنأى عن المؤسسة، أو في تعارض معها، أو على هامشها. إن المؤسسات الثقافية الوطنية لا تقوم بدورها المفترض إلا بصورة محدودة، ولذلك لم تراكم تقاليد تصبح جزءا من الوعي والممارسة. إنها غير قادرة على جمع شمل المثقفين، واستيعاب مختلف التوجهات والأطياف، وتوجيه عملهم لخدمة أهداف محددة، تسهم في فتح ورشات متعددة لضبط طبيعة العمل الثقافي ووظيفته ومقاصده للنهوض بتطور المجتمع على المستوى الثقافي، الذي بواسطته يمكننا قياس مدى تطور المجتمعات ورقيها. إن المؤسسة الثقافية، التي نتحدث عنها دائما، هي المؤسسة الثقافية «العصرية»، التي نختزلها في وزارة الثقافة واتحادات الكتاب وبيوت الشعراء والقاصين والمسرحيين والسينمائيين… والجمعيات الثقافية المختلفة. لكننا لا نتحدث عادة عن المؤسسة الثقافية» التقليدية»، وكأنها لا تقوم بدورها الثقافي في المجتمع؟ أقصد بذلك» وزارة الأوقاف». أعتبر وزارة الأوقاف مؤسسة ثقافية وطنية بامتياز. إنها تضطلع بدورها الثقافي، في المجال الديني، وفق المحددات التي صدرت بها هذه المقالة، وبالأخص ما اتصل منها بالتفاعل مع المؤسسة الثقافية التاريخية، وبعلاقاتها بالفاعلين في مجالاتها. لكني أرى أن تفاعلها مع المؤسسة التاريخية يظل مقتصرا على إعادة الإنتاج. وهي على أهميتها لا يمكن أن تطور الحقل الثقافي الديني المغربي، ما لم تقم بالتفاعل مع الثقافة الحديثة، بانفتاحها على العلوم الدينية الأجنبية الجديدة، والمقارنة، وعلى العلوم الإنسانية لتعطي للثقافة في بعدها الديني أبعادا فكرية واجتماعية جديدة. إن المؤسسة الثقافية كل متكامل، وتحليل واقعنا الثقافي وتشخيص مختلف مؤسساته، مطلب حيوي، وضرورة لفهم واقعنا الثقافي في مجمله، بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش، وإلا لن نتمكن من وضع الصورة المنشودة للمؤسسة المطلوبة للنهوض بالثقافة المغربية في مختلف أبعادها وتجلياتها. الريع الثقافي صلاح بوسريف لا يمكن بناء مُجتمع قوي ومُتماسِكٍ، بدون إنسان، أعني بدون ثقافة. لا غرابة في هذا الرَّبْط، أو في هذه المُعادلة، التي تتأكَّدُ اليوم بكل وضُوح، في ما يجري في واقعنا السياسي والاجتماعي، من ذهابٍ نحو الأفُول. أن نستعمِل الإنسان في القَتْل، وفي تدمير الحياة، وإلغاء الفَرَح، في مُقابل البؤس، وتغليب الجهل على المعرفة والوعي، فهذا يعني أننا أفْرَغْنا الإنسان من نَفْسِه، من قدرته على التَّمْييز، وعلى إدراك طبيعة وُجوده على الأرض، التي هي طبيعة ثقافية، تتأسَّس على المعرفة، وعلى الاكتشاف، وتطوير العلوم، والنظر إلى الإنسان باعتباره قيمة القِيَم. وإذا كانت الثقافة هي إنتاج الرموز والدَّلالات، فهي أيضاً مُؤسَّسات، وما نعنيه بالمؤسسة، هنا، هي مؤسَّسات الرِّعاية، وتدبير الشأن الثقافي، أو ترويج المعرفة، وإيصالها إلى مختلف شرائح الناس، دون تمييز أو مَنْعٍ. فالمدرسة والجامعة، إضافةً إلى دورهما التعليمي، هُما في الأساس، كما فَكَرَهُما الإنسان في العهود الأولى لظهور الكتابة، مؤسستان ثقافيتان، عبرهما كان الإنسان يُنْجِز انتقاله من مجتمع الطبيعة إلى مجتمع الثقافة، أو العلم والمعرفة، وهو ما يمكنه أن يسري على المكتبات، وعلى الجمعيات التي أسَّسَها «المثقفون»، ومَنْ يَهُمُّهُم أمْرُ الثقافة، أي أمر الإنسان الذي بدونه لا يمكن إخراج المجتمع من مآزقه الخانِقَة، ووضعه، بالتالي، في سياق صيرورته الطبيعية، التي هي فكر الإنسان وهو يتقدم، وينظر إلى المستقبل. هل المؤسسات الثقافية كانت في مستوى هذا الوعي؟ وهل هذه المؤسسات، بمختلف تلوُّناتِها، فَهِمَتْ أنَّ الثقافة هي أفق، وهي مشروع فكري، لا يمكن إنجازه، أو حتَّى تفكيره، إذا ما انْتَفَى منه الوعي بوجود الإنسان، كشرط، وكضرورة، وقَدَر؟ أم أنَّ هذه المؤسسات هي مشاريع فارغة من المعنى الثقافي، ولا تعمل سوى على تأجيج الفُرْجَة، وترويج الفكر النَّائم، وبالتالي، تعطيل قدرة الإنسان على الانخراط في المجتمع، والمشاركة في اقتراح الأفكار وبنائها؟ من ينظر اليوم في ما يجري في واقعنا الثقافي الراهن سيُدْرِك، دون جُهْد وعناء كبيريْن، أنَّ المؤسسة الثقافية عندنا تعيش في وضع حَرِجٍ، وهي مؤسسة معطوبة، مشلولة، تمشي على عكاكيز مُهْتَرِئَة، مسَوَّسَة من الدَّاخل، وأنَّ المرض الذي طاوَلَها مرض عُضال، فَتَك بكل أطرافها التي كانت، في ما مضى، تتفادى السَّهَر والحُمَّى. وهذا واقع، وليس اتِّهاماً، أو حُكْماً مُؤسَّساً على أحقادٍ. فاتِّحاد كتاب المغرب، الذي كان بالأمس القريب مؤسسة للثقافة التنويرية الحداثية، أسسها مثقفون كانوا منخرطين فعلاً في الفكر والإبداع، وكانوا مناضلين، بقدر ما يكتبون ويُبْدِعون، بقدر ما يخوضون في السياسة، وفي النضال السياسي، ويدخلون في مواجهات مع السلطة، ومع فكر السلطة، خرج اليوم، منذ أواخر التسعينيات، تقريباً، من دوره هذا، وفقد استقلاليته، ودوره التثقيفي التوعوي والتنويري، رغم هيمنة السياسي عليه، آنذاك، وأصبح مؤسسة بدون معنى ثقافي، أو مؤسسة «ثقافية» بدون مثقفين، لأنَّ أغلب المثقفين ممن يحملون هذه الصفة، بما تعنيه من مسؤولية، وقدرة على النقد، والحرية في الرأي والقرار، تركوا المؤسسة وانشغلوا، بشكل فردي، بمشاريعهم الخاصة، وبكتاباتهم، لأن هذه المؤسسة أكلها الفساد، واحْتَلَّها غير المثقفين، ممن كانوا حريصين على الغنيمة، وعقد الصفقات، وتدبير شؤون الحج، وغيرها، مما عَطَّل، أو أصاب هذه المؤسسة في مقتل، كما يُقال. فأن تتحوَّل مؤسسة مثل هذه إلى ملكية لأفراد، أو ملكية للرئيس، وحده، ما جعله يدخل في منازعات مع من هُم معه في قُمرَة القيادة، ممن جَمَّدُوا عضويتهم في المكتب المسير، وغيرهم من الكُتّاب الذين رفضوا المشاركة في مناظرة وَهْمِيَة فقدت مشروعيتها، أو لم تعد أوراقها تصلح، لِما مرَّ عليها من وقت، ولِما استجَّد من أحداث ومواقف، ولم يتم تحيينها، فهذا يعني أنَّ هذه المؤسسة، اليوم، هي مؤسسة بدون مشروع ثقافي، وبدون حياة، وأنَّ ثمَّة ما يدعو إلى ضرورة مُحاسبة المسؤولين فيها على هذا المال العام الذي يُسْتَعْمَل في شراء الذِّمَم، وفي ضمان استمرارية سلطة الفرد، في مواجهة الجماعة، أو مواجهة الرأي المُخالف. الفساد الثقافي اسْتَشْرَى في هذا الجسم، واسْتَفْحَل إلى الحد الذي جعل منه جثة متعفِّنَة، حتَّى وهي تبدو حيَّة، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. فالمشاريع الثقافية الكبرى التي كان اليسار، البارحة، يفكر في إنجازها، أو يعمل على تنظيرها، ووضعها في سياق المجتمع الذي فكَّر فيه، كبديل عن الاختيارات التي كانت سائدة، لم يتحقَّق، لأنَّ السياسة أفْسَدَت كل شيء، ولأنَّ السياسة لم تكن مبنية على اختيارات ثقافية، وهذا ما سيجعل المجتمع يبدو عارياً من كل شيء، لأنه مجتمع غير مسنود بمؤسسات ثقافية يعنيها الإنسان، في تربيته، وفي فكره، وفي ما يتلقَّاه من قِيَم، ومن علوم ومعارف. شُلَّتْ قَدْرَة الإنسان على التفكير، وعلى الإبداع، لأنَّ هذه المؤسسات، التي كانت سنداً له، هي مؤسسات لا حياة فيها، أو هي مؤسسات مشغولة بغنائم الحروب لتي خاضَتْها لبلوغ المناصب، ولعقد الصِّلات والصفقات مع مؤسسات الدولة ورجالاتها، ما جعل منها مؤسسات فاقدة للشرعية الثقافية، وفاقدة للاستقلالية، ولحرية القرار. المؤسسات الثقافية بالمغرب في سياق مغاير أبو يوسف طه إن ملاحظة الوضع الثقافي بالمغرب تبادئنا بفتور بخصوص الجدل حول القضايا ذات الصلة العضوية بمشكل الهوية، عدا ما أثير حول تدريس العامية، وهو أمر لا محل له من الإعراب، بالإضافة إلى الخطاب السياسي ذي لغة الخشب، والحال أننا نجد أنفسنا في غفلة عن أن نتحسس بأصابعنا تربة هذا الوطن لنحدد طبيعتها، ومستوى خصوبتها، والسماد الأكثر فعالية في إثمار أغراسها. إننا نملك تاريخا زاخرا بالهزائم والانتصارات، وتنوعا في التراث، وكتابا في مختلف المعارف والأجناس الأدبية، لكن ذلك متروك كنبات بري، فكل واحد يشق مساره غير مبال بغيره لافتقار مجتمعنا إلى الدينامية التي يحركها قلق السؤال. ففي الوقت الذي تشرّع وسائل الإعلام المرئية الباب أمام الإنتاج الدرامي والسينمائي والغنائي السخيف، نجد صمتا، إلا في ما ندر، لتصويب الوضع، علما بأن أثر ذلك على توليد أنماط من السلوك الاجتماعي المدمر واضحة. في المقابل نجد مؤسسات وجمعيات تحرص، بإمكانيات متواضعة، على الرقي بالممارسة الثقافية، لكن دون أفق واضح، فيكون الأمر أشبه بفقاقيع تنتفخ لتنفجر في التو دون فائدة، إلا من زاوية تشحيم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. وفي نظري، يُعزى جانب من الأمر إلى ولوج الحقل الثقافي من باب الهواية لا التخصص وسيادة منطق التغاضي والمجاملة، ولا أجازف إذا أكدت أن نشاطا هنا وهناك، يعكس حيوية ثقافية، بل هو، في غالب الظن، حركة من أجل الحركة. يقينا أننا نشهد، في القرن الواحد والعشرين، طفرة في المعرفة ووسائل الاتصال، وباعتبار الوضع الحساس للمغرب، من حيث الموقع الجغرافي، يجب أن تكون المؤسسات الثقافية على غير ما هو مألوف، العالم من حولنا يغلي كالمرجل: تفكك دول لم تفلح في تجاوز منطق القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، جبروت الغرب، انتشار ثقافة التطرف والانغلاق، استشراس الفاسدين، ضياع الشباب بين البطالة والمخدرات والغلو، هجانة المجتمع إلخ… فماذا بوسع المؤسسات الثقافية أن تفعل إزاء هذا الوضع لتوفر المناعة الضرورية؟ إن الدولة ذات مسؤولية جوهرية في هذا الاتجاه، مرفقة بالهيئات والمنظمات والجمعيات المحلية والوطنية غير الرسمية، بدءا بالروض إلى الجامعة إلى خارجها. فعن أية دولة نتحدث؟ الجواب في غاية البساطة: الدولة الديمقراطية التي تكون مجموع مؤسساتها ديمقراطية، والموظف فيها يقدس الحق والواجب، ولا يعتبر (الوظيف مزدوجا)، والمنتخب، سواء كان مستشارا قرويا أو بلديا أو برلمانيا، لا يميل إلى الاعتقاد بأن منصبه خاتم سليمان، لكن هل من الممكن الوثوق بأن المواطن الأمي أو الجاهل أو المحتاج يمكن أن يكون صوته ذا معنى؟ المنطق يقول (لا)، بل إن هذا الثالوث يشكل (بلوكاج) لأي ديمقراطية. من هنا تبدو الضرورة ملحة للتعليم والتوعية والإنصاف الاجتماعي، وإيقاف بَدونة المدن، والعمل على تمدين البوادي. من هنا يتجلى العمق الحقيقي للثقافة، باعتبار الحضارة وجهها الآخر. ومن هنا أيضا يبدو أن خيار المؤسسات الثقافية يفوق التصورات المبسطة ليرتقي إلى ما هو استراتيجي يتعلق ببناء وطن فاعل ومؤثر على الأصعدة كافة. إن ما نعنيه على نحو مضمر توفر الدافعية وقيم السلوك الاجتماعي التي تشكل رافعة لشعب الثقافة المختلفة السياسية، التربوية، والاقتصادية… هنا نجد أنفسنا خارج الصورة التقليدية للمثقف المنحصرة في الكاتب أو الفنان أو السينمائي أو… وحينما تحدثنا عن الدولة وعلاقتها بالثقافة، لم نقصد من وراء ذلك أن تستأثر بدور توجيهي، بل أن تكون محايدة في إسناد ودعم حيوية الجدل الثقافي ورعاية المنتوج، وإطلاق حركة الترجمة، وكتابة التاريخ، والبحث الاجتماعي والأنثربولوجي، وذلك بتوفير الحواضن المؤسسية. وطبيعي أن هذه الإجراءات، وهي في الأساس خيارات، لن تثمر إلا إذا حددنا من نحن، ومن الآخر، فالأمر يتعلق باستراتيجية كبرى تاريخية وحضارية، لا يكون مداها الزمني عقدا أو نصفه، لنطرح السؤال التالي ونجيب عنه من خلال جهد دراسي ميداني معمق: كيف هي صورتنا المتمثلة سنة 2035 مثلا. إن تخطيطا يشمل هذا المدى، ويستوضح جدواه كفيل بتحديد أننا أمام رهان لبناء الإنسان والمجتمع في آن معا من خلال ترسيخ مؤسسات الفعل الثقافي الأكثر نجاعة ومصداقية. إن المثقف العظيم يطير بأجنحة بلد عظيم. لهذا السبب وغيره لا نود الإيحاء إلا بما تنطوي عليه من سلبية صورة المثقف، الذي يكون (وردة في مزهرية) للزينة والمباهاة، المتزمت عقيديا أو المرتضي المذعن، بل ننوه بالمثقف العقلاني الريادي ذي الرؤية الجذرية النافدة، والإخلاص الصوفي في إطار المشترك الوطني والإنساني.