في أحد الاجتماعات الحكومية الأخيرة، ترك وزراء حزب الاستقلال ووزراء الاتحاد الاشتراكي كل مشاكل الشعب المغربي جانبا وتفرغوا لمناقشة مشاكلهم الحزبية الصغيرة. وعوض أن يشتكي عباس الفاسي إلى وزير الشغل الاتحادي من ارتفاع معدل البطالة بين الخريجين من أبناء المغاربة، اشتكى إليه من تهجمات الصحافة الحزبية وشبه الحزبية على أبنائه الذين «يكدون» من أجل الحصول على صفقات عمومية مربحة. والمدهش في الأمر أن عباس الفاسي، الذي لم يصدر عنه في الاجتماع الحكومي ما يفيد تبرمه كرئيس للحكومة من مساس البعض برموز الدولة والسيادة، وجد ما يكفي من الجرأة والسلاطة للدفاع باستماتة عن أبناء عائلته في اجتماع كان من المفروض أن يناقش مشاكل أبناء الشعب برمته. فيبدو أن عائلة الفاسي الفهري أصبحت هي الأخرى ضمن لائحة المقدسات التي لا يجب الاقتراب منها. مع أن هذه العائلة أصبحت تحتل أسماء أبنائها بين أسبوع وآخر صفحات الجرائد بمناسبة تعيينات هؤلاء الأبناء في مناصب المسؤولية. آخرها تعيين لينا الفاسي الفهري التي لا تحمل سوى شهادة الدروس العليا في القانون في منصب مسؤولة الموارد البشرية بوزارة الشبيبة والرياضة. والآنسة لينا ليست سوى بنت أخت عباس الفاسي الوزير الأول وأخت الطيب الفاسي الفهري وزير الخارجية. ويأتي تعيين هذه الآنسة المحظوظة في وقت «يبرقق» فيه عصي القوات المساعدة رؤوس دكاترة في القانون الخاص والعام والدولي يوميا أمام البرلمان يحلم أغلبهم بنصف هذا المنصب. وقد بدا هذا واضحا عندما كتبت جريدة «العلم»، لسان عباس الفاسي، في افتتاحيتها ليوم الاثنين الماضي قائلة إن هناك «بعض الصحافيين الذين لا يمكن أن يظهروا الكفاءة المهنية إلا في قضايا عائلية لا تخلو عائلة مغربية منها». وقد تعمد كاتب الافتتاحية أن يترك جملة «قضايا عائلية» نكرة بدون تعريف حتى ينسحب موقف الجريدة على كل القضايا العائلية التي أثارتها الصحافة مؤخرا، ومنها قضية استفادة أبناء من عائلة الفاسي الفهري من امتيازات وتعيينات أسالت الكثير من المداد، بمعنى أن عباس الفاسي أصبح يضع عائلته إلى جانب العائلة الملكية ويطالب بالاحترام الواجب لها، ولم يبق لعباس سوى أن يطالب باستصدار «ظهير توقير» لعائلته وأبنائها حتى يصبح كل من يتحدث عن الامتيازات التي تمنح لها هنا وهناك معرضا للمتابعة القضائية بتهمة تقليل الحياء على عائلة السي عباس. إن دخول الوزير الأول الاستقلالي ووزير العدل الاتحادي في نقاش داخل المجلس الحكومي لتصفية مشاكل حزبية ضيقة بينهما، يكشف عن تسخير مخجل لموعد حكومي أسبوعي في مناقشة أشياء داخلية مكانها الأنسب هو مقرات الأحزاب. إن ما يهم المغاربة اليوم ليس هو اعتذار وزير العدل عبد الواحد الراضي إلى عباس الفاسي بسبب ما نشرته جريدة «الاتحاد الاشتراكي» حول مستشفى وزيرة الصحة الاستقلالية، أو حول ما نشرته جريدة شبه اتحادية حول الصفقة التي فوتتها ياسمينة بادو إلى فهر الفاسي الفهري، ابن عباس الفاسي، بل ما يهم المغاربة اليوم هو اعتذار نزار بركة، الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية للحكومة، عن الزيادة المرتقبة في الضريبة على السكر والتي ستصل في القانون المالي الجديد لسنة 2010 إلى سبعة في المائة. «ضربو نتوما الحساب وشوفو بشحال غادي يطلع القالب». هذا الوزير الذي لم يخجل عندما دافع عن أداء صندوق الموازنة، الممول من أموال دافعي الضرائب، لدرهم واحد عن كل كيلو من السكر تستعمله شركة كوكاكولا في صنع مشروباتها الغازية، وساهم في منح هذه الشركة الأمريكية، المتخمة بالأرباح، خمسين مليون درهم سنويا على ظهر بسطاء هذا الشعب؛ هذا الوزير هو الذي كان عليه أن يأتي إلى الاجتماع الحكومي لكي يقدم اعتذاره عن ارتفاع ثمن «القالب» الذي ينوي صهره عباس الفاسي إهداءه (حتى لا نقول شيئا آخر) للمغاربة مع مطلع السنة المالية الجديدة. وعوض أن «يشطن» عباس الفاسي نفسه بمشاكل أبنائه في الاجتماع الحكومي، كان عليه أن «يشطن» نفسه بمشاكل أبناء 3500 عائلة ضحك عليها احجيرة، زميله في الحزب وزير الإسكان والتعمير، الذي لا يجيد سوى «تعمير الشوارج» و«تخراج العينين» أمام الصحافة في ندوات فنادق الخمسة نجوم حول محاربة مدن الصفيح. فهؤلاء الموظفون والمستخدمون البسطاء، الذين صدقوا حلما اسمه «تامسنا» ووضعوا كل مدخراتهم كتسبيق للحصول على شقة، وجدوا أنفسهم، بعد مرور عام ونصف، مضطرين إلى تأسيس جمعية «تامسنا أولا» على وزن «غزة وأريحا أولا» للحصول على شققهم. والطامة الكبرى هي أن هؤلاء الضحايا، الذين يعدون بالآلاف، عوض أن يتلقوا تاريخا محددا لتسلم شققهم تلقوا رسالة تهديدية من طرف شركة أخرى لم يسمعوا بها من قبل، اسمها «سانتوري ماروك»، تطالبهم بتسديد ما تبقى في ذمتهم لصالح شركة «جنرال كونتراكتور»، صاحبة مشروع «تامسنا»، وإلا سيتم حرمانهم من الاستفادة من الشقق وإعادة بيعها لزبائن جدد؛ وهذا ما يسميه المغاربة «بيع القرد وضحك على من شراه». وشركة «جنرال كونتراكتور» لديها سوابق في بيع المشاريع بعد إفلاسها، فقبل أن تدخل مع وزارة الإسكان في مشروع «تامسنا» باعت شركة «مارينا كازا» لفرع الإسكان بصندوق الإيداع والتدبير، وهذا الأخير تكلف بتسديد ديون الشركة واقتناء أرباحها من أموال الصندوق التي هي، في الأصل، أموال وودائع اليتامى والأرامل والمحاجير. أما وزير الإسكان الاستقلالي توفيق احجيرة فقد قرر أن يغلق هاتفه ويصم أذنيه عن سماع شكاوى هؤلاء الضحايا، خصوصا بعد انفجار فضيحة تسريب ديوانه لمعلومات سرية حول استثمار بنواحي الرباط لفائدة مستثمرين منافسين. الحقيقة أن الذي كان يجب أن يتم إعفاؤه من منصبه ليس هو المسؤول عن التعمير في وزارة الداخلية أو الكاتب العام لوزارة الإسكان، وإنما هو وزير الإسكان نفسه، لأنه المسؤول الأول والأخير عن فضيحة تسريب الوثائق. إن الجرائم العمرانية التي ارتكبها توفيق احجيرة في حق المغاربة بسبب ما يسميه، ظلما، «السكن الاجتماعي» يستحق معها محاكمة شعبية وليس فقط إعفاءه من الحكومة؛ فبسبب مشاريعه الفاشلة حوّل المدن إلى «غيتوهات» لا أثر فيها لشيء آخر غير الإسمنت. بيوت شبيهة بالأقفاص مبنية بالغش، تفصل بينها حيطان من الجبس والطوب الأحمر الرفيع، يسمع فيها الجار جاره وهو يطلق «لاشاس ديال الطواليط» كما لو أنه يطلقها في غرفة نومه، يسمع فيها الجيران بعضهم البعض وهم يجامعون زوجاتهم، وهم يتخاصمون مع أبنائهم.. بيوت أوهى من بيوت العنكبوت، دمرت تلك الحشمة الجميلة التي كان يشعر بها المغاربة تجاه أبنائهم وجيرانهم. والكارثة أن احجيرة يفتخر ببناء هذه السجون المعاصرة، مع أن أقصى ما نجح فيه هو تحويل المدن الصفيحية المصنوعة من القزدير إلى مدن صفيحية مصنوعة من الطوب والإسمنت بلا حدائق ولا مكتبات ولا مرافق عمومية ولا شبكة مواصلات، وكأنه لا يرى ماذا أعطت تجربة أحياء «الغيطوهات» في فرنسا، وكيف أصبحت عبارة عن قنابل موقوتة تهدد بالانفجار في أي وقت. ورغم تراكم كل هذه الفضائح العمرانية، التي راح ضحيتها الآلاف من المواطنين، ورغم إصرار وزير المالية على وضع قانون مالية جديد يرفع من ثمن «القالب» وكلفة الماء وغيره من المواد الغذائية الأساسية، يجد عباس الفاسي الجرأة لترك كل هذه الملفات الساخنة جانبا لكي يناقش ويغضب بسبب ما يعتبره تهجما للصحافة على أبناء عائلته الكريمة، وكأن أبناء ثلاثة آلاف وخمسمائة عائلة تنتظر تسلم شققها منذ سنتين لا يستحقون منه سؤالا بسيطا لوزيره في الإسكان توفيق احجيرة الذي فقد، منذ اندلاع فضيحة تسريب الوثائق السرية، عشرة كيلوغرامات من وزنه بسبب «القفقافة» التي ركبت له في «الركابي». سيقول قائل منكم إن عباس لا تحركه شكاوى مثل هذه حتى ولو صدرت عن مئات الآلاف من الضحايا، فالرجل «خرج» على 35 ألف شاب مغربي في فضيحة النجاة عندما كان وزيرا للشغل، فكيف سيحار اليوم وهو وزير أول في «خروج» وزيره في الإسكان على 3500 ضحية. يبدو أن التفكير في تعديل حكومي أصبح أمرا مستعجلا؛ فالقطاعات التي يشرف عليها الوزراء الاستقلاليون والعائلة الفهرية كلها تعيش وضعية كارثية، بدءا من الصحة والتجهيز والنقل ومرورا بالإسكان والتعمير والخارجية والشؤون الاقتصادية العامة للحكومة والماء. كل هذه القطاعات تشكو من اختلالات هيكلية مزمنة تتفاقم مع مرور الوقت، وتهدد الأوضاع الاجتماعية بمزيد من الاحتقان. «الله يحد الباس أعباس».