انصبت كل الندوات واللقاءات التي سبق تنظيمها في العقود الماضية حول الحي البرتغالي بالجديدة حول المعمار والوجود البرتغاليين وحول مظاهر أو نواقص الترميم، ولم يسبق لأحد أن تناول في محاضرة أو ندوة حياة سكان هذا الحي ومعيشهم اليومي وحكاياتهم وذكرياتهم ومعاناتهم. بهذه الكلمات، التي تلت ترحم الحضور على روح امرأة من الحي توفيت حديثا، استهل أبو القاسم الشبري، مدير مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي فقرات اللقاء الثقافي الذي نظمه المركز المذكور في ليلة رمضانية جميلة بالمقهى الثقافي بالحي البرتغالي بالجديدة. ومن خلال عنوان هذا اللقاء الفكري «ذكريات من المعيش اليومي لساكنة الحي البرتغالي» ارتسمت معالم التفرد والاستثناء مما أثار فضول العديدين وسارت بذكره الركبان. وقد كانت الجلسة شيقة بالفعل أضفى عليها وقار الشيوخ المشاركين ونباهة الكهول المساهمين وأشعار سعيد التاشفيني لمسة فريدة لقيت ترحيب الحاضرين وممثلي الصحافة الوطنية المتتبعين. «كنا نصيد اللانكوست ونغوص في أعماق البحر لنجمع «الربيعة» (الطحالب) ونركب «الكوتشي» ونلعب لعبنا في الحي البرتغالي وفي ساحته الأمامية». بمثل هذه المقتطفات طاف مولاي أحمد بالحضور في دروب ذكريات تزاحمت في مخيلته بدءا من خدمته لمسجد الحي البرتغالي حيث تميز بنفاره في رمضان المبارك، مرورا بحرفه المتعددة التي مارسها بالحي وخارجه كرصاص ولحام وكهربائي. ومازالت ذاكرته حية وغنية بالذكريات وقد شارف على السبعين من عمره. وقد جال في سرد أسماء أئمة وخطباء مسجد الحي وأعلام الجديدة ومازال يذكر قصة شراء عنصر من الحرس الملكي غيطة من سي عبد الله، غياط الحي البرتغالي الذي مازال يذكره المسنون والشباب. ولم يفت أبناء الحي هنا أن يذكروا بغير قليل من المرح والمزاح شغبهم مع مولاي أحمد كلما صعد مئذنة المسجد الجامع. شغب الأطفال مارسه أبناء الحي البرتغالي في باب البحر والمون ومن على أسوار الحي التاريخية وكذا في الساحات التي كانت توجد أمام الحي. هنا، أمام الحي كان موقف سيارات الأجرة الكبيرة ومن هنا ركب الناس إلى البيضاء وسيدي بنور وأولاد افرج وغيرها، يقول السي مصطفى، سائق طاكسي، حيث كانت الطاكسيات تجاور «الحلايقية والكواتشة». ويؤكد ابراهيم هذه الذكرى ليضيف بأن الساحة الموجودة أمام الحي كانت شبيهة بجامع الفنا، حيث كانت الحلقات تتواتر فيها تحت شجيرات اندثرت وبجانب «النحايسية» الذين كانوا يعرضون بضاعتهم النحاسية للمغاربة وللأجانب من السياح. ويلتقي مولاي أحمد المسن والسي محمد الكهل، والشاب للتذكير بأن الطاكسيات طردت أصحاب الكوتشي حوالي سبعينيات القرن الماضي. «وللكوتشي ذكريات خالدة مع الجديدة ومع الحي البرتغالي خاصة، وما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى وسيلة النقل هذه»، يعقب أبو القاسم الشبري وهو يعلل ذلك بأهمية السياحة في حياة المدينة اليوم خاصة مع ما ينتظر المنطقة من انتعاش بعد افتتاح محطة مازغان السياحية بالحوزية. ولذلك أقترح إقدام السلطات على مساعدة أبناء الحي لتجهيز وسيلة النقل التراثية هذه لنضرب بحجر واحد بومة البطالة وعصفور التنمية السياحية. وبعد أن كان السي عبد الله (مواليد 1927 م) قد جاء على بعض الذكريات القديمة متوقفا عند إشرافه على ترميم أسوار الحي بعيد الاستقلال. تجاذب الذكريات بين من حضر اللقاء من أبناء الحي لامس صفحات دفينة تنوعت بين ما هو عام وعمومي عاشه أبناء الحي علنا وبين ما يشكل الحياة الحميمية لكل واحد منهم على حدة. هكذا تحدث الضيوف عن حياتهم ضمن أسرة كبيرة في بيت صغير وكيف أن هذه الظروف الصعبة لم تحل دون الحفاظ على الحشمة والوقار والأخلاق وكيف أن بيت الوضوء بالمسجد الجامع كان قبلة لأغلب رجال الحي. ضمن هذا المجتمع الذي كان، شكل التضامن والتعاون سمة كل الساكنة، تضامن في السراء والضراء ومساعدة القوي للضعيف. ونظرا إلى انتشار حرفة النسيج، فإن الناس يحكون أن كثيرا من النساء كن يستلفن الصوف لإتمام المنسج وتعدن السلفة بعد بيع منتوجهن في القيسارية، تلك التي لم تنفصل حياتها يوما عن الحي البرتغالي. وفي خضم الحديث عن النسيج والتجارة والسلفة، جاء الحديث عن حياة اليهود المغاربة في الحي البرتغالي، أولئك الذين لم يعيشوا في ملاح معزولين بل تجاوروا مع إخوانهم المسلمين في كل دروب الحي وشاركوهم التجارة، كما وقف كل في صف الآخر في الأفراح كما في المحن، ولم يكن أحد يشعر بتميز تجاه الآخر. وهي الصورة الجميلة التي عملت ظروف سياسية دولية على محاولة طمسها لإحلال الشقاق محل الاتفاق.