ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. الأداء الذي قدمه جمال أمام الرئيس فرانسوا ميتران كان له صدى كبير بين الأوساط المهاجرة وغير المهاجرة. فقد بات اسمه محفوظا الآن، وصار هذا الطفل المغاربي محط ترحيب من الجميع في الوقت الذي أهملت فيه أجيال الهجرة من قبل الدولة بعد الانتفاضة التي حدثت في حي مينغيت قبل 10 سنوات خلت. فقد أضحت الضاحية عنوانا للتهميش والتردي والبؤس والتخلف الاجتماعي. لكن جمال كان بمثابة الاكتشاف الاستثنائي وسط هذا الجو العام الموسوم بالحرمان، رغم العاهة. صدى الأداء الذي يتميز به هذا المبدع الصغير، الذي يخفي ذراعه المنقوصة في جيبه، بلغ وسائل الإعلام الكبرى في الجمهورية، التي تلتفت، بين الحين والآخر، إلى ضرورة منح بعض المغاربيين المكان الذين يستحقونه بينها. على الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، لم ينس الوزير المغربي، رفيق الحداوي، بدوره الأداء الذي قدمه جمال أمامه عندما دعاه خالد القنديلي إلى حي إبيناي سور سين، بل إنه أبدى تعاطفا كبيرا معه واستفسر عن الأمر لدى صديقه القنديلي قبل أن يخصص هبة من مؤسسة الحسن الثاني لأسرة الدبوز من أجل إجراء عملية جراحية على ذراع الإبن جمال. وخلال لقائه، لأول مرة، مع الرئيس الفرنسي، ناقش الوزير المغربي معه مستقبل التعاون بين البلدين، فرنسا والمغرب. وفي اجتماع بسيط ناقش الإثنان في صالون صغير، بعيدا عن أي احتفال بروتوكولي إلا من كأس شاي منعنع على الطريقة المغربية وحلوى من صنع أيادي أمهات مغربيات، ما يمكن القيام به. اقترح الحداوي تنظيم نفس الأمسية، التي باتت تعرف بأمسية الجوائز، في المغرب يحييها هذه المرة مجموعة من الشباب المنحدرين من أصول مغربية، والذين يمكن أن تقدمهم المملكة الشريفة على أنهم نماذج ناجحة في البلد. طبعا، لا يمكن للقنديلي إلا أن يكون مستعدا وجاهزا لمثل هذا الاقتراح. «بدأت بجمع رياضيين ومسؤولين جمعويين يتقدمهم جمال الذي قدم سكيتشا جميلا. التأم الحفل في أكبر قاعة بفندق حياة ريجنسي بالرباط في يونيو 1993. وفي اليوم الموالي، طلبني الملك الحسن الثاني عن طريق سكرتيره الخاص، الذي أبلغني رغبة جلالة الملك في لقائي برفقة الرياضيين الذين حضروا الحفل. لكن، وبما أن أغلب هؤلاء كانوا قد غادروا المغرب قافلين إلى فرنسا بسبب التزاماتهم، اضطررت لتعويضهم ببقية أعضاء الوفد. وكان منهم رشيد بن الزين (جمعية «نافذة الإغاثة»)، وأحمد الغيات (جمعية «خارج المنطقة»). جلهم حضروا بهندام مدني، وأغلبهم كان شعر رأسه مسترسلا ومنهم من كان يزين أذنه بقرط. جمال، هو الآخر كان من الحاضرين. وضعته في مقدمة الوفد لأنه كان هو الأقصر قامة بيننا والأصغر سنا. كما أنه كان يشعر بنوع من الرهبة التي تسبق مثل هذه اللقاءات. استقبلنا من قبل أفراد الأسرة الملكية، أبناء وأحفادا، وهو ما شكل أمرا استثنائيا. قال لنا الملك: «أستقبلكم جميعا كما لو كنتم أبنائي». فقدمت له جمال، وظل الملك ينظر إليه قبل أن يسألني إذا ما كان هو الآخر رياضيا من رياضيي الوفد؛ أجبته: «لا، إنه فكاهي». وهو ما أثار موجة من الضحك بين أعضاء الوفد وبين أفراد الأسرة الملكية. هكذا يكون جمال نجح في إضحاك الجميع من دون أن يفتح فمه.» كانت حينها قناة «تي إف1» تحضر عددا خاصا من برنامجها «Sacrée Soirée» حول المغرب، وكان من بين ضيوف المنشط جون بيير فوكو، المجتمعين بقصر التازي بالرباط، شخصيات أخرى مثل: يانيك نوا، روجي فاديم، ريشارد كوكشيانتي، جينا دو روسناي، ستيفن إيشر، إلزا، أمينة، فيرونيك سانسون، وديديي سوستراك ونساء مغربيات من مختلف المجالات. وقد حصلت القناة الفرنسية على انفراد قبول الملك بالمشاركة في هذا الحفل، إذ سجل معه حوار قبل ساعات من انطلاق فعاليات الحفل بمناسبة استقبال خالد القنديلي من قبل الملك وأسرته في القصر الملكي. كانت الكاميرا ترافق الملك، صحبة ابنيه ولي العهد سيدي محمد وأخيه مولاي رشيد والمنشط جون بيير فوكو خلال جولة في الحديقة قبل أن تحل لحظة تقديم أعضاء الوفد الذي يترأسه خالد القنديلي. تقدم جمال، الذي بدا «غارقا» في بذلته الرسمية الفضفاضة، بقية أعضاء الوفد، بينما تدلى أسفل الذراع اليمنى، الذي لم يقدر جمال على إخفائه في جيبه لأنه من غير اللائق وضع اليد في الجيب أمام الملك. وعندما اقترب الملك من جمال، بعد أن تسلم هدية من القنديلي، احمر وجه الأخير، وانحنى ليقبل يد الملك باحترام. إلى جانبه، وقف أحمد غيات الذي انحنى بدوره مقبلا يد الملك. خالد القنديلي تابع السير على خطوات العمل الجمعوي بالضواحي الفرنسية وزاد نجمه سطوعا، وظل بجانبه جمال يسير على نفس الخطى. ومرة أخرى، طُلب من القنديلي المساهمة في تنظيم تليثون في الأحياء الصعبة في الضاحية الباريزية. تم الاتفاق على كل شيء، وانطلق الحفل بحضور ميشيل ساردو الذي عين عرابا له. ومرة أخرى، اعتمد القنديلي على جمال الدبوز ليفتتح اللقاء بسكيتش قال فيه:» لقد طفت على جميع الأحياء، وطلبت من الجميع أن يساهم بما استطاع. قلت لهذا أنت ستتبرع بسيارتك «BMW»، وأنت بساعتك رولكس، وأنت بسوارك الذهبي...» ثم، أمام الكاميرا، توجه إلى طفلة مريضة غارقة في مقعد كرسيها المتحرك ومد يده اليسرى إليها وقال: «أنا ليس لدي شيء آخر أعطيه لك إلا يدي هذه التي أمد إليك.»