ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. حتى الآن، عاش جمال الدبوز حياتين اثنتين. أما الثالثة، فلا يعرف إذا ما كان سيدخل جنة الله. ويتساءل إذا ما كانت فرحة الحياة الأخرى، هناك في جنة الله، بمثل سعادة الأرض. لكن ما هو متأكد منه، هو أنه كتب له أن يعيش مرتين. الأولى بدأت في دفتر الحالة المدنية: في 18 يونيو 1975، على الساعة 5 و40 د صباحا بمستشفى لاريبوازيار، في المقاطعة الباريسية العاشرة. والثانية بدأت يوم 17 يناير 1990 على الساعة 8 و6 د مساء بمحطة القطار في مدينة طراب بمنطقة إيفلين، حيث باغت قطار سريع مراهقين اثنين على السكة. الحادث أدى إلى وفاة أحدهما، بعد أن قطعت رأسه، والثاني نجا بأعجوبة... عقد الولادة الذي يعود إلى سنة 1975، كما هو مدون ببلدية المقاطعة العاشرة، ينص على ما يلي: «R.831، رقم 1086: 1975. على الساعة 5 و40 د ولد الدبوز جمال، الساكن بالرقم 2، زنقة أمبرواز- باري (العنوان الذي يوجد فيه مستشفى لاريبوازيار) من أحمد، المزداد بتازة سنة 1950، مهنته عامل، ومن فاطمة بنت محمد، المزدادة ببني موحيو سنة 1953، لا مهنة لها، زوجته. عنوان الأسرة: باريس XVIII، الرقم 5، زنقة لاشاربونيير. 14 سنة و6 أشهر مرت على تاريخ الولادة... في 17 يناير من العام 1990، قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية، ظهرت على الساعة 11 و48 د، تقول: « مراهقان صدمهما القطار في محطة طراب: مقتل واحد منهما. وفي التفاصيل ما يلي: قتل مراهق يبلغ من العمر 15 سنة، وأصيب آخر بجراح بالغة، مساء يوم الأربعاء، بعد أن صدمهما قطار بمحطة طراب (إيفلين)، كما علم من مصادر أمنية؛ بينما لم يتم الكشف عن هوية الضحيتين...». كانت، إذن، الولادة الأولى، ولادة طفل في أسرة مغربية، لأول مرة، على أرض فرنسا. تعالت الزغاريد في باريس، بالمقاطعة الباريسية الثامنة عشرة، زنقة لاشاربونيير، حيث حط الرحال الجد محمد هو وذووه مطلع الستينيات. فرحة كبيرة عمت الدار. طفل فرنسي يرى النور، يولد في مستشفى فرنسي. تحلق الأهل حول الرضيع، الذي كان يزن بالكاد 3 كيلوغرامات، في حضانة المستشفى... رضيعٌ اختير له اسم: جمال. تصادف ميلاد الطفل جمال مع تراجع الأوضاع العامة، وظهور بوادر الأزمة الاقتصادية في أوربا. فلم يعد المهاجرون، السواعد التي بنيت بها فرنسا، مرغوبا فيهم. تساءلت أسرة الدبوز إذا ما كان من الأفضل لها أن ترحل، وتعود إلى البلد الأصل. ساد التردد قبل أن يقرر الجد محمد الرحيل رفقة أطفاله الصغار، بينما بقيت بنته البكر فاطمة هناك إلى جانب زوجها أحمد وابنهما جمال ليجربوا حظهم في أرض فرنسا. نحن الآن في سنة 1976، حان الوقت لكي يتخلى الجد عن محلات البقالة الثلاثة ويقصد الريف المغربي، ليؤسس لنفسه نشاطا تجاريا آخر. باربيس... حي لم يعد يسع أهله المغاربيين، بل صار على هؤلاء أن يتحملوا جيرانا جددا ما فتئوا يتزايدون: أفارقة وآسيويون وتامول... الحي أضحى يجمع بين أزقته 48 إثنية مختلفة، منها 30 من أصل إفريقي، بينما الفضاء العمراني أخذ ينفجر تحت ضغط الوافدين. رغم كل شيء، ما زال الحي يفوح بعطر بلدان المغرب العربي. بازارات هنا وهناك، تجتاح الأرصفة، وكثير من الأشياء التي تجعل زائر باربيس يشعر بأنه على عتبة الشرق. أسرة الدبوز زاد عددها مع السنين، فانتقلت لتستقر ب 56، شارع لاشابيل، في زاوية زنقتي تومبوكتو وشارتر، فوق حمام البركة بزليجه الأزرق السماوي. من هناك، يمكن أن نرى، عبر الميترو الهوائي، نوافذ مستشفى لاريبوازيار حيث ولد جمال قبل 4 سنوات خلت. لكن زمن الولادة الأولى صار بعيدا، الآن، بعد أن لم يعد جمال وحيد أبويه. لقد انضاف إلى الأسرة مولود آخر سمي محمد، وأصبح يعرف ب «مومو». كانت ولادته في 11 يوليوز 1976، ثم كريم، في 21 دجنبر 1978، وحياة في 22 دجنبر 1979. جميعهم ولدوا في حضانة مستشفى لاربوازيار. سُجل جمال الصغير في المدرسة العمومية «سان لوك»، وهي حضانة تتسع لحوالي 10 أقسام توجد بعمارة قديمة عند نهاية زنقة «لاغوت دور»، قبل أن يلتحق، سنة 1979، بدروس السنة الدراسية، تحت رقم 180؛ ثم التحق به شقيقه محمد في السنة نفسها ثم كريم سنة 1982. في شتنبر 1981، التحق جمال بالقسم التحضيري، بالمجموعة الدراسية الموجودة ب 6، زنقة جون فرانسوا ليبين. لم يكن الدبوز الصغير، حينها، أكثر حركة وشقاوة من زملائه رغم أنه كان يبدو أكثر انتباها منهم. إلا أنه كان يثير الانتباه بحركاته الميمية. حتى ذلك الزمن، لم يشذ جمال عن زملائه إلا عندما انحسر «زيزيه» الصغير في فتحة سرواله، تفرج الجميع عليه وهو يحاول الخروج من ورطته...