ظلت وزارة الخارجية المصرية على مدى عقود، وحتى بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، من المؤسسات الوطنية المصرية الملتزمة بالثوابت العربية والإسلامية، وهذا ما يفسر استقالة اثنين من وزرائها (إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل) احتجاجاً على معاهدات كامب ديفيد وزيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس المحتلة، ولكن يبدو أن هذه الوزارة بدأت تتخلى عن دورها هذا منذ أن تولاها السيد أحمد أبو الغيط، وتنحدر إلى مستويات متدنية لا تليق باسمها ولا تاريخها، ناهيك عن مكانة مصر وإرث شعبها الوطني العريق على مر العصور. بالأمس، أصدر السيد أبو الغيط «فتوى» غريبة تحلل مرور الغواصات النووية والبوارج الحربية الإسرائيلية عبر قناة السويس عندما قال إن هذا العبور تحكمه اتفاقية القسطنطينية الموقعة عام 1888 والتي تتيح للسفن الحربية حق العبور من القناة طالما أنها لا تحمل توجهات عدوانية تجاه الدولة التي تملك القناة. فعلاً، إنها فتوى غريبة، ومضحكة مبكية في الوقت نفسه. فهذه الاتفاقية التي يتحدث عنها السيد أبو الغيط وقعت في زمن الخديوي وأثناء خضوع مصر للاحتلال الإنجليزي، وقبل قيام إسرائيل بأكثر من ستين عاماً، وفي عهد الصدر العثماني الأعظم السلطان عبد الحميد الذي حرّم على الإسرائيليين الاقتراب من الأراضي الفلسطينية، ورفض إقامة دولتهم عليها رغم عشرات الملايين من الدنانير التي عرضت عليه حينها. فإذا كانت الاتفاقية هذه ملزمة لمصر فعلاً، فلماذا لم تلتزم بها الحكومات المصرية المتعاقبة طوال تلك الأعوام، بما في ذلك حكومة الملك فاروق، بل وحتى حكومة الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي وقع اتفاقات كامب ديفيد؟ وحتى لو وجدت هذه الاتفاقية التي جرى توقيعها مع الشركة المالكة للقناة، وهي بريطانية فرنسية مشتركة، فإنها سقطت بعد قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأمين القناة وإعادة ملكيتها إلى الشعب المصري كاملة، اللهم إذا كان السيد أبو الغيط ما زال يعتقد أنه يعيش في القرن التاسع عشر وليس في القرن الحادي والعشرين. السفن الحربية الإسرائيلية تعبر القناة ليس بناء على اتفاقية القسطنطينية، وإنما على تفاهمات سرية وقعتها الحكومة المصرية الحالية بعقد تحالف مصري - إسرائيلي لضرب إيران، ومرور السفن والغواصات الإسرائيلية بكثافة عبر قناة السويس هو أول تطبيق علني لهذه التفاهمات. فالحكومة المصرية نفت، على لسان متحدث باسمها إلى محطة تلفزيون «بي بي سي» يوم السبت الماضي، مرور أي سفن أو غواصات إسرائيلية عبر القناة، وقال إن مصر تعارض مثل هذه الخطوة. وتصدر هذا النفي النشرات الإخبارية لهذه المحطة الناطقة بالعربية، الأمر الذي يعكس حالة الارتباك التي تعيشها هذه الحكومة والمتحدثون باسمها، بسبب عمليات التضليل المكشوفة التي يمارسونها لحجب الحقائق عن شعبهم الصابر المكافح والأكثر وطنية منها في الوقت نفسه. ولعل أبرز مظاهر هذا الارتباك قول السيد أبو الغيط إن حق العبور مكفول للسفن الحربية طالما أنها لا تملك نوايا عدوانية تجاه الدولة المالكة لهذه القناة. فهل مرور حاملات الطائرات الأمريكية عبر القناة لضرب العراق واحتلاله عام 2003 لا يشكل نوايا عدوانية، بالنسبة إلى مصر، على معاهدات الدفاع العربي المشترك؟ السيد أبو الغيط أصبح يشكل وحكومته عبئاً أخلاقيا ودينياً وإنسانيا على مصر وشعبها، بسبب الدور الذي يلعبه، والتصريحات التي يطلقها، وغالباً ما تشكل استفزازاً للشعب المصري قبل غيره من شعوب المنطقة، لما تتسم به من الرعونة والجهل. نحن لا يمكن أن ننسى التصريحات المفوهة التي أطلقها السيد أبو الغيط، وقال فيها إنه «سيكسر رجل» أي فلسطيني جائع يعبر الحدود إلى مصر بحثاً عن لقمة خبز، لأن هذا يشكل انتهاكاً لمصر وسيادتها وكرامتها الوطنية. أن يعبر فلسطيني عربي مسلم، ربما تكون نصف عائلته مصرية، الحدود إلى مصر، بحثاً عن علبة حليب لإرضاع أطفاله بعد أن كاد يقتلهم الحصار جوعاً، فهذا انتهاك للسيادة والكرامة المصرية، أما أن تعربد غواصات نووية إسرائيلية في قناة السويس في طريقها إلى البحر الأحمر والخليج في مناورات عسكرية تمهيداً للاعتداء على دولة مسلمة، فهذا لا يشكل أي انتهاك لهذه السيادة، بل هو أمر مشروع ومحكوم باتفاقات تعود إلى العصر العثماني قبل قرنين من الزمن. هذا هو منطق الحكومة التي تحكم مصر حالياً، وهو منطق أعوج لا يستقيم مع أي من الأعراف والقوانين الوضعية والإلهية، ولذلك تتراجع مكانة هذا البلد العريق ويتقزم دورها ويتطاول عليها الكثيرون، بمن في ذلك الإسرائيليون. إن هذه العربدة الإسرائيلية في قناة السويس ليست سوى انهيار جديد في منظومة الأمن القومي المصري الذي تسارع منذ العدوان الأخير على غزة. فإسرائيل أصبحت تعتبر منذئذ قصف الحدود المصرية الفلسطينية، بحجة هدم الأنفاق، «حقا مكتسبا لها»، وإن أدى إلى استشهاد وجرح العديد من المصريين والفلسطينيين، وأدى سكوت نظام مبارك عن هذا الانتهاك الخطير إلى «توحش إسرائيلي» يتمثل، اليوم، في هذا العبور المتواتر للقطع الحربية الإسرائيلية في قناة السويس، في تحد وتهديد مباشر لمصر قبل أي بلد آخر. أي مهانة، وأي عار، وأي خطر أصبح يمثله هذا النظام على مصر وأمنها القومي، الذي هو أمن العرب جميعا؟!