قبل عقود شكل التاريخ الأندلسي أرضية لبكائيات الشعراء العرب. كان الشاعر العربي كلما أدرك وقع الهزيمة الجديدة في التاريخ العربي المعاصر عاد إلى الأندلس لكي يصور الشعور بالغربة والإحساس بالانتهاك. كانت الأندلس هي المرآة التي يرى فيها أي مثقف عربي صورته المعكوسة ويترجم من خلالها صرخته الأخيرة التي تقول خيبته، وكانت قصيدة أبي البقاء الرندي«لكل شيء إذا ما تم...» بمثابة العزاء الذي يتلوه كل قارئ عربي يجد نفسه مشدودا إلى ماضيه. عند سقوط الإمبراطورية العثمانية تذكر العرب الأندلس المفقودة، وعند تقسيم فلسطين تذكروها ثانية، وعندما تلقوا ضربات إسرائيل عام 1967 عادوا إليها مجددا، وفي حرب رمضان استعادوها، وعندما سقطت بغداد في يد «علوج» محمد سعيد الصحاف عام 2003 كان لا بد أن يتذكروها أيضا. ظلت الأندلس مرجعية سيكولوجية أكثر منها تجربة تاريخية تستحق أن تمثل نموذجا حضاريا يمكن الإفادة منه، منديلا لمسح الدموع لا كتابا يجب أن يقرأ من غلافه، وسيطرت عليها ثقافة الحنين لا ثقافة السؤال الذي يبحث عن أسباب الهزيمة ويحاول أن يجد نقاط الضوء التي جعلت تلك التجربة من أغنى التجارب الحضارية في العالم، من حيث التعايش بين الديانات والثقافات والأجناس المختلفة في بوثقة واحدة جعلت من الأندلس نموذجا مضادا للنموذج الذي سوقه داعي صدام الحضارات، الأمريكي صامويل هانتنغتون، في أطروحته الشهيرة التي أراد بها تتويج الأحادية القطبية وتوفير مبرر إيديولوجي وسياسي للهيمنة على العالم. في روايته ما قبل الأخيرة«أخوية اليقظين» يستعيد المؤرخ والكاتب الفرنسي جاك أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران وصاحب كتاب«اليهود والعالم والمال»، هذه التجربة الأندلسية الغنية، في إطار قراءة سياسية وأدبية معينة لتلك التجربة، انطلاقا من رؤية فرنسي يحاول في جميع كتاباته الدفاع عن الشعب الذي ينتمي إليه واعتباره اللاعب المركزي في العديد من الحركات التاريخية الكبرى، مثل نشأة الرأسمالية، كما يفعل في الكتاب الثاني الذي يكسر فيه نظرية الألماني ماكس فيبر التي يقول فيها إن الديانة المسيحية كانت وراء نشأة الفكر الرأسمالي، ويردها إلى الديانة اليهودية. تجري أحداث الرواية في القرن الثاني عشر للميلاد بمدينة قرطبة، حاضرة الأندلس آنذاك، التي شهدت ازدهارا ثقافيا وفكريا وأدبيا لا نظير له. أما البطلان الرئيسيان للرواية فليسا سوى الفيلسوف العربي المسلم أبي الوليد ابن رشد، والفيلسوف والطبيب اليهودي الأندلسي ابن ميمون، الذي ولد بقرطبة وعاش في القاهرة وقيل إنه كان طبيب صلاح الدين الأيوبي، محارب الصليبيين. في طريق البحث عن الكتاب السري الذي تحدث عنه إليه والده قبل وفاته، بين أوربا والمغرب، يصطدم ابن ميمون بالفيلسوف العربي، المهووس هو الآخر بالبحث عن الحقيقة، فيسعيان معا إلى إنشاء أخوية مشتركة بينهما هي «أخوية اليقظين»، لكن أعداء التقارب بين الرجلين ينجحون في ثنيهما عن مشروعهما المشترك. مثل ابن رشد وابن ميمون نموذجين لنهضة الفلسفة في الأندلس، وشكلا في نفس الوقت صورة للتواصل والحوار بين الشعبين العربي واليهودي في ذلك الفردوس المفقود الذي لا زال العرب يعتبرونه المثال الأول والأخير لتعددية فكرية وثقافية سرقت منهم وعجزوا عن تكرارها. ويوظف جاك أتالي هذه العلاقة التي نشأت بين الرجلين لكي يظهر حالة التسامح الديني والثقافي التي كانت سائدة في الأندلس خلال تلك الحقبة التي كانت من أخصب مراحل التاريخ العربي في القرون الأخيرة، مقدما في نفس الوقت، وبشكل ضمني واضح، مرثية لحالة القطيعة الحالية بين الشعبين، في اتجاه يخدم هدفه السياسي والثقافي بشكل واضح. المؤكد أن التاريخ دائما يخفي الحقائق ولا يكشفها، لأن الذي يستنطق الأحداث التاريخية هو الوحيد الذي يسمح لنفسه بحق تأويل الحادثة، لكن أكبر حجب يمارس باسم التاريخ هو نسيان الربط بين الماضي والحاضر لمعرفة النقطة الزمنية التي حصل فيها الانقلاب على التجربة التاريخية وتحديد مسؤولية ذلك الانقلاب التاريخي. فرواية أتالي هي نوع من إعادة كتابة التاريخ، أو صياغة جديدة لتاريخ معين قرئ مرات عدة وأعيدت قراءته في كل وقت لكي يؤدي هدفا محددا ويكرس مضمونا معينا.