بالأمس كان المتفرج مجرد مستهلك للفرجة يؤدي ثمن تذكرة تسمح له بعبور الحواجز نحو مقعد شاغر أو ممتلئ، ليقضي ساعتين من المتابعة الهادئة على غرار ما تعيشه ملاعب التنس حيث يصبح الصمت فعلا حكمة. بالأمس لم تكن المدرجات المتواجدة خلف المرمى محرابا يتعبد فيه المشجعون، لم تكن للمكانة وفريميجة أو غيرهما من المدرجات الكريمة صفة «الحرم الكروي». في ذاك الزمن كانت الفرجة مضمونة بوجود لاعبين يعشقون القناطر الصغيرة ويموتون حبا في اللمسة الساحرة والتسديدة العابرة للمسافات، ويملكون القدرة على جعل المتفرجين سكارى وما هم بسكارى بلعب رجولي تمتزج فيه الفرجة بقوة الأداء. اليوم تغيرت المفاهيم، وتحولت الفرجة بقدرة قادر من أقدام اللاعبين إلى أيادي وحناجر المتفرجين، من المستطيل الأخضر إلى المدرجات الإسمنتية في نقلة تاريخية تضع قطيعة مع الماضي. ينتظر الجمهور بلهفة الكشف عن لوحة فنية من المدرجات، يصوب المترددون على الملاعب كاميرات هواتفهم النقالة صوب قبلة الفرجة الحقيقية، فخلف المدرجات يتبارى المناصرون في صنع اللوحات المعبرة وإرسال الميساجات الواضحة والمرموزة، التي تنتزع التصفيق من بقية المشجعين. قال الزعيم معمر القذافي في كتابه الأخضر وبالتحديد في الجزء الاجتماعي منه «إن الرياضة نشاط عام ينبغي أن يمارس لا أن يتفرج عليه، وسيأتي يوم نحطم فيه المدرجات لأنها ملاذ للكسالى العاجزين عن ممارسة الرياضة ونبشر الشعب بمبدأ الرياضة للجميع». لم يكن الرئيس الليبي يعتقد يوما أن نظريته ستكون في حالة شرود، في ظل تنامي ظاهرة الإيلترا التي اكتسحت المشهد الرياضي، وحولت المتفرج من متتبع يتعقب الفرجة إلى صانع ومصدر لعلامة مسجلة تطرد العزوف الجماهيري إلى غير رجعة. غدا ستنتهي صلاحية فرجة الملاعب، وتصبح المدرجات ميدانا لفرجة من نوع آخر، قد تصبح الآية معكوسة، جمهور يصنع الفرجة ولاعبون يمارسون لعبة التصفيق، لنتصور جميعا مشهد لاعبين يقصدون الملعب فيجلسون القرفصاء على رقعة البساط الأخضر أو يفترشون حقائبهم من أجل الاستمتاع بفرجة المدرجات، حينها ستنتقل النجومية إلى مكان وأشخاص آخرين، فكثير من الشباب يحتفظون في «بلوغاتهم» بصور مع رموز المدرجات ونجوم الطبل والحنجرة، بعد أن كانت ألبوماتهم تفخر بصور للذكرى مع لاعبي الكرة، بل إن أغلب المصورين الذين كانوا يختارون مواقعهم خلف مرمى هذا الفريق أو ذاك اختاروا تصويب فوهة عدساتهم نحو المدرجات. لكن المنطق يفرض إعفاء هؤلاء النجوم الذين يصنعون الفرجة من أداء ثمن التذاكر ومن زحمة الأبواب ومن عرق الاختناق وسيل الإهانات. لا تختلف هذه الفئة من المتفرجين صناع الفرجة، عن الفرق في تحضيراتها، تختار قبل كل مباراة حاسمة معسكرا للاستعداد لليوم الموعود، يحاط بالسرية ويتم التكتم عن الخطة والتكتيك الفرجوي، بعد أن يتحمل الجميع بشكل تضامني فواتير المعسكر ونفقات الترتيبات، هناك تتجسد الروح التطوعية في أبهى صورها. في ظل هذه الثقافة الجديدة، التي تجعل المتفرج طرفا أساسيا في بناء المشهد الفرجوي داخل ملاعب الكرة، يمكن أن تظهر في الأفق مسابقات بين مختلف الفصائل، تنتهي بتتويج بطل المدرجات، فإذا كان نجوم الكرة ينالون الكؤوس والميداليات، ونجوم السينما ينالون الأوسكارات السنوية ونجوم الأغنية يتوجون بالربابات والأسطوانات الذهبية، فإن نجوم المدرجات أحق بالاعتراف، لأنهم يجودون بفرجة تنهي الكساد، انسجاما مع مبدأ عام يقول «اللي ما شرا يتنزه».