في هذه النافذة سنتناول أسبوعيا كتبا أثارت الجدل وشغلت الناس، في الفكر والأدب والسياسة وسائر الحقول المعرفية، وسننفتح على أطروحات مؤلفيها، كما سننقل إلى القارئ أهم مواضيعها، بعضها قديم وبعضها معاصر، وقد لا يوجد بينها قاسم مشترك أو يجمعها خيط ناظم، لكنها تلتقي في كونها تركت أثرا عميقا في أذهان القراء أو خلخلت ثوابت راسخة في وجدانهم أو دفعتهم إلى التساؤل حول قضايا كانت تعتبر لديهم من البدهيات أو شكلت مادة خصبة لإعادة تركيب وقائع التاريخ وفق رؤى مغايرة أو ساهمت في تطوير بعض الحقول المعرفية. «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، «كفاحي»، «الحرب تحت ذريعة الحضارة»، «الهيمنة أم البقاء»، «قيمة القيم»... وغيرها، كتب لا شك أن القارئ لم يفرغ من مطالعتها إلا وساءل الكثير من قناعاته السابقة. ولعل هذا الهدف من بين أهم ما نسعى إليه في هذه النافذة، وهو هدف جدير بالاهتمام، إذ أنه يحرض القارئ على القراءة النقدية ونبذ المعرفة الجاهزة. بلغة راقية تذكر بِتَرَسُّل الإشبيليين وأمالي أدباء قرطبة يتناول المؤرخ عبد الهادي بوطالب سيرة الأديب الشاعر، والوزير الداهية لسان الدين بن الخطيب، في رواية «وزير غرناطة». عاش الوزير تقلبات السياسة ودسائس القصور فكان شاهدا على عصره، صنعته أحداثه مثلما صنعها، ومن ثم يستشف القارئ أن بوطالب إنما كان يدون سيرته الذاتية حين أرخ للسان الدين، فحين قدم الفقيه العلامة عبد الله كنون بوطالب للسلطان محمد الخامس، كان يتوقع أن يقف طموح الرجل عند حدود التدريس في المدرسة المولوية، غير أن جاذبية الحكم نقلته بعيدا عن عالم التدريس تماما كما حدث مع لسان الدين. وإذ ولج المؤرخ خريج القرويين دنيا السياسة فإنه لم يكن بعيدا عن أخطارها المهلكة، وهو يحكي ذلك بلسانه في حوار مع «الجزيرة»، فقد وجد نفسه وجها لوجه مع الرجل الدموي «أوفقير» بعدما شك في مشاركته في انقلاب الصخيرات وأفضى بشكوكه إلى الملك. إنها نفسها التقلبات التي عاشها ابن الخطيب في حياته، فمن طلب العلم والكد في تحصيله إلى ممارسة الحكم وما ترتب عن ذلك من تعرض للمهالك، ثم الصراع مع المقربين من السلطان، ثم الإقصاء الذي أفضى إلى الاغتيال في قصة لسان الدين، وإلى الإبعاد المؤقت عن دائرة النفوذ في قصة «بوطالب». أمر آخر يدعو إلى القول بأن رواية «وزير غرناطة» تروي قصة الرجلين معا، إنه ذلك الثناء العطر على المغرب والمغاربة عموما وعلى مدينة فاس خصوصا حيث شب المؤلف وترعرع، فتجده حين يَعْرِضُ لذكر المغرب أو مدينة فاس يتحدث عنهما بلسانه وقلبه، معبرا عن عاطفته لا عن عاطفة ابن الخطيب. يقول: «ولولا يوسف بن تاشفين ملك المرابطين بالمغرب الذي أوقف العدو عند حده وكانت وقعة الزلاقة الحد الفاصل...لولا ذلك لابتلعت النصارى الأندلس من ذلك الوقت، وقد سجل المغاربة كعادتهم صفحات مشرقة من البطولة والعزة كآبائهم في المشرقين الأدنى والأوسط». ويضيف متحدثا عن فاس «ولأهل فاس ذوق ممتاز في التفنن بالاحتفالات وإقامة المهرجانات، وفيهم شعور راسخ يدفعهم إلى العطف على الغريب، فيندفعون للتباري في رعايته ويمعنون في الحفاوة به، هذا وأن ملكة الاستطلاع راسخة في نفوسهم أكثر من أي بلد آخر من بلاد المغرب». إن اختيار بوطالب الحديث عن العلاقة بين بني الأحمر وبني مرين وجهود ابن الخطيب في تذويب الخلاف بينهما لم يكن اختيارا اعتباطيا، ولعله في سفاراته الكثيرة نحو العواصم العربية كان يحلم بنفس أحلام لسان الدين، فالعرب، حين ألف روايته، كان يهددهم الخطر الإسرائيلي من كل حدب وصوب وهم لاهون عنه بصراعاتهم الداخلية، وقد توجه غير ما مرة في مهام سرية وأخرى علنية نحو المشرق للقيام بنفس الدور الذي سعى إليه ابن الخطيب في المغرب. ونحن نلمس أثناء استعراض أهم أحداث الرواية أن المؤلف يوجه من خلالها أكثر من رسالة إلى معاصريه، فقد سَفَرَ ابن الخطيب لبني الأحمر في اتجاه فاس المرينية وتحمل عبء التقريب بين مملكتين مسلمتين يتربص بهما العدو النصراني الدوائر، ولم يكتف أثناء نقله رسائل أبي الحجاج وخلفه الغني بالله بتدبيج العبارات الرنانة وصياغة الكلمات المؤثرة لأن غرناطة ما كانت لتستمر بتجييش العواطف وحسب، وإنما انخرط بكليته في محاولته استنقاذ غرناطة من مخالب أعدائها فكسب ود بني مرين الذين حملوا على عاتقهم مهمة إعادة أمجاد الإمبراطورية المرابطية والموحدية ووجدوا في ابن الخطيب خير معين لهم في قصور غرناطة وخير منفذ لسياستهم الرامية إلى بناء أندلس قوية لا تقف عند حدود غرناطة. وعلى القدر الذي شكل هذا التقارب بين لسان الدين وبين بني مرين مكتسبا سياسيا لغرناطة على القدر الذي أثار مكامن الحقد والحسد لدى خصومه فراحوا يؤلبون عليه الغني بالله، وبين عشية وضحاها سيجد ابن الخطيب نفسه ضحية مؤامرات أقرب مقربيه، منفيا من غرناطة التي أحبها من كل قلبه وسعى إلى الحفاظ على استقرارها، فقصد البلاط المريني مهيض الجناح، ناقما على بني الأحمر ومن يدور في فلكهم، فاستيقن خصومه حينها أنه كان جزءا من مؤامرة تهدف إلى ضم غرناطة للبلاط المريني. كان لسان الدين رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلم يقنع منه خصومه بالإبعاد عن دوائر القرار، بل سعوا إلى محاصرته بفاس، وراسلوا المرينيين بشأنه، وتوالت الوفود تترى على مدينة فاس للمطالبة برأسه، وقد ظل بمنأى عن كل المحاولات التي أرادت به سوءا إلى أن قامت ثورة فاس التي أطاحت بخليفة أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن على العرش المريني، فوجد ابن الخطيب نفسه في قبضة خصومه من جديد سجينا مضطهدا، وكان لا بد مما ليس منه بد، إذ سيعدم خنقا بسجنه بفاس. ولم يشف ذلك صدور أعدائه، فقاموا بنبش قبره وإحراق جثته أمام باب المحروق. تلكم بإيجاز أبرز أحداث رواية «وزير غرناطة»، التي تلخص مأساة الأمة ومأساة المخلصين من أبنائها إلى حدود الساعة، فالصراع بدد طاقتها وصرفها عن عدوها الأصلي. والأسوأ من ذلك أنه أحرق أبناءها البررة الذين بذلوا وسعهم في سبيل خلاصها. لا يمكن أن نجزم بأن المؤلف كان يقصد توجيه سهام النقد إلى الواقع العربي المعاصر على ضوء أحداث روايته، ولا أن نجزم أنه أحس بالغبن، الذي أحس به ابن الخطيب أثناء فشله في مهمته، وأن ذلك الغبن هو الدافع إلى تأليف الرواية، خاصة أنه كان قد ألفها في فترة من فترات الإقصاء التي كان يتعرض لها بين الفينة والأخرى، وهي الفترات ذاتها التي كان يفزع فيها للتأليف ويلوذ بكتبه مبتعدا عن دنيا الحكم ومصاعبها، غير أنه لا يسعنا في الوقت نفسه إلا أن نقر بأن التشابه بين العصرين وبين الرجلين في الكثير من الجوانب يكاد يبلغ حد التطابق. رواية «وزير غرناطة» تكشف فضلا عما سبق جانبا مهما من دسائس القصور ومكائد رجال السياسة، مما يندر العثور عليه عادة في تدوينات المؤرخين وتواليفهم، وقد نقل بوطالب كل ذلك بأسلوب روائي متميز لا ينتقص من حقائق التاريخ شيئا ولا يجور على متعة الأدب وخفته. أمر آخر ينبغي أن نشير إليه، هو أن بوطالب خدم لسان الدين خدمة جليلة وحفظ ذكره من خلال بعث الأحداث التي عاشها وساهم في صنعها في عمله الروائي الجميل. ولم يكن الوحيد الذي افتتن به، فقد جذبت سيرة هذا المؤرخ الفذ الكثيرين، غير أن أساليبهم في تخليد اسمه اختلفت. ولئن كان المقري التلمساني اختار الكتابة التاريخية في التعبير عن تعلقه بشخصية لسان الدين، فألف فيه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب» فلأن الكتابة التاريخية كانت ملائمة لعصره، أما بوطالب فقد استشف أن عملية بعث ذكر شخصية صاحبه تحتاج إلى لغة تخاطب العاطفة والوجدان قبل العقل، فاختار لغة الأدب بعد أن رأى أن الأجيال القادمة لن يكون لها قِبَلٌ بمطولات المؤلفات.