حمزة حبحوب حكم عليهم بالشتات لحكمة، وقدر لهم التفرق في ديار غير تلك التي ألفوها، ذبّح أبناؤهم وتم استحياء نسائهم، فقهوا معنى الألم واصطلوا النار حرها، فكان لزاما عليهم النجاة بأنفسهم وأهليهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ليسوا يهودا حكم عليهم بالتيه، ولا فلسطينيين هجروا من أراضيهم، بل هم شاميون من حديد هجرهم الأمن فهاجروا سعيا في طلبه، وفارقهم السلام ففارقوا بلادهم طمعا في استرجاعه، قوم تجمعهم وحدة الحال ووحدة الشعور بالاختلاف عن الآخرين. كعادتها كل يوم، أخذت أم جمعة محاطة بولديها، مكانها أمام المسجد «الأبيض» بمدينة المحمدية، بين عدد من المتسولين المغاربة الذين باتوا يرمقونها بنظرات لاذعة، تنم عن تذمرهم من ضيف غير مرحب به وسط أسرتهم الصغيرة. «يا إخوان عائلة سورية، ساعدونا»، هذه هي العبارة التي اعتاد مرتادو المسجد سماعها عقب كل صلاة، تقف أم جمعة حاملة ولدها الأصغر، مبرزة جواز سفرها لإثبات هويتها التي لا تحتاج إلى حجة لتأكيدها، فملامح وجهها، ووجهي ولديها، علامات صريحة تؤكد انتماء السيدة الشامي، تقول بنبرة ملؤها الحزن: «وسيلتي الوحيدة لتوفير لقمة العيش هي مد يدي للناس، ويا ليتها لقمة عيش فقط، فابني الصغير تنتظره عملية على مستوى القلب يجب أن تجرى في أقرب الآجال، لكن الحمد لله، إخوتنا المغاربة لا يقصرون، وهذا أمر لم أفاجأ به، لأن زوجي دأب على زيارة المغرب لمدة عشر سنين، ولهذا اخترناه وجهة نلوذ بها». كدح العيش وأعباء الحياة التي تتحدث عنهما أم جمعة ينظر إليها طلال السوري من زاوية أخرى؛ شاب هو الآخر لاجىء، لكن، بروح مختلفة، إذ استطاع أن يؤسس رفقة أصدقائه جمعية تعنى بشؤون اللاجئين السوريين داخل المغرب، توفر لهم المأكل والمأوى، وتخفف عنهم ثقل المعاناة، عن طريق معونات تتلقاها من محسنين، داخل المغرب وخارجه . يشرح الوضع أكثر فيقول :» بحكم عملي داخل الجمعية، تعرفت على كثير من الشباب المغاربة المحبين للخير والمستعدين لدعم أشقائهم السوريين، لكن ما أثار انتباهي فيهم، وهو أمر محزن حقيقة، ترسخ صورة نمطية في أذهانهم حول السوريين اللاجئين، إذ يعتبرون أن جميعهم يتسول ويجمع أموالا باهظة... والواقع خلاف ذلك تماما، طبعا يوجد الكثير ممن لجأ إلى مثل هذه الطريقة للحصول على المال، وهم صنفان: إما عن حسن نية ورغبة في سد حاجاتهم اليومية، وهؤلاء قلائل، وإما طمعا في جني مبالغ ضخمة من المال بغية تسديدها للمهربين مقابل ضمان العبور إلى الضفة الأخرى، وهذا بالحجة والبرهان، فقد اتصلت جمعيتنا غير ما مرة بلاجئين سوريين، أو قابلتهم عند أبواب المساجد يتسولون، وعرضت عليهم المساعدة حتى يكفوا عن مد أيديهم للناس، لكنهم رفضوا رفضا باتا!! فما معنى هذا إذن؟!» يضيف طلال متحسرا على الوضع: «أنا نفسي بحثت في الأمر لما ارتبت منه، فوجدت أشخاصا كثرا يجنون شهريا، ضعفي راتب موظف في السلم التاسع، يصل أحيانا إلى ألف درهم يوميا!، وكل هذا عن طريق التسول». أغنياء مساكين وسط حي راق بمدينة أكادير تنتصب عمارات شامخة يتبين من ظاهرها أنها ليست للجميع، داخلها تتداخل اللهجة المغربية بأختها السورية زارعة في النفس ريبة، لاجئون سوريون يكترون شققا فاخرة بأثمنة باهظة، ولأن الأصل حسن الظن بالآخر؛ فلربما كان القوم أصحاب مال في وطنهم الأم، كان التريث خير السبل لبلوغ اليقين. فجأة، قطع خيط التفكير في الأمر آذان صلاة المغرب الذي لا يكاد يسمع، لبعد المسجد عن الحي... تناسل الناس مثنى وفرادى، رجالا ونساء من إقاماتهم يحمل بعضهم أكياسا بلاستيكية، فيما لا يظهر من هيئة البعض الآخر أنه ثري، وحدها أعينهم تخبر عن سر كشفه التريث. «السلام عليكم ورحمة الله... السلام عليكم ورحمة الله « كلمات إمام طاعن في السن أنبأت بنهاية الصلاة، أعقبتها مباشرة أخرى أعلنت بداية كسب بارد جديد. «يا إخوان عائلة سورية ساعدونا»، هي نفس الكلمات، بنفس النبرة يرددها الأشخاص ذاتهم على مسامع الناس عينهم، لم تفتر بعد، فالأوراق النقدية والأكياس البلاستيكية المملوءة بالمواد الغذائية المتهاطلة كوابل من المطر تنم عن سحر عجيب يلف تلك الكلمات! بعد انصراف آخر رجل من المسجد تبعته أعين متسولين مغاربة توحي نظراتهم بأحاسيس متباينة من الحزن والحقد والخيبة. «گيطو سوري»..هذا تماما هو الوصف الأدق لجماعة من الناس تعلو محياهم ابتسامات صامتة وهم عائدون إلى مستقرهم بعدما أنهوا عملهم أمام باب المسجد. «م.م» أحد أولئك اللاجئين، يحكي عن عصابات مختصة في تهريب اللاجئين السوريين تنشط بين الحدود مع الجزائر هي من ساعدته للدخول إلى المغرب ويضيف « أعرف عددا كبيرا من الأصدقاء تم تهريبهم على الحدود مع الجزائر، قد يتساءل البعض عن عدم بقائهم فيها، الإجابة هي أن المغرب لديه ضفة تطل على أوربا، وهذا تماما ما يرمي إليه المهَرَبون، فهم يرغبون في الذهاب إلى أوربا عن طريق المغرب». معظم اللاجئين يأتون المغرب برا مرورا بالتراب الجزائري يستعينون بالمهربين، الذين يساعدونهم في عبور الحدود وكثير منهم يدخل من الجهة المقابلة لجهة «الشيلحات» والمناطق المجاورة، لينتهي به المطاف في مدينة وجدة. لكن الأخطر من هذا، هو استغلال بعض أفراد تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي الوضع والانتقال بكل سلاسة بين البلدين، ناهيك عن عمليات تهريب المخدرات والمواد الغذائية والأدوية الفاسدة التي تتم تحت غطاء اللجوء، فضلا عن هذا كله فليس كل اللاجئين من الثوار، كما يوضح أحد اللاجئين، رافضا الكشف عن اسمه « هناك من يفر من ملاحقة الجيش الحر له فيتحصن بإيران ثم ينتقل بعدها إلى المغرب، وأنا شاهدت جواز سفر أحدهم يطلب المساعدة زاعما أنه فار من ظلم بشار عليه ختم إيراني .. وهذا يجعلك تشك في كونه جاسوسا أو ع ميلا». «عار» اللاجئين أبو عمار ( اسم مستعار) واحد من كثيرين عانوا من «سلوك» بعض اللاجئين الذين باتوا يقدمون صورة نمطية عن السوريين لرجال الأمن، حكى ل «المساء» عن محنته مع السفر جراء ما أسماه « العار»_ يقصد عار اللاجئين الذين يزورون جوازات سفرهم فيقدمون بذلك صورة نمطية لدى السلطات التي باتت تعامل جميع السوريين بازدراء وتحقير_، قال: « في مطار دبي وعلى حاسب الوزن طلب الموظف أوراقنا وزوجتي أعطته الجوازات السورية التي تحمل فيزا نظامية إلى ايطاليا، طبعا كالعادة، نظرات الاتهام توجه إليك كونك تحمل جواز سفر سوري مع الامتعاض والقرف ... يتفحص أوراق الجواز يقلبها، يصل إلى الفيزا، يتحسسها، يعود الى صفحة الاسم مرة أخرى ثم إلى الفيزا يقلبها يمنة ويسرة عله يكتشف شيئا، يسترق بعض النظرات إلى وجهك، عليك ألا تتوتر حتى لو كانت الفيزا نظامية، والأهم أن لا تبتسم أيضا لئلا يعتبر ذلك إهانة له، بصراحة، ليست هذه أول مرة، فقد خضت هذه التجربة كثيرا لكنني الى الآن لم أكتشف ما هو التعبير المناسب الذي يتوجب علي أن أرسمه على وجهي كي أنفي الشبهة عني ... بعد أن يفرغ من الجواز تتنهد وتأخذ نفسا عميقا بكل هدوء لئلا يلاحظ ذلك، تحاول أن تشغل نظراتك بأي شيء بحقيبتك أو جهاز الوزن أو شخص يقف بجانبك دون أن تعطي الموظف انطباعا بأنك تهمله (بعدين بيزعل) طلب تأشيرات الطيران، أنا سأذهب إلى إيطاليا-ألمانيا-اسطنبول -دبي عن طريق الطيران السعودي مرورا بجدة، وفي الإياب طيران الامارات وزوجتي ستفارقني في ميلانو لتتجه صوب اسطنبول بغية زيارة أهلها لألتحق بها بعد أيام ونعود سويا إلى دبي، نظر إلى التأشيرتين فصعق، كما لو أننا لن ندفع الكلفة وأخذ يسأل لم كل هذه الحجوزات؟ - بالله عليك بماذا سأجيبه؟- قلت له هل هناك أي مشكلة في الحجز أو في الدول التي أنوي الذهاب إليها؟ فأجابني الموظف: باختصار أنا سوري مثلك وكلانا يعلم وضع السوريين... فقطعت حديثه قائلا تخشون أن نقوم بتقديم اللجوء ولكن انظر الى الجوازات فهذه ليست أول مرة خلال ستة أشهر أسافر إلى أوربا، ثم لو أنني أنوي تقديم اللجوء لماذا سأقوم بزيادة المصروف والحجز من دبي إلى جدة ثم إيطاليافألمانيا وإسطنبول؟! سأحجز في دبي ثم ألمانيا مباشرة! هل كنت حينها ستشك بأنني سأقدم لجوءا حسب كلامك؟ بعد نهاية النقاش، أعطى الجوازات لشخص لم أعرف ما هي مهمته، يأخذ الجوازات ويغيب قليلا ثم يعود كما في المرة الماضية . اجتمع عدد من الموظفين ليستفسروا عن المشكلة بعد أن رأونا نقف لأكثر من ثلث ساعة وكل واحد يريد أن يتفحص جواز الفيزا، وأخيرا، أعطانا (بوردنج) الطائرة إلى جدة-ميلان هبطنا في جدة ترانزيت لثلاث ساعات ثم انطلقنا الى البوابة للمغادرة عند الموعد (وعينك ما تشوف إلا النور) وكأن صاعقة كهربائية صعقتهم حين شاهدوا جوازات سورية، مرة أخرى يتفحص الجواز، يقلب صفحاته, يتفحص الفيزا، ثم يتجمع الموظفون يتساءلون عن سبب وقوفنا لمدة طويلة، يمضي الوقت بسرعة، بقيت دقائق على إقلاع الطائرة، يأخذ أحد الموظفين الجوازات إلى مكان مجهول، يعود بعد فترة ويكتشف أن كل شيء سليم، أشعر بهم والحقد في قلوبهم وكأنهم يريدون أي شيء يتمسكون به لإدانتنا وتجريمنا، سأل عن حجوزات الطيران للعودة، فأعطيته إياها، لم تنجح خطته فطلب حجوزات الفنادق، أعطيته حجوزات ألمانياوإيطاليا وهنا عثر على الثغرة التي سيعاقبنا من أجلها وتساءل: أين حجوزات الفندق في تركية؟ عندها شعرت بإهانة كبيرة، أنا متأكد أنه يتعمد تأخير السفر لاسيما وأن الطائرة لم يتبق على إقلاعها سوى أربع دقائق ... فأخبرته أن أهل زوجتي يقيمون في تركيا، وليس من المنطقي أن نقوم بحجز الفندق. وهي أصلا ذاهبة لزيارتهم. فشلت خطته الثانية ... سألني مرة أخرى: كم تملك من المال؟ تلك كانت الورقة الأخيرة لديه، أجبته بكل ثقة: بالقدر الذي تريد، حدد المبلغ الذي تريد وسأخرجه لك حالا، إن لم يكن( كاش) فمن خلال بطاقة البنك .. قال بل أنت قل لي كم تملك. فأخبرته كاش أم كريديت، فأجاب لا بل كاش، فقلت له لدي مصروف الجيب ولوحدي لدي أربعة آلاف أورو في الحقيبة على كتفي بغض النظر عما تملكه زوجتي فطلب أن يرى المبلغ ففتحت له الحقيبة ليرى قسما من المبلغ فطلب إخراجه ولأنني فهمت اللعبة وأنه فقط يريد إذلالنا أو تعسير الأمور، أخرجت له أربع مائة أورو وقلت له هذه أربعة آلاف ثم أعدتها إلى الحقيبة لأنني حقيقة لم أكن أملك في الحقيبة أربعة آلاف أورو كاش، عندها، وبكل غباء شعر بأنه انتصر وهنا بقي للطائرة ثلاث دقائق فما كان منه إلا أن أعطانا الجوازات لنركض الى الطائرة وأنا أكيل الشتائم والدعوات لهم بكافة الأشكال والألوان ... هبطت الطائرة في مطار ميلانو اتجهنا الى قسم الجوازات لختم الدخول، أعطيت الموظف الايطالي الجوازات، لم يرفع وجهه ولم ينظر إلي، وضع الفيزا على» السكانير «ظهرت له صورتها كما هي، أمسك الختم وطبعه على الجوازات وأعادها لي وهو ينظر من خلفي، لم يتفوه بكلمة واحدة ... حينها كررت شتم العرب كل العرب... كل ما حكاه أبو عمار فيض من غيض ما انفك الكثير من السوريين يكتمونه لعدم جدوى قوله، لكن الممحص للأمر بعقلانية يتبين له أنه ما من عيب فيما يفعله اللاجئون؛ ففرارهم من القتل والتشرد سلوك طبيعي، وبحثهم عن مأوى يحفظ لهم كرامتهم ليس جرما! بل العيب كل العيب تجاهل سلطات الدول مساعدتهم وتوفير أبسط مقومات الحياة لهم، لذا، فالمسؤولية مشتركة تتحمل الدول والحكومات المحتضنة للاجئين الجزء الأكبر منها، سيما في ظل وجود مواثيق دولية وقوانين كونية توجب حفظ حق اللاجئين من خلال مجموعة من الوسائل المنصوص عليها. لكن، رغم التقصير الواضح من جانب الجهات المعنية، إلا أن ضغط المنتظم الدولي والمجتمع المدني سرع وتيرة تدارك الأخطاء التي ارتكبت في حق هؤلاء اللاجئين. جهود وحلول لا تملك المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في المغرب أرقاما مضبوطة عن أعداد السوريين الذين يعيشون متفرقين في عدة مدن مغربية، فقد توقفت عن تسجيلهم في يناير من السنة الماضية، لكن منذ ذلك التاريخ اتصل 843 سوريا لتقديم طلب اللجوء لدى المفوضية. يقول مارك فاو، ممثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في المغرب، إنه تمت مناقشة الملف مع السلطات المغربية طيلة شهور، لكن عملية التسجيل توقفت حاليا. ويضيف فاو: «نأمل أن يتم استئناف العملية». وبالنسبة لفاو فإن رغبة المغرب في مساعدة الشعب السوري تجلت من خلال إقامة مستشفى ميداني عسكري في مخيم الزعتري في الأردن منذ يوليوز 2012، إضافة إلى التسامح مع وجود المواطنين السوريين على أراضي المملكة في وضع غير قانوني. لكن فاو يضيف أن «المغرب ينقصه اليوم برنامج محدد وواضح لدعم وحماية المواطنين السوريين المقيمين على أراضيه». كلام فاو استجابت له السلطات المغربية وقامت بتسوية وضعية اللاجئين القانونية باعتبارهم «مُقِيمِين»، والسمّاح لهم بتأسيس جمعية تنشط في الأعمال الإنسانية والاجتماعية. وجاء هذا عقب لقاء عقدته في الأشهر القليلة الماضية بالرباط مع ممثلين عن الأسَر السورية، وقد أبدى مجموعة من اللاجئين ارتياحهم لهذه الخطوة مؤكدين على المضي قدما في معالجة المشاكل الأخرى العالقة بشكل تدريجي بعد تسوية الإقامة باعتبارها مرحلة أولى، وعدٌ آخر، كما صرح مجموعة من اللاجئين، أخذته العائلات السورية من الرباط، يتمثل في السماح للسوريين بالدخول للمغرب من الحاملين للتأشيرات النظامية. وقد فتح المغرب ملف اللاجئين السوريين من خلال بدء عملية لتسوية الأوضاع القانونية لأزيد من ألف لاجئ ورغم أن الخطوة تحظى بإشادة وتأييد شعبي عفوي، فقد أبدى البعض تخوفه من تسببها في إغراء أعداد جديدة من المهاجرين واللاجئين للتوجه إلى المغرب. الخطوة تلك سبقها قبول السلطات المغربية في وقت سابق أكثر من 20% من طلبات تسوية الوضعية للمهاجرين غير الشرعيين في المغرب، خصوصا الأفارقة منهم الذين تقدر أعدادهم بحوالي ثلاثين ألف شخص. وكانت وزارة الداخلية المغربية كشفت أنه تم إلى حد الآن قبول ثلاثة آلاف طلب من ضمن 16 ألفا و 123 ملفا، تم تقديمها بعد انطلاق عملية تسوية وضعية المهاجرين غير الشرعيين في المغرب بداية العام. ويبقى ملف اللاجئين السوريين استثناء خاصا للمغرب ضمن حالات الهجرة غير الشرعية لاعتبارات متعددة.