عندما كان المغاربة يتابعون المسلسلات المكسيكية المدبلجة باللغة العربية الفصحى، كان الذين يعانون من مشكل الأمية لا يفهمون مضمون الحوار الذي يدور بين أبطالها الوسيمين، لكنهم مع ذلك يشاهدونها، لأن الصور التي تظهر على شاشة التلفزيون تكون في أحيان كثيرة أبلغ من الكلام. مثلا، عندما تشاهد حلقة من تلك السيتكومات المغربية التي تبث خلال شهر رمضان حتى من دون صوت، تستطيع أن تكتشف من خلال قسمات وجوه الممثلين الذين «يتعوجون» بلا معنى، أنك إذا رفعت صوت جهاز التلفاز لن تسمع شيئا آخر غير التفاهات! المثال الثاني حول قدرة الصورة على قول ما لا تستطيع الكلمة قوله، يمكن أن نجده مثلا في الأفلام الصامتة ل«شارلي شابلن» و«مسْتر بين» وحتى في سلسة الرسوم المتحركة «طوم وجيري». حيث يستطيع الأبطال الصامتون لهذه السلسلات بعفويتهم وتلقائيتهم أن ينتزعوا منك الابتسامة حتى وإن كان مزاجك سيئا، بينما يعجز الخياري وفهيد والناصري عن إضفاء البسمة على وجوه من يشاهدونهم، رغم أنهم لا يكفون عن الثرثرة. فهؤلاء تنقصهم الأفكار الثاقبة ل«مستر بين» و»شارلو»، وتنقصهم العفوية والتلقائية التي يتمتعان بها. وينقصهم أيضا، وهذا هو الأهم، أن يكفوا عن العمل وفق مقولة «كوّر واعْطي للعور»! اليوم لم يعد مشكل اللغة قائما بالنسبة إلى المدمنين على مشاهدة المسلسلات القادمة من أمريكا اللاتينية وتركيا، لأن شركات الدبلجة اكتشفت أن أسهل طريق لجذب مزيد من المشاهدين إلى شاشات التلفزيون التي تقتني هذه المسلسلات هو دبلجتها باللغة أو اللهجة التي يفهمها العامة، على اعتبار أن نسبة الأمية في البلدان العربية ما زالت تشكل وصمة عار على جباه العرب بسبب ارتفاع معدلاتها. وعوض أن يذهب الناس إلى المدارس لمحاربة أميتهم أولا، يجلسون لساعات طوال أمام شاشة التلفزيون لمتابعة هذه المسلسلات. «هادي هيا شْرا البردعة قبل ما يشري الحمار». المشكلة أن هذه المسلسلات المستوردة تجعل الناس عندنا يصابون بالسكيزوفرينيا، لأنهم يشاهدون حياة حالمة مليئة بالحب والسعادة على الشاشة، ويعيشون على أرض الواقع حياة تعيسة مليئة بالحزن والتعاسة! وقد فعل مسلسل «نور» وصنوه «سنوات الضياع» فعلتهما عندما أضاعا وشتتا شمل عدد من الأسر العربية بسبب الغيرة العمياء التي اجتاحت نفوس الأزواج العرب تجاه مهند ويحيى، اللذين تحولا إلى «حبيبين» لعدد من الزوجات العربيات، رغم أن «اللقاء» معهما لا يتم إلا على الشاشة الصغيرة. إيوا شوفو على قلة العقل! وسيرا على نهج شركات الدبلجة المشرقية التي تجعل أبطال المسلسلات المكسيكية والتركية يتحدثون اللهجة السورية واللبنانية، ستقوم القناة الثانية ابتداء من شهر مايو القادم، بترجمة هذه المسلسلات إلى الدارجة المغربية، كي يفهمها الأطفال الصغار وربات البيوت والرجال الذين لم يسبق لهم أن دخلوا المدرسة، وحتى الجدات. ما يعني أن عدد المصابين بانفصام الشخصية سيتضاعف بشكل كبير في الشهور المقبلة! سليم الشيخ، الذي جاء بهذه الفكرة بعدما أصبح مديرا عاما للقناة الثانية، يريد بطبيعة الحال أن يرفع من نسبة مشاهدة قناته بعدما انخفضت نسبة مشاهدة دوزيم إلى 20 بالمائة فقط، حسب أرقام «ماروك ميتري»، لقياس نسب المشاهدة. هؤلاء لا يفهمون أن أغلبية المغاربة يتوفرون على أجهزة استقبال القنوات الفضائية، ويشاهدون هذه المسلسلات وهي ما تزال «ساخنة» على القنوات العربية التي تسبق دوما إلى اقتنائها، وبالتالي فترجمتها إلى الدارجة المغربية لن تجذب أنظار المشاهدين إلى دوزيم، لأن ذلك لا يعني شيئا آخر سوى أن القناة الثانية تريد أن تقدم لمشاهديها «وجبات» تلفزيونية منتهية الصلاحية، لكن بتلفيف جديد! هؤلاء لا يريدون أن يفهموا أن الذي يجعل المغاربة ينفرون من تلفزيونهم العمومي هو أن هذا التلفزيون «ما بقا فيه ما يتشاف». البرامج السياسية التي تهتم بما يجري على الساحة السياسية منعدمة. ونشرات الأخبار على طولها تحولت إلى مناسبات لاستعراض أنشطة الجمعيات وأخبار الطماطم والبطاطس، مع تقارير مملة عن الأنشطة الرسمية وأنشطة أعضاء الحكومة. أما الأحداث التي لا يرغب الماسكون بزمام الأمور أن يطلع عليها الرأي العام، فكل ما يستطيع التلفزيون العمومي أن يفعله حيالها هو أنه «كايضرب عليها الطم»! كل هذا يعرفه الجميع، بمن في ذلك القائمون على التلفزيون، لكنهم مع ذلك يفضلون بدورهم أن يعملوا وفق مقولة «كور واعطي للعور». لذلك نقول لكم أيها السادة، إن «تدريج» المسلسلات المكسيكية والتركية ليس هو الحل لشدّ أنظار المشاهدين المغاربة. الحل يكمن في التخلص من الخوف والتسلح بقليل من الشجاعة!