أصدر الباحث اللبناني في الفكر السياسي والخبير الاقتصادي، جورج قرم، مؤخرا، كتابا جديدا يحمل عنوان: «L’Europe et le mythe de l’Occident, la construction d’une histoire»، (أوربا وأسطورة الغرب، بناءُ تاريخ (ترجمة مقترحة). وكان ل «المساء» سبق الانفراد بأوراق أولى تعرض بتركيز مضامين الكتاب وبواعث تأليفه بموافقة شخصية من صاحبه. «المساء» تقدم، في حلقات، عرضا لهذه المضامين من باب إطلاع القارئ على جوانب من رؤية المؤلف، المعروف برصانته في مساره المعرفي، على خلفية التطور الكبير الذي تشهده المفاهيم الفكرية موازاة مع تطور الأحداث العالمية. يتابع جورج قرم عرضه لبعض العناصر التي تساعد على احتواء فكرة الغرب، وأوربا تحديدا. ومن أجل ذلك نراه يعود إلى الجذور التاريخية والكتابات التي تجردت من كل شعور بالانتماء ومن اعتباطية التحلي والتصنيف. يقول قرم: «كانت أوربا هي مركز العالم؛ فهي التي صنعت ديناميته وجمعت ما كان منفصلا ومتباعدا بفضل شبكتها الواسعة من المواصلات والمبادلات التجارية وانتشارها العسكري في جميع القارات؛ شبكةٌ تم إحداثها بداية من سنة 1492، التي صادفت تاريخ الرحلة الاستكشافية التي قام بها كريستوف كولمب، والتي لم يُعد النظر فيها إلا عند نهاية الحرب العالمية الثانية عندما انهارت الإمبراطوريات الاستعمارية. أربعة قرون ونصف من تاريخ صاخب وغني في الوقت نفسه، وفظيع كذلك بشكل كبير، اكتملت خلالها العناصر التي ستكون صورة الغرب الأسطوري. الأمر يتعلق بأسطورة مركزية ورهيبة تنظم الشكل الجيوسياسي للعالم، المعروف ب«الحديث»». إلا أن الباحث يتوقف عند العوامل التي كانت وراء تكون الأسطورة من خلال تأكيده على «أن الأسطورة، وكما جميع الأساطير، لم تتأسس إلا انطلاقا من أحداث مؤسسة ولَّدت انشطار الكثير من المشاعر ونسيت جذورها الأصلية لتعيش حياتها الخاصة وتغير مورفولوجيتها، وتعبر عن نفسها بطريقة مختلفة، وتتكيف مع الأزمنة الجديدة ومع تتابع الأحداث التي تغير وجه العالم. حدث هذا الأمر مع الميثولوجيا التي تمحورت حول حياة الآلهة اليونان والبابليين والفراعنة. فقد تراجعت الميثولوجيات تدريجيا إلى أن اختفت تحت ضربات بروز ثلاث ديانات توحيدية متتالية، يهودية ومسيحية وإسلامية؛ وهي الديانات التي أتت بمتخيلات جديدة ضمن المجال الأوربي المشرقي. الديانات الجديدة، خاصة المسيحية والإسلام، لعبت دورا هيكليا كبيرا في تعويض التشتت الذي شهدته المؤسسات اليونانية الرومانية التي كانت هيمنت على هذا المجال طيلة قرون، وهو أمر غالبا ما ننساه. ففي هذه المناطق، حيث تقرع نواقيس الكنائس ويرتفع آذان المؤذن وحيث يبدو أن حياة الناس اليومية كانت تسير، فقط، على إيقاع دقات النواقيس والآذان، لا شيء كان ينبئ بأن أوربا سيكون لها مصير استثنائي. بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، لم يعد التراب الأوربي مكونا إلا من بعض الإمارات الفيودالية الصغيرة، وبالكاد بدأت الدول الوطنية الكبرى تبرز. ويتعلق الأمر هنا بفرنسا وإنجلترا وإسبانيا فقط. أما المشرق، فقد كان مهدا لسلسلة متتابعة من الإمبراطوريات والسلطنات القوية، التي سيطرت على جزء كبير من المجالات الآسيوية الشاسعة وبدأت في غزو الإمبراطورية الهندية. انطلاقا من هذه القاعدة، كيف يمكن تفسير «معجزة» أوربا الصغيرة، المجزأة والضعيفة، التي استطاعت خلال بضعة قرون فقط أن تسيطر على بقية القارات؟. هذا المصير الاستثنائي لا يعني أن بذور العظمة والوحدة الأوربية، باعتبارها كيانا منسجما من حيث قيمه وبنياته السوسيواقتصادية، يمكن أن تكون لها علاقة بأحداث مؤسسة تعود إلى عشرات القرون الماضية». ومن باب حرصه على دقة التحليل والتأريخ لبروز أوربا كظاهرة حضارية، بل كمعجزة استثنائية، يستعرض الباحث مجموعة من الكتابات لباحثين حاولوا تفسير فكرة أوربا ورصد محطات تكونها، إلا أنه صنف هذه الكتابات إلى موضوعية وأخرى ابتعدت عن الضوابط العلمية. يكتب جورج قرم: «مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتفعت وتيرة طريقة إعادة كتابة تاريخ القارة الأوربية هذه. فقد ترتب عن الخسائر التي تسببت فيها الحربان العالميتان شكل من التنظيم على مستوى القارة الأوربية الذي من شأنه أن يحول دون تكرار الكوارث مستقبلا. ونتج عن ذلك صدور سلسلة من الكتب تسعى إلى التركيز على عدد من المكونات الثابتة التي يفترض وجودها في قيم وعادات مختلف الشعوب الأوربية. هنالك مثال جيد على ذلك يمثله جاك لو غوف وكتابه: «L’Europe est-elle née au Moyen Age. في هذا الإطار، كتب مؤرخ إنجليزي، "دنيس هاي"، سنة 1968، في مقدمة كتاب أعيد طبعه ويقترح فيه إعادة تكوين تاريخ الأفكار في أوربا: «عدد من الأساطير الجديدة يبدو أنها في طور التكون داخل الكتب التي ظهرت مؤخرا حول «الفكرة الأوربية». أصحاب هذه الكتب يسكنهم همُّ تشجيع الوحدة الأوربية؛ ويفعلون ذلك من خلال الحديث عن تعميمات ضخمة حول الماضي. بالنسبة لبعض المؤلفين، أبحاث كهذه تشكل، وحدها، سياق المشاكل المعاصرة». ينتقد هذا المؤرخ بقوة التعميمات التاريخية التي لا سند لها، والتي تهدف، فقط، إلى «تبيان الجذور العميقة لأوربا وأن أوربا مهيأة قبلا للوحدة». هؤلاء الكتاب، يقول المؤرخ، ليسوا إلا «شعراء خالصين» و»يجب أن يتعامل معهم المؤرخون بحذر». ويذكر فقرة من كتاب فرنسي حول موضوع الفكرة الأوربية: «أوربا لا حدود لها، لكن لها وجه ولا أحد يمكنه أن يخطئ وجهها. ولا ينبغي أن نتخوف من أن نضيف إلى ذلك أن لها روحا. هنا يكمن كنزها الثمين ومصدر قوتها. أما ما تبقى، فما هو إلا مظهر ولباس خارجي. (...) الفكرة لا توجد إلا إذا تجسدت في حقيقة تتجاوزها ولا تستطيع الاسغتناء عنها في الوقت نفسه...» مؤرخ بريطاني آخر، أنطوني باغدن، الذي أشرف سنة 2002 على إصدار كتاب جماعي حول التاريخ الثقافي والسياسي لفكرة أوربا، يقول إن هذا التاريخ ليس تاريخا يسير على خط قريب، بل يعود به إلى القدم. والهدف المعلن من وراء الكتاب ليس هو حل «المشاكل الحالية في أوربا»، بل هو إضافة «صوت تاريخي لنقاش انطلق قبل عدة عقود في أوربا وخارج أوربا، وهو الذي انبثق عنه نظام اجتماعي، سياسي وثقافي موجود احتمالا وأقل خطورة من غيره». إلا أن أكبر الفضل في التحذير من الخلط بين مهنة المؤرخ ومهنة المنظر الإيديولوجي في الأسطورة اليونانية يعود إلى «جون باتيست دوروزيل» (1917- 1994)، أكبر المتخصصين الفرنسيين في دراسة تاريخ العلاقات الدولية». (...) أرى أن المؤرخ، مهما كان «أوربيا»، يجب عليه، عندما يمارس دراسة التاريخ، أن يفكر ويتكلم باعتباره مؤرخا وليس أوربيا. فالموقف "الأوربياني"، كما يقول كارلو كورتشيو، يؤدي إلى نقل حقيقة حية معيشة اليوم وتطبيقها على الماضي. وبذلك نشوه الماضي، ويصبح الحاضر مستعصيا تماما عن الفهم...(...)» ويكتب دوروسيل في مكان آخر من مقدمته:» لكن، يجب أن تظهر هنا تمييزات أخرى. أولا، أكيد أننا لا نستطيع وصف «روح» أوربا، «جوهر» أوربا، في مرحلة معينة. وذلك لسبب بديهي هو أنه لم توجد أبدا أي «روح» ولا «جوهر»، وبالتالي فإن محاولة وصفهما يعني فصل سلسلة من العوامل اخترناها نحن، اعتباطا، عن الحقيقة، بل ينبغي القول إن جوهر أوربا هو أن تكون مسيحية أو أن تكون هي مجسدة البحث عن الحقيقة اللائكية، وأن تكون بلاد العقل أو بلاد الحدس، أو مهد القومية أو القوة التي تحد من القومية... (...) أوربا الليبرالية عند "كروس»، أو أوربا الاشتراكية عند «كول»، أو المسيحية عند «داوسن»، أو الكاثوليكية عند «غاسبيري»، أو الأرستقراطية والعقلانية عند «فاليري» و«بيندا» أو أوربا الشيوعية كما هي في النظريات البلشفية (...) ليست، بالتأكيد، هي أوربا الحقيقية، أو أوربا الوحيدة».