فرنسا تبيع كبريات شركاتها، أو كبريات شركاتها تحلم في ظهور من يقتني أسهمها، هو الحدث الأبرز بالجمهورية الفرنسية منذ بداية هذه السنة. فعديدة هي الشركات الفرنسية التي أعلنت عن اندماجها مع شركات عالمية أخرى، ونقلت بذلك مقراتها الرئيسية إلى خارج فرنسا. وعلى نفس المنوال تسير شركة «لافارج» المتخصصة في الإسمنت، حين أعلنت عن قرب اندماجها مع منافستها السويسرية «هولسيم»، مع ما يعنيه ذلك من نقل مراكز اتخاذ القرار إلى زوريخ. أما اليوم فجاء الدور على مجموعة «ألستوم» التي ستذهب إما إلى «جنرال إلكتريك» الأمريكية أو «سيمنس» الألمانية. فعلى من الدور بعد «ألستوم»؟ الألمان أم الأمريكيون؟ بينما كان يظهر أن مسألة التوقيع على صفقة استحواذ مجموعة «جنرال إلكتريك» على فرع الطاقة لمجموعة «ألستوم» بات محسوما، وأن الإعلان عنه سيتم في غضون بضعة أيام، قرر مجلس إدارة المصنع الفرنسي، الذي التأم في مكان سري عشية الأحد 27 أبريل، في نهاية اجتماعه طلب مهلة 48 ساعة إضافية من أجل دراسة عرض المجموعة الأمريكية، بعد دخول مجموعة «سيمينس» الألمانية على الخط في آخر لحظة. ومما سبق يتضح أن باتريك كرون، المدير العام لألستوم، وفريقه الإداري، الذي يوجد بين صفوفه جون مارتن فولز، المدير السابق لمجموعة «بوجو ستروين» لصناعة السيارات، وباسكال كولومباني، رئيس مجلس إدارة مجموعة «فاليو»، لم يمتلك حرية الاختيار: «لقد مارست الحكومة ضغطا شديدا حتى لا يتم تمرير الصفقة لدرجة أنه كان من الصعب عدم أخذ ذلك بعين الاعتبار»، يقر مصدر على اطلاع بالمفاوضات. وفي آخر مستجدات ملف بيع مجموعة «ألستوم» الفرنسية، قررت الحكومة الفرنسية أخذ مهلة إضافية قبل بيع فرع الطاقة التابع للمجموعة. فبينما كان يظهر أن الحكومة الفرنسية على وشك إتمام عملية بيع فرع الطاقة لمجموعة «ألستوم» للمجموعة الأمريكية «جنرال إلكتريك»، اتضح أن اتمام الصفقة يلزمه وقت أطول مما كان متوقعا، بعد ردود الفعل التي قامت بها المجموعة الألمانية «سيمينس»، «الشركات الفرنسية ليست فريسة سهلة» من جهته، أوضح فرنسوا هولاند يوم الاثنين أن «الدولة لديها بالضرورة كلمة لتقولها» في هذا الملف. فالدولة «تتحكم باستقلالية فرنسا في مجال الطاقة»، كما جاء في تأكيد رئيس الجمهورية الفرنسية، الذي شدد على أن هناك «عاملا واحدا»، يتمثل «في من سيكون مناسبا أكثر لخلق الأنشطة وفرص العمل» بفرنسا. وأثناء استجوابه على إذاعة «إر تي إل» الفرنسية صبيحة الاثنين، أكد أرنو مونتيبورغ، من جانبه، أن «الشركات الفرنسية ليست طرائد». كما أضاف وزير الاقتصاد الفرنسي أن الحكومة لن تقبل مهما كان أن «توضع أمام الأمر المفروض» وأنها تنوي استغلال مهلة ال 48 ساعة من أجل «الاشتغال على تحسين العروض». وفي الوقت الذي أكدت فيه حكومة فرنسوا هولاند أنها تدرس كلا المقترحين بشكل محايد، أبدى الوزير مونتيبورغ تأييده لمقترح «سيمينس». كما تم استقبال جيفري إيميلت، المدير العام لمجموعة «جنرال إلكتريك»، صبيحة الاثنين، داخل قصر الإليزيه من قبل الرئيس فرنسوا هولاند ووزيره مونتيبورغ. وفي بلاغ تم تعميمه بعد هذا اللقاء، أكد جيفري إيميلت أن «الحوار كان مفتوحا، ووديا وناجعا». كما استقبل قصر الإليزيه كلا من جوو كايسر، المدير العام لمجموعة «سيمينس»، ومارتن بويغيس، الذي يمتلك أكبر عدد من الأسهم (29.4 في المائة) بمجموعة «ألستوم». مقترح «جنرال إلكتريك» في هذه المرحلة، يظل مقترح «جنرال إلكتريك»، الذي نصحت به كل من «لازارد» (هيئة استشارية مالية)، وبنك «كريدي سويس»، و»سنترفيو» (بنك استثماري)، الأكثر إقناعا؛ لاسيما أن الأمر يتعلق بعرض نهائي ولديه التمويلات الكافية. كما يحظى هذا المقترح بدعم باتريك كرون (المدير العام لألستوم)، الذي اشتغل طيلة شهرين بشكل سري على هذا المشروع، مع كل من «روتسشايلد» (هيئة استشارية مالية) وبنك أمريكا. وترغب المجموعة الأمريكية في الاستحواذ على فرع الطاقة التابع لمجموعة «ألستوم»، الذي يمثل 73 في المائة من رقم أعمال المجموعة، وتقترح أداء مبلغ يفوق 10 مليارات أورو (في المجمل سيصل المبلغ إلى 12 مليار دولار إذا تم الأخذ بعين الاعتبار مبلغ 2 مليار أورو الموضوعة بخزينة هذا الفرع). ومن أجل الظفر بالصفقة، سيتعين على جيفري إيميلت أخذ التزامات بشأن مراكز اتخاذ القرار والحكامة، التي تقضي بأن تكون مجموعة «جنرال إلكتريك» على استعداد لجعل فرنسا مقرها العالمي لتطوير أنشطة استغلال الرياح بالبحر، وأن ترحل إلى الأراضي الفرنسية بعضا من أنشطتها المتعلقة بقطاع الطاقة الموزعة بأوربا. مقترح «سيمينس» من جانبها، قدمت مجموعة «سيمينس»، التي تحظى بدعم مجموعة «بي إن بي باريبا»، عشية السبت، للمجموعة الفرنسية المنافسة لها رسالة عبرت فيها عن نيتها الاستحواذ على فرعها للطاقة. وجاء في رسالة العملاق الألماني أنه مستعد للقيام على وجه السرعة بتقديم عرض نهائي، لكن «سيمينس» اشترطت قبل القيام بذلك الحصول على نفس المعطيات التي اطلعت عليها مجموعة «جنرال إلكتريك». إزاء هذا الشرط، يقترح العملاق الألماني، مثله مثل «جنرال إلكتريك»، اقتناء قطاع طاقة الرياح والشبكات الذكية ل»ألستوم»، مقابل مبلغ مالي يساوي ذاك الذي اقترحته المجموعة الأمريكية. لكن «سيمينس» ذهبت أبعد من ذلك، إذ أبدت استعدادها لنقل جزء من أنشطتها الخاصة لقطاع القطار فائق السرعة وعربات القطارات، وذلك من أجل تعزيز قطب السكك الحديدة لمجموعة «ألستوم»، وأبدت استعدادها لتقديم مبلغ الاستحواذ على هذا القطب إما نقدا أو من الأصول المالية. «نرغب في إنشاء عملاقين أوروبيين، أحدهما في قطاع الطاقة، والآخر في قطاع النقل»، كما أوضح مصدر مقرب من «سيمينس»، الذي أضاف: «إذا لم يتم تعزيز أنشطته، فإن قطب النقل التابع لألستوم ليس مهيأ لمقاومة العولمة». كما ستقبل المجموعة الألمانية، كذلك، بترحيل مقرها الدولي لنشاطها في قطاع طاقة الرياح التي تعمل بالبخار إلى فرنسا، وتقترح كذلك نقل جزء كبير من مراكز قرارها المرتبطة بنشاطها في توزيع الطاقة. وفي المقام الأخير، تلتزم مجموعة «سيمينس» بعدم تسريح العمال طيلة ثلاث سنوات من وجودها بفرنسا، وهو ما يعتبر ردا على المخاوف التي عبر عنها الخبراء الذين أشاروا إلى وجود الكثير من الأنشطة المشتركة بين المجموعة الألمانية وألستوم. موقف الحكومة الفرنسية وتتوقع الحكومة الفرنسية الحصول على تنازلات من كلا المجموعتين. وحسب المعطيات التي حصلت عليها صحيفة «لوموند»، فإن الحكومة الفرنسية ستقترح على «جنرال إلكتريك» إدراج أنشطة الطاقة للمجموعة الجديدة «جنرال إلكتريك- ألستوم» في البورصة. «سيمتلك الأمريكيون أغلبية أسهم المجموعة لكن ذلك سيمكن مساهمين فرنسيين، سواء من القطاعين الخاص أو العام، من السهر على أن تظل المصانع ووحدات البحث بفرنسا»، يرى مصدر مقرب من الحكومة الفرنسية. وعلى الورق، فإن تقاربا مع «سيمينس» هو الأكثر قبولا من الناحية السياسية؛ إذ دعا الرئيس فرنسوا هولاند، شخصيا، إلى إنشاء «شركة كبرى فرنسية ألمانية من أجل الانتقال الطاقي» وذلك خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده في 14 يناير. إلا أن ذلك لا يمنع من رغبة الحكومة الفرنسية في الحصول على المزيد من الالتزامات الإضافية. وحسب معلومات «لوموند»، فإن الجهاز التنفيذي الفرنسي يرغب في أن تجلب المجموعة الألمانية إلى فرع النقل بألستوم نشاطها المربح جدا لصناعة قاطرات «الميترو» و»الطراموي»، فضلا عن فرع القطارات فائقة السرعة. وقد سارعت وزارة الاقتصاد الألمانية، وبشكل موحد، للدعوة لدعم الاندماج بين المجموعتين، الذي سيشكل حسب الوزارة الألمانية «فرصة كبيرة ويتيح إمكانية كبرى» للسياسات الصناعية الألمانية والفرنسية. ويتوقع أن يتم طلب الحصول على ضمانات أكثر وضوحا بشأن الحفاظ على مناصب الشغل. ولدى طرح السؤال عليه على إذاعة «فرانس انتير» يوم الاثنين، رد وزير الشغل الفرنسي، فرنسوا ريبسامن، أنه يرغب في «أن يتم الحفاظ على جميع مناصب الشغل». من جانبه، لا يرغب الفريق المسير للمجموعة الفرنسية في الحديث عن اتفاق مع مجموعة «سيمينس». «أنشطة النقل الخاصة بألستوم ليست في حاجة لأن يتم تعزيزها وتكنولوجيا الألمان هي على أي حال متجاوزة»، يوضح مصدر مقرب من الملف. «سيمينس تبحث عن دس مشاكلها داخل مجموعتنا»، يضيف آخر. ووراء المعركة بين «جنرال إلكتريك» و»سيمينس» ربما تتوارى معركة أخرى بين باتريك كرون والحكومة... المنافس التاريخي بينما تدعو الحكومة الفرنسية «سيمينس» إلى مد يد العون حتى لا تستحوذ المجموعة الأمريكية «جنرال إلكتريك» على «ألستوم»، تتواصل التعليقات الساخرة من الاندماج داخل ألمانيا. فقبل عشر سنوات، لم تكن باريس تود سماع خبر وصول المصنع الألماني إلى رأسمال المجموعة الفرنسية... ففي سنة 2003، تولى باتريك كرون المسؤولية بشركة على حافة الإفلاس، بعدما أثقلتها ديون وصلت قيمتها إلى 5 مليارات أورو. حينها كان المصنع الفرنسي يبحث عن حل لمواجهة شح السيولة المالية، وعمليات الاستحواذ المفاجئة، والتكاليف الباهظة المرتبطة باقتناء توربينات الغاز المعيبة التي تم اقتناؤها من المجموعة السويدية «أ.ب.ب». بيد أنه حينما أعلنت شركة «سيمنس» أنها مهتمة جدا بفرع الطاقة التابع للمجموعة الفرنسية، قام باتريك كرون، ووزير الصناعة في تلك الفترة، نيكولا ساركوزي، بكل شيء من أجل قطع الطريق أمام تحقق ذلك. فحسبهم يستحيل ترك لاعب كبير في الصناعة الفرنسية يسقط في رقعة شركة ألمانية. بعدها ستمر عملية إنقاذ «ألستوم» من خلال حل تم التفاوض بشأنه مع البرلمان الأوروبي ببروكسيل في سنة 2004، والذي يقضي بمساهمة الدولة بنسبة 21 في المائة من رأسمال الشركة، وذلك لتفادي سيناريو حل المجموعة. وفي هذه المعركة، كان في وسع «سيمينس» الاقتناء من ألستوم، مقابل مبلغ 1.1 مليار أورو، توربينات الغاز ذات القدرة الصغيرة والمتوسطة. اليوم، يقدم المصنع الألماني بباريس على أنه بمثابة الفارس الأبيض الذي بإمكانه إنقاذ «ألستوم»؛ محاولا أن يختبر فرصته الثانية. وعلى غرار الحكومة الفرنسية، تبحث «سيمينس» في المقام الأول عن ربح المزيد من الوقت. عرض «جنرال إلكتريك» ينظر إلى إعلان «جنرال إلكتريك» الاستحواذ على «ألستوم» في ألمانيا على أنه «هجمة مباشرة» ضد مصالح المصنع الألماني وعلى أراضيه، بأوروبا، التي هو أقوى بها من العملاق الأمريكي. وفي حال حصول تقارب مع «ألستوم» في قطاع الطاقة، ستتحول مجموعة «جنرال موتورز «، بفضل قوتها المالية، إلى منافس من العيار الثقيل. وتبرز أهمية هذا الأمر بشكل أكبر إذا علمنا أن هذا المجال هو الأهم بالنسبة للمجموعة الألمانية من حيث عدد الطلبيات ويشكل المصدر الرئيسي لمداخيل وأرباح المجموعة. ومن التوربينات إلى محركات القطارات، مرورا بوحدات إنتاج طاقة الرياح، تتنافس كل من «جنرال موتورز» و»ألستوم» و»سيمنس» على نفس الأسواق. وفي حال حصول اندماج بين أي مجموعتين منهما، فإن ذلك سيضر كثيرا بالمجموعة الثالثة التي ستبقى خارج المنافسة. وهذا هو السيناريو الذي تسعى «سيمنس» لتفاديه. كما أن مجموعة «سيمنس»، التي تعد المشغل الأول في قطاع الصناعة داخل ألمانيا، ما زالت تعاني من بعض الصعوبات. فالمجموعة تصارع منذ عدة سنوات من أجل رفع مستوى أرباحها، التي تمثل 5.6 في المائة من رقم معاملات بلغ 75.9 مليار أورو خلال 2013، مقابل نسبة أرباح تصل إلى 10 في المائة بالنسبة ل «جنرال موتورز»، برقم معاملات وصل 105 مليار أورو. وفي نهاية 2012 أطلقت «سيمينس» مخططا لادخار 6 ملايير أورو على امتداد سنتين، وذلك عبر محاربة البيروقراطية وإعادة فرز الأنشطة التي لا تدر الدخل على المجموعة. وبذلك قامت ببيع فرعها «أوسرام» لصناعة المصابيح الكهربائية، فضلا عن تجهيزات الاتصالات الخاصة ب»شبكة نوكيا سيمنس»، زيادة على انسحابها من قطاع الطاقة الشمسية في أكتوبر 2012. وإثر توليه قيادة المجموعة في صيف 2013، كان أول ما قام به جوو كايسر هو إعادة تنظيف المطبخ الداخلي عبر التخلص من وحدة معالجة المياه. الطاقة: البحث عن موطئ قدم في 7 ماي، حينما سيقوم كايسر بتقديم نتائج المجموعة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2014، سيتعين عليه كشف النقاب عن استراتيجية المصنع الألماني. وينتظر الخبراء في هذا المجال، أن يعلن رئيس المجموعة عن تعزيز جهود تطوير قطاع الطاقة. وبذلك سيكون أي اندماج مع «ألستوم»، ذو مغزى كبير، فسيمنس هي الأولى عالميا في قطاع استغلال طاقة الرياح بعرض البحر، وفي وسعها تعزيز ذلك بالاعتماد على أنشطة «ألستوم» في هذا المجال. بيد أن تقاربا من هذا المثيل لن يمكن أن يتحقق من دون الحصول على الضوء الأخضر من هيئة مراقبة المنافسة، وهو الأمر الصعب المنال. فكلا العملاقين لديهما أجندة متشابهة في قطاع استغلال الطاقة على وجه التحديد. أما الصعوبة الأخرى، فتتمثل في عدم امتلاك «سيمنس» نفس الموارد المالية التي تمتلكها «جنرال موتورز». ففي نهاية 2013، كانت لدى المجموعة الألمانية خزينة مالية لا تتعدى 9 ملايير أورو. بيد أن كايسر حين وصل إلى رأس المجموعة كانت لديه مهمة تتمثل في الرفع من هامش الخزينة، وعدم الإقدام على دخول عمليات للاستحواذ باهظة التكلفة على شركات أخرى. لكن هذا الأمر كان قبل إعلان «جنرال موتورز» عن قرب استحواذها على «ألستوم». هذا المستجد باغت «سيمنس»، التي لا تمتلك أي خيار آخر؛ إذ يتعين على المجموعة إما القيام برد فعل، عبر استغلال ترحيب الحكومة الفرنسية بقدوم المجموعة، أو مجابهة خطر إيجاد نفسها تحت دكاكة منافس أقوى منها بكثير. * عن صحيفة «لوموند»