تعد معارض الكتاب مؤشرا على مستوى انتشار القراءة في أي بلد، وفي البلدان التي تنتشر فيها قيم القراءة والمعرفة تعتبر المعارض مناسبة احتفالية سنوية لتقييم التقدم الحاصل على مستوى صناعة الكتاب، وعلى مستوى صناعة القارئ. لكن الوضع في المغرب مختلف، فقد تحول المعرض مع توالي السنوات إلى مناسبة طقوسية وهبط مستواه بشكل كبير، ولكن أهم شيء فيه أن الفضاءات المخصصة للأطفال اختفت بشكل شبه نهائي، وهذه ترجمة حرفية للزاوية التي تنظر منها الدولة إلى المدرسة، ولاهتمامها بصناعة المستقبل. وإذا كانت المعارض مؤشرا على مستوى القراءة، فهي أيضا مؤشر على الاتجاهات الثقافية. وأهم ملاحظة عن معرض الدارالبيضاء هي كثافة حضور الكتاب الإسلامي. وقد كان هذا الحضور يترجَم في السنوات الماضية على أنه تأكيد لحضور التيار الإسلامي، بيد أن الأمر أصبح مختلفا اليوم، لأن الكتاب الإسلامي أصبح يعني الكتاب السلفي. وهذه ظاهرة تستلفت الانتباه منذ بضع سنوات. وبالرغم من منع بعض دور النشر السلفية في الدورات السابقة، نتيجة حالة الاحتقان التي عمت العالم العربي حيال الفكر السلفي، فإن هذه الظاهرة عادت من جديد لتفرض نفسها كواحدة من المعالم البارزة في مختلف المعارض في العالم العربي خلال الفترة الأخيرة. استفاد الكتاب السلفي من التطورات الجديدة في صناعة الكتاب ومن التمويلات التي تمنح له، ولكن أيضا من الرواج الهائل الذي يلقاه في الأسواق، وهو رواج ضروري في أي عملية تجارية، بما يغري بتطوير الجودة وتحسين الخدمات المقدمة، بما في ذلك مستوى التسعير. بيد أن هناك ملاحظات أخرى في ما يخص الكتاب «السلفي»؛ فنتيجة لانتشار التعليم وتكوّن نخب فكرية جديدة تتبنى هذا الخط، طور هذا الكتاب أصوله المنهجية وانفتح على مناهج جديدة في التناول والمقاربة، وهذا يعني في قطاع صناعة الكتاب تقديم أساليب جديدة في الإغراء من أجل البحث عن زبناء جدد. وما نراه من هذا الإقبال الكبير على الكتاب السلفي يعتبر نوعا من التحدي الثقافي والفكري؛ فهو يعكس، في جزء منه، نهاية فكر الحركة الإسلامية الذي يخضع اليوم لاختبار شديد بعد مرحلة الربيع العربي، بصرف النظر عن نجاح هذه التجارب من عدمه، رغم أن إطلاق تسمية «الفكر» على هذا الاتجاه هو من باب التمييز فحسب، طالما أن في تضاعيفه إرهاصات سلفية واضحة. وقد ظل فكر الحركة الإسلامية مقتصرا على الجوانب السياسية، ولذلك من الصعب العثور فيه على خريطة فكرية واضحة مثلما هو الأمر لدى التيار السلفي، الذي يؤاخذ فكر الحركة الإسلامية على تلفيقيته. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية فإن هذا الإقبال يدل في نفس الوقت على القصور المنهجي الذي تتسم به القراءات السياسية المتسرعة للتيار السلفي، وهي قراءات اعتادت تغييب الجوانب الثقافية والفكرية لدى هذا التيار. إن عملية المحاصرة التي تعرض لها هذا الفكر في السنوات الماضية، بعد انتشار ظواهر الغلو والتطرف التي أنتجت الموجات الإرهابية، جعلت الكثيرين يعيدون قراءة نفس الأدبيات التقليدية التي كانت تنتج العنف في السابق. واليوم، نلاحظ ظهور أبحاث صادرة عن مشايخ سلفيين يحاولون فيها إعادة قراءة التراث السلفي، سياسيا وعقديا، في أفق استدخال المفاهيم الحديثة والمعاصرة، مثل المجتمع المدني والدولة المدنية والديمقراطية ومشروعية الانتخابات وولاية المرأة وحق الحرية؛ ذلك أن ميزة التراث السلفي أنه من التعدد والاتساع بحيث يعطي لكل وجهة نظر نصيبها من الوجود، فأنت يمكنك أن تجعل من الشوكاني عدوا للتصوف، ولكن يمكنك أيضا أن تجعل منه نصيرا له؛ ويمكنك أن تحول ابن تيمية إلى مؤيد للحكم الفردي، ولكن يمكنك أيضا أن تجعل منه داعية إلى التعددية والديمقراطية. وفي الوقت الذي أصيبت فيه الحركات الإسلامية بالجمود والتكرار والخطاب السياسي التبشيري، ينهض الفكر السلفي مستفيدا من عثراتها، لكن متسلحا بترسانة معرفية ذات قدرة فائقة على الجدل والمناظرة. ومن ناحية ثالثة، فإن هذا الزحف نحو الكتاب السلفي ينبئ بأن الخريطة الفكرية والثقافية في العالم العربي مرشحة للتحول بشكل دراماتيكي في السنوات المقبلة، على المدى المتوسط؛ ذلك أنه أمام تراجع نسبة القراءة بشكل كبير في المجتمع المغربي، وأمام التراجع المذهل في مشروعية الحركات الإسلامية وفشلها المتراكم في الاستقطاب، وضعف الثقة في ما تقدمه من «مشاريع» فكرية وسياسية، وأمام غياب استراتيجيات ثقافية حقيقية للجامعة المغربية، وهزالة التعليم، يمكن للتيار السلفي أن يصبح تيارا نافذا ذا صولة، الأمر الذي سيمهد ل»الزمن السلفي» بامتياز. وإن كانت سلفية المستقبل ستصبح أقل سلفية مما هي عليه اليوم، أي أقل تطرفا وأكثر انفتاحا بسبب عمليات التجديد والمراجعة التي تخضع لها. لقد أصبح السلفيون يتخذون لأنفسهم لحى قصيرة، ولم تعد اللحية السلفية كثيفة وطويلة كما كانت في الماضي، وهو التطور نفسه الذي يخضع له الكتاب السلفي اليوم، وسيخضع له الفكر السلفي في السنوات المقبلة. هذا على سبيل المزاح، لكنه للكناية.