يتحدث أبوبكر العزاوي، المتخصص في النظرية الحجاجية، في هذا الحوار عن هذه النظرية والحاجة الماسة إليها في ظل الاهتمام المتزايد اليوم بالخطاب السياسي والخطاب الإشهاري والإعلامي. كما يتحدث عن المشاريع القادمة في هذا المجال. - بداية نود منك وضع الحجاج في اللغة والخطاب في سياقه داخل الدرس اللغوي الحديث؟ عندما تأسس علم اللغة الحديث على أيدي دوسوسير وبلومفيلد وتشومسكي وغيرهم كان الاهتمام منصبا آنذاك على الجوانب الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية، واقترحت نظريات ونماذج لغوية عديدة في هذا الإطار، وتم ابتكار مجموعة من الطرق والتقنيات للتحليل والتقطيع اللغوي، فكان من الطبيعي أن يلتفت الباحثون واللسانيون إلى جوانب أخرى لم تحظ بالدراسة والتحليل، ومن هنا جاء الاهتمام بالدلالة والتداوليات وفلسفة اللغة، حيث قام مجموعة من فلاسفة اللغة واللسانيين باقتراح نظريات عديدة مثل نظرية الأفعال اللغوية ونظرية الاستلزام الحواري ونظريات الحوار ونظريات الاقتضاء ونظريات التلفظ ونظرية الحجاج في اللغة لبيان أن استعمال اللغة مقعّد ومضبوط ويخضع لقواعد وضوابط محددة. ويمكن القول إنه في هذا السياق ظهرت نظرية الحجاج اللغوي لتبين أن الوظيفة الأساسية للغة الطبيعية هي الوظيفة الحجاجية، وأننا نتكلم عادة بقصد التأثير في المُخاطَب. - وما هي، في نظرك، أسباب الاهتمام بالمعطى الحجاجي في اللغة والخطاب؟ أولا، الاهتمام بالحجاج ومنطق اللغة كانت وراءه عوامل عديدة، منها خلو الساحة العربية من مثل هذه المواضيع، وأقصد هنا بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث حظي هذا الموضوع آنذاك باهتمام كبير من قبل الأوساط العلمية الأوربية منذ زمان بعيد، فألفت فيه عشرات الكتب والدراسات، وخصصت له ندوات ورسائل جامعية عديدة، ثانيا، أهمية الدرس الحجاجي بالنسبة للباحثين والدراسيين المنتمين إلى مختلف المجالات والحقول العلمية والمعرفية والثقافية. فعصرنا عصر الإعلام والتواصل والإشهار والاقتناع، وعصرنا عصر الحواريين الأديان والثقافات والحضارات. وثمة علاقة وثيقة بين الحوار والتواصل والحجاج والإقناع والاختلاف، فلولا الاختلاف ما كان الحوار وتدبير الاختلاف ورفع الخلاف. وهناك القولة التي أرددها دائما وفي كل المحافل العلمية وهي أنه «لا تواصل من غير حجاج ولا حجاج من غير تواصل» . - ما القيمة المعرفية للدرس الحجاجي في ظل تنامي إنتاج الخطاب الإشهاري والإعلامي؟ في ظل الاهتمام المتزايد اليوم بالخطاب السياسي والخطاب الإشهاري والإعلامي يزداد الاهتمام بالحجاج والنظريات الحجاجية، وتصبح الحاجة إلى الإلمام بطرق الحجاج وتقنياته ملحة أكثر من ذي قبل. العصر الذي نعيشه عصر عولمة ومجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة والثورة الرقمية، فالعالم أصبح قرية صغيرة، ووصول باراك أوباما إلى السلطة، كما أشار إلى ذلك عدد من المحللين السياسين وغيرهم، كانت وراءه عوامل كثيرة، من أهمها خطابه الحجاجي المقنع الذي كان قويا وناجحا ومؤثرا، والذي وظف فيه كثيرا من تقنيات البلاغة والحجاج والإقناع. - من المقولات المؤطرة للحجاج أنه يشكل تجسيدا للتكامل بين المعارف. ما هي أبعاد هذه المقولة؟ بالفعل الحجاج جسر يجسد التكامل والتداخل بين العلوم والمعارف، إذ له ارتباط بعدد كبير من الحقول والمجالات العلمية والفكرية والمعرفية، فهو يهم اللغة والفلسفة والعلوم والاقتصاد والإدارة والمقاولة والتسويق والإشهار والسياسة والتربية والصحافة والمجال الديني وغير ذلك من المجالات المختلفة والمتنوعة. وكل المنتمين إلى هذه الميادين محتاجون إلى دراسة أساليب وتقنيات الحجاج والإقناع لإنتاج خطاب قوي وفعال يفي بالمطلوب ويحقق الغاية المنشودة. - كيف جاء اختيارك لنظرية الحجاج في اللغة؟ هناك أنماط عديدة من الحجاج، فهناك الحجاج اللغوي والحجاج البلاغي والحجاج المنطقي ... وهناك أيضا نظريات حجاجية عديدة، وهناك ما قدمه أرسطو والعلماء العرب القدامى في هذا المجال، وهناك نظرية برلمان ونظرية جان بليز غريز ونظرية تولمين ونظرية ميشال مايير ونظرية أوزفالد ديكرو ونظريات أخرى، ولكنني اخترت نظرية الحجاج في اللغة لأسباب عديدة أذكر من بينها كون أوزفالد ديكرو هو من أشرف على أطروحتي للدكتوراة التي ناقشتها بفرنسا سنة 1989 وكانت بعنوان «الروابط الحجاجية في اللغة العربية»، وكذا لكوني أحسست أن هناك تجاوبا مع هذه النظرية ومن اقتناع بمبادئها وأفكارها، وهو اقتناع كانت بذرته الأولى بعد اطلاعي على بعض ما كتب في إطار فلسفة اللغة العادية والفلسفة التحليلية والتحليل المنطقي للغات الطبيعية، وأقصد هنا أعمال كل من فيرج وراسل وستراوس وفتجنشتاين وأوستين وسورل وغرايس وكواني وغريز وديكرو وغيرهم، فضلا عما كتبه العرب حول الجدل والمناظرة. السبب الثالث يتمثل في كون نظرية الحجاج في اللغة نظرية لسانية تهتم بالوسائل اللغوية وبإمكانيات اللغات الطبيعية التي يتوفر عليها المتكلم قصد توجيه خطابه وجهة حجاجية محددة تمكنه من تحقيق الأهداف المنشودة، فاللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية، والحجاج مؤشر له بنية الأقوال نفسها، ومؤشر له في المعنى وكل الظواهر اللغوية. أما السبب الرابع فراجع بالأساس إلى أن نظرية الحجاج اللغوي نظرية دلالية حديثة تقدم تصورا جديدا للمعنى من حيث طبيعته ومجاله، ثم إنها تمكنت من التغلب على كثير من المشاكل والصعوبات التي كانت تعترض المقاربات الوصفية والمنطقية للمعنى. - صدرت لك ثلاثة كتب حول الحجاج. هلا اختصرت لنا أهم المحاور التي تناولتها هذه الإصدارات؟ صدرت لي مجموعة من الكتب، أذكر منها كتاب «اللغة والحجاج» وكتاب «الخطاب والحجاج» وكتاب «حوار حول الحجاج». الكتاب الأول درسنا فيه الحجاج في مستوى اللغة، حيث خصص للتعريف بنظرية الحجاج في اللغة وبأهم مفاهيمها ومصطلحاتها كالسلم الحجاجي والروابط والعوامل والمواضع والمعنى الحجاجي...كما درسنا فيه الروابط الحجاجية في اللغة العربية (بل/ لكن/ حتى) ودرسنا فيه الجوانب الحجاجية للاستعارة من خلال مفاهيم السلم الحجاجي والإبطال والقوة الحجاجية على اعتبار أن الاستعارة لها قوة حجاجية وتأثيرية عالية، وقد خصصنا الفصل الأخير من هذا الكتاب لإبراز سلطة الكلام وقوة الكلمات، فالكلام له قوة تغييرية وتحويلية للواقع بمختلف أنواعه (الفيزيائي، النفسي، الاجتماعي...). أما الكتاب الثاني، أي «الخطاب والحجاج»، فهو يدرس الحجاج في مستوى الخطاب ومكمل للكتاب السابق، وقد درسنا في فصوله الأربعة الخطاب القرآني والخطاب الشعري وخطاب الأمثال والخطاب البصري الإشهاري. وقد حاولنا فيه التأكيد على الحقيقة التالية: أن كل النصوص والخطابات التي تنجز بواسطة اللغة الطبيعية حجاجية، لكن مظاهر الحجاج وطبيعته ودرجته تختلف من خطاب إلى خطاب، فنحن نجد الحجاج في الحوار اليومي والخطاب الديني والخطاب السياسي والخطاب الإشهاري وفي كل أنماط الخطاب، وقد حاولنا أن نقدم فيه نموذجا للتحليل الحجاجي للخطاب. أما الكتاب الثالث «حوار حول الحجاج» فدرسنا فيه علاقة المنطق باللغة، ونماذج المنطق الطبيعي وخصائص اللغات الطبيعية والاصطناعية. كما درسنا فيه كذلك علاقة الحجاج بالحوار والاختلاف والتربية على حقوق الإنسان. - هل هناك مشاريع علمية جديدة في سياق البحث في نظرية الحجاج؟ هناك كتابات قيد الطبع تحت عنوان «الحجاج والتلفظ» باللغة الفرنسية (Argumentation et énonciation)، وقد وضع له المنطقي السويسري جان بليز غريز تقديما. ويتضمن الكتاب تعريفا بالنظريات الحجاجية المشهورة (ليرمان، غريز وديكرو) وفيه عرض شامل ومفصل لنظرية الحجاج في اللغة. كما يحتوي على معلومات أوسع بكثير مما ورد في كتاب «اللغة والحجاج»، والفصل الأخير منه يعرف بالتداوليات المندمجة ونظرية التلفظ ونظرية تعدد الأصوات (la polyphonie). كما أن هناك كتابا آخر بعنوان «اللغة والمنطق: مدخل نظري». ويعرف هذا الكتاب بعلاقة المنطق باللغة، ويقارن بين الظواهر اللغوية والظواهر المنطقية (الروابط، الاستلزام والنفي...). وهناك مشاريع أخرى كترجمة كتاب «الفضاء في اللغة الفرنسية»، ويندرج هذا الكتاب في الدلالة المعرفية وكتاب آخر بعنوان «سعيد النورسي، رجل الحوار والإقناع والأخلاق»، وهناك كتب وأبحاث أخرى قيد الإعداد.