عندما اختارت مخرجة سلسلة حديدان أن تقتطع من المتخيل الشعبي مرحلة من مراحله التاريخية لم يطرح الأمر كثيرا من الصعوبات، خاصة وأن الحكاية الشعبية يمكن تطويعها وتعديل بعض مساراتها الحكائية، غير أن العثور على الصورة التي تجعل المشاهد يرتفع عن واقعه وينتقل من خلال ديكور طبيعي عبر ذلك الزمن المتخيل، كان أكثر صعوبة، خاصة فيما يخص العثور على فضاءات تتناسب والفضاءات المتخيلة من خلال أسطورة حديدان، التي لا توجد في موروثنا الشعبي وحده بل إن لكل شعوب الأرض حديدانها الذي تفتخر بوجوده وتردد حكاياته للأجيال المتعاقبة. عندما تم بث الحلقات الأولى من سلسلة حديدان سجلت أكبر نسب للمشاهدة، والتي بلغت 47 بالمائة، أي ما يعادل خمسة ملايين ونصف مشاهد، حسب المعطيات التي تقدمت بها مؤسسة ماروك ميتري، هذه النسب جعلت الحديث عن الدراما المرتبطة بالمتخيل الشعبي تعود إلى الواجهة كبداية لانعطاف الإنتاج السينمائي الوطني، الذي ربما يجد لنفسه آفاقا أرحب من مجموعة من السيناريوهات المبتذلة التي تعد في آخر لحظة. «المساء» قضت يومين رفقة فريق تصوير السلسلة وتحدثت إلى مخرجة السلسلة وبطلها إضافة إلى طاقم الديكور فكان الربورطاج التالي. يبدو أن التهميش الذي تعرفه جماعة تلات نايت يعقوب كان بالنسبة إلى القائمين على سلسلة حديدان قدرا جميلا، إذ احتفظت المنطقة بمظاهر البادية الموغلة في القدم، فالبيوت لا تزال تحتفظ بجدرانها العتيقة، ورغم بعض الأشياء التي تسللت إليها من معدات كهربائية حديثة، فإن جدرانها لا تزال تتيح فرصة تصوير مشاهد لا توجد فقط في مخيال من لازالوا يروون حكاية حديدان لكنها توجد على أرض الواقع في منطقة تدعى إيجوكاك منطقة تفردت بتوفير مجموعة من المشاهد التي استأنس بها المشاهد المغربي، فجل حلقات السلسلة تم تصويرها في هذه المنطقة التي لا تزال بها مجموعة من المآثر التي تتحدث عن أهميتها التاريخية، كمسجد تينمل الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثاني عشر الميلادي. ألوان اللباس تتولى مهمة اختيار الملابس ثلاث فتيات يسهرن على أن تلتقي اختياراتهن مع اختيارات المخرجة التي تجلس خلف صندوقها الأسود كأنها تطل من خلاله على ذلك الزمن الماضي الذي عاش فيه حديدان، وتطلب من حين لآخر أن تتم إضافة جزء من ديكور المشهد أو أن يتم تغيير لون سلهام أو تعدل عمامة حديدان بالشكل الذي يجعل المشهد أمامها أكثر تناسقا، ورغم أن مهمة اختيار الألوان تبقى أمرا متخيلا، فإن منطق اللاتناسق هو القاعدة التي يعتمدها القائمون على الديكور بحكم أنهم يحكون عن حقبة من الزمن يغلب عليها الفقر، الذي كان يحول دون الحصول على لباس متناسق ومن ثوب واحد، كما أن الألوان التي يتم اختيارها في غالبها ألوان داكنة ومن الألوان القديمة التي لا تزال البادية المغربية محافظة عليها. شبهت فاطمة بوبكدي الجزء الثاني من كل عمل سينمائي بأنه أشبه ما يكون بمطالبة الجمهور بإعادة مقطع من أغنية في مسرح مفتوح، إذ عبرت عن موقفها الرافض لإنجاز الجزء الثاني، لكنها بررت إقدامها عليه بكون الجمهور أضحى متعطشا لهذا النوع من الدراما التي تعتمد على المتخيل الشعبي، فمن خلال الأصداء التي تصل وردود الفعل تبين أن هناك رغبة كبيرة لدى الجمهور في متابعة هذه السلسلة، وهو الأمر الذي التقطته القناة الثانية التي طالبت الشركة المنتجة للسلسلة بتصوير الجزء الثاني، سيما أن نهاية السلسلة الثانية بقيت مفتوحة. كما أن نسب المشاهدة كشفت أن سلسلة حديدان تفوقت من حيث المشاهدة على بعض مباريات كرة القدم. حيل حديدان رغم بساطة شخصية حديدان وقدرته على الخروج من أصعب المواقف وأكثرها تعقيدا بسبب حيله التي لا تنتهي، فقد كان عاملا مساعدا على الدخول في مغامرة الجزء الثاني كون مغامرات حديدان غير مرتبطة بحكاية واحد بل ألف حكاية وحكاية مادام أن خزان الخيال غير محدود، وقد تم الاكتفاء ب15 حلقة فقط في الجزء الثاني رغم أن الطلب كان أكبر، إذ كان يرتقب أن يصل عدد حلقات الجزء الثاني إلى ثلاثين حلقة. ونفت مخرجة السلسلة أن يكون هناك تكرار مادام أن سفر حديدان من القبيلة التي كان يعرفه فيها الناس وأشخاص مكن من خلق فضاءات جديدة وحكايات جديدة مكنت من تجنب التكرار، فهناك وجوه ومواقف ومقالب وحكايات جديدة. حكاية فاطمة بوبكدي مع «المتخيل الشعبي» بدأت منذ طفولتها، التي ارتبطت بحبها للأشياء القديمة، بدءا بحلي الجدات وانتهاء بالأعمال الدرامية التاريخية على خشبة المسرح والحكاية والسرد الشعبي، كلها عناصر جعلت مخرجة سلسلة حديدان تنجذب إلى الدراما المعتمدة على المتخيل الشعبي، والذي استطاعت من خلاله أن تحقق ذاتها من خلال الاشتغال على الفنتازيا التاريخية، إذ كشفت فاطمة بوبكدي أن ذلك كان بتوجيه من عبد الرحمان التازي من خلال اختيار طابع الهندسة المعمارية الذي ميز حقبة من تاريخ المغرب، وكذا طبيعة الديكور والملابس التي كانت سائدة، والتي ظهر التميز فيها في فلمي «الكمين» و «تغالين» . فقد كانت البداية مع سلسلة «الدويبة» التي كشفت بوبكدي أنها من اقتراح عبد الرحمان التازي الذي تبين له من خلال تجربته السينمائية أن الاشتغال على الفنتازيا التاريخية يعد مجالا واعدا وسيحقق نجاحات باهرة بحكم قربه من الجمهور. تهذيب الحكاية لقد كانت «الدويبة» أول فنتازيا تاريخية تتعامل معها فاطمة بوبكدي، إذ عمدت إلى تهذيب حكاية «الذويبة» التي لحقت بها العديد من التفاصيل التي أخرجتها عن أصلها، كما أن ذاتية الرواة جعلتهم يدخلون عليها أشياء لا تحترم ذكاء المتلقي اليوم، بل إن بعض تفاصيلها قد تثير جدلا سياسيا أو عقائديا. فشخصية الذويبة كما يتم تداولها شخصية شريرة، فكان لزاما تهذيبها وتحويل الدهاء الذي تتمتع به شخصية «الدويبة» من وسيلة لإلحاق الأذى بالناس إلى وسيلة لإثبات الذات وتجاوز العقبات والوصول إلى تحقيق الأهداف. فردود الفعل التي تلت عرض سلسلة الدويبة جعلت المخرجة تحس بأن هناك حبا مشتركا بينها وبين عموم المغاربة الذين استحسنوها وأبدوا إعجابهم بهذا النمط الجديد من الإنتاج السينمائي، الذي خلق طفرة في الإنتاج الوطني، وأصبحوا يتوقون إلى اكتشاف ما تزخر به بلادهم من طبيعة ومن مناظر تكتشفها الأجيال الجديدة لأول مرة. واجب التوثيق اكتشفت فاطمة بوبكدي أنها من خلال هذه الأعمال التاريخية تقوم بمهمة غاية في الأهمية، ألا وهي توثيق هذا التراث الذي نسيه الناس وبدأ في الاندثار بعدما نشأت أجيال كثيرة على سماعه من الجدات، واليوم وفي زمن الفضاء المفتوح أصبحت هذه الخصوصيات المغربية تضيع وتنفلت دون أن يتم الالتفات إلى خطورة أن تهمل الشعوب ذاكرتها التي تشدها دوما إلى أصلها الذي يشكل عمقها الحضاري، فقد كانت أعمال الدراما التاريخية التي أنجزتها بوبكدي وسيلة لتوثيق هذه الأعمال وحفظها، وكذا إشراك الأجيال الجديدة في المتخيل الشعبي الذي نشأ عليه الأجداد والآباء. هذا الاهتمام بالتراث المغربي جعل مخرجة سلسة حديدان تنفتح على الحكاية الشعبية في البلدان المغاربية، لتكتشف أن هناك تشابها في المخيال الشعبي لهذه الشعوب بأكملها مع تقارب مع بقية شعوب إفريقيا. وكمثال على ذلك «وريقة الحنا» أو «عيشة رمادة» في التراث المغربي، حيث تم توظيف هذه القصة في سلسلة «رمانة و برطال» مع إدخال بعض التعديلات من أجل تهذيب الحكاية. من الظواهر التي غزت مجموعة من الإنتاجات السينمائية المغربية والسيتكومات التلفزيونية ذلك الإغراق في استعمال الدارجة، التي يمكن أن نطلق عليها (لهجة العروبية) فتجد أن الممثل يتصنع النطق بها، إلا أن لفاطمة بوبكدي رأيا آخر في هذا الصدد، إذ تصف هذا النوع من التوظيف لدارجة البادية المغربية بأنه أشبه ما يكون بالكاريكاتير، فهي تريد أن تحيي الدارجة المغربية كما كان ينطقها الأجداد دون (هوو) أو (أوووااه) التي تغلب على هذا النوع من اللهجة الدارجة التي نجدها في بعض الإنتاجات المغربية، بل إنها ترى أن الدارجة المغربية غنية بألفاظ أقرب ما تكون إلى الفصاحة لكنها لغة دارجة صرفة. لغة كانت نظيفة وجميلة وأقرب ما تكون إلى الحكمة، لكنها بدأت في الانقراض بسبب التلاقح الثقافي والمستوى التعليمي الذي بدأت معه لغات أخرى تغزو الاستعمال اليومي للدارجة المغربية. كما أن ردود الفعل التي جاءت بعد عرض سلسلة الذويبة أظهرت، حسب فاطمة بوبكدي، تعطش المغاربة إلى الأعمال الفنية الناطقة بالدارجة المغربية. جاذبية مكان من العناصر التي تميز سلسلة حديدان، والتي نالت إعجاب المشاهدين هي هذه النقلة التي تقوم بها حلقات حديدان من روتين الحياة في المدينة إلى نمط العيش في البادية، ببساطتها وألوانها الطبيعية وأوانيها، التي ربما بعض الأجيال لم يسبق لها أن رأت مثل هذه المشاهد من البادية المغربية، لذلك تحقق هذه المناظر الخلفية داخل السلسلة نوعا من المتعة البصرية والنفسية للمشاهد، الذي أصابه الملل من إنتاجات لا تغادر محور الرباطالدارالبيضاء ولا تخرج عن جدران الفيلات الفاخرة والعمارات والشقق السكنية الضيقة. بوبكدي كشفت عن حقيقة مفادها أن طاقم التصوير يجد في البداية صعوبة في التأقلم مع العيش في مثل هذه الفضاءات خلال أيام التصوير، لكن مع مرور الأيام يبدأ الطاقم بالاستئناس بالمكان. كما أن للألوان الطبيعة جاذبية خاصة إذ أنها تجذب حتى الأطفال الذين يزداد عشقهم للطبيعة. من الحقائق الصادمة بالنسبة إلى مخرجة سلسلة حديدان أن نسبة كبيرة من مشاهدي ومتتبعي سلسلة حديدان كانت من الأطفال، وهو ما أشعرها بتخوف من أن لا تكون عند حسن ظن هذه الشريحة التي يصعب أن تبرر لها أي تراجع في المستوى الفني لهذه الأعمال. فالصعوبة التي تكمن في التعامل مع الأطفال هو أن تنجز عملا موجها للكبار لكن الأطفال بدورهم يجدون أنفسهم في هذا العمل ويستطيعون أن يتابعوه باهتمام وأن يفهموا بعضا من مضامينه، فالأطفال هم أول من يجلس أمام التلفاز ينتظرون موعد سلسة حديدان لأنها في نظرها عمل عائلي يجب أن يجد الجميع ذاتهم فيه. سبعة رجال من الأعمال التي لا تزال تتحين فاطمة بوبكدي فرصة إخراجها إلى الوجود سلسلة تاريخية حول «سبعة رجال»، وهم ليسوا الرجال السبعة المعروفون في تاريخ مراكش، ولكن سبع شخصيات متخيلة تعبر كل شخصية منها عن مفهوم خاص، وهو فيلم يتناول «بركة الشرفاء» حيث سيجري الحديث عن أشخاص يبعثون من جديد ويحملون معهم هذه «البركة» وكيف سيتمكنون من العيش بها في حياتنا المعاصرة، إضافة إلى عمل «زهر ومرشة» ولا يزال الخيار يتأرجح بينهما لكن بوبكدي ترى أنها أميل إلى إخراج عمل «سبعة رجال».
كمال كاظيمي*: مغاربة إسرائيل كانوا يتابعون سلسلة حديدان - كيف استطعت أن تؤدي دورا مركبا يجسد شخصية «حديدان»؟ عندما أسند إلي دور حديدان لم أكن بعد قد اطلعت على سيناريو السلسلة، وكانت الصعوبة بالنسبة إلي تكمن في كيفية إقناع الشعب المغربي بأكمله بأن حديدان الذي سيتقمصه «كمال كاظيمي» هو نفسه حديدان الذي رسمه المغاربة على مر الأجيال في مخيلتهم، عندما كانت الأمهات والجدات يحكين قصصه ومغامراته للأبناء والأحفاد، كما أن صورة «حديدان» التي رسمتها أنا شخصيا في مخيلتي لا علاقة لها بي أنا شخصيا، إذ أنني كنت أتخيل أن حديدان رجل طويل القامة صاحب وجه ولحية طويلة، هنا بدأ التحدي في أن أجد شخصية لا تشبه كمال كاظيمي لا في الصوت ولا في الحركة، وقد بدأت الحكاية عندما حضرت فاطمة بوبكدي لعمل مسرحي كنت مشاركا فيه فبدا لها أني أستطيع أن أجسد شخصية حديدان، وقد كانت بالنسبة إلي مغامرة من قبل المخرجة التي قبلت الدخول في هذا التحدي، فلو تعلق الأمر بمخرج آخر لما اقترح علي هذا الدور ولفكر في إسناد هذا الدور إلى ممثل معروف. - عندما شاهدت أولى حلقات حديدان هل اقتنعت بأنك قد ربحت التحدي؟ بالنظر إلى الطريقة التي تلقى بها الجمهور المغربي سلسلة حديدان، أستطيع الجزم بأنني بلغت كثيرا من النجاح في تجسيد هذه الشخصية المركبة، رغم أن طموحي لا يقف فقط عند شخصية حديدان بل أعتقد أن أدوارا أخرى جديدة أستطيع أن أجسدها بمستوى أكبر مما حصل مع شخصية حديدان. - في نظرك ما السر الذي جعل سلسلة حديدان تلقى هذا الإقبال الكبير من طرف المشاهد المغربي؟ السر الوحيد الذي جعل هذه السلسلة تحظى باهتمام المغاربة هو كونها جعلت المغاربة يقتربون أكثر من مفهوم «تمغاربيت»، فالدراما المغربية أوغلت كثيرا في مشاهد الفيلات والصالونات الفاخرة وعبارات من قبيل «عطيني مفتاح السيارة» و«واش أنت هو المجرم الحقيقي»، وهي أشياء بعيدة عن المعيش اليومي للمغاربة، فحديدان حقق التصالح بين المغاربة وتراثهم. وقد تم بذلك تكسير الحاجز بين الدارجة المغربية والمشاهد، حتى إن بعض المغاربة المتفرنسين أعجبوا بالسلسلة. - ألم تكن هناك صعوبات في التعامل مع الدارجة المستعملة في السلسلة ؟ منذ القراءة الأولى للسيناريو بدا لي أنه يقدم لي أشياء كثيرة ساعدتني على تقمص هذه الشخصية المركبة، ولا أخفي عليك أنه مع تقدم التصوير تمكنت أيضا من استيعاب تفاصيل هذه الشخصية أكثر. كما أن المشاهد المغربي ملّ كثيرا من الممثل الذي يمثل، أي أنه يظهر أمام المشاهد بأنه يتصنع الدور الذي يقوم به، فالتلقائية في الأداء عامل حاسم في تقبل الناس لسلسة حديدان. فبعض الممثلين عودوا المشاهد على أن يظهروا في الأعمال الفنية على نفس الحالة التي يوجد بها في الحياة العامة، فكمال كاظيمي شخص خجول يختلف كثيرا عن حديدان الذي يشاهده المغاربة في هذه السلسلة. لكن الرابط بيني وبين حديدان أن شيئا من شخصية حديدان عشتها في طفولتي. - هل مر توظيف المكون اليهودي في سلسلة حديدان دون ردود فعل سلبية؟ من الأمور المثيرة التي أثارتني كثيرا أن المغاربة في إسرائيل يتابعون سلسلة حديدان، فرغم أن شخصية اليهودي داخل السلسة كانت دائما تسقط ضحية مقالب حديدان، إلا أنه لم يكن هناك أي تعليق سلبي على هذا الأمر، وهذا جزء من التراث المغربي عندما كان المكون اليهودي والمسلم يتعايشان داخل البيئة المغربية، بحيث لم يتم حذف أي مقطع من ذلك ولم يتم الاعتراض على أي مشهد من المشاهد. * بطل سلسلة حديدان