منذ أن تعالى الحديث عن مرحلة ما بعد سقوط النظام السوري وسلسلة الترتيبات العاجلة التي يتوجب أن تسبقها وتعقبها، واستجابة لضغوطات شتى، غربية بصفة خاصة، مورست على مؤسسات المعارضة السورية الرئيسية، مثل «المجلس الوطني السوري» و»الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، راجت -بالتزامن- مقولة التعاون مع قوى النظام التي «لم تتلطخ يدها بدماء السوريين». وعلى نحو سريع، متسارع وارتجالي أحيانا، بلغت هذه المقولة شأو الافتراض الضمني بأن النظام نظامان: واحد سفك الدماء، ولا حوار معه البتة، ولا رجعة عن إسقاطه برموزه كافة؛ وآخر لم يسفك الدماء، وثمة فرصة لأفراده كي ينخرطوا في بناء سورية المستقبل. وهكذا، في البند 6 من خطة نقل السلطة في سورية وبدء المرحلة الانتقالية، التي أعلنها قبل أيام جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني، نقرأ ما يلي: «تشرف الحكومة المؤقتة على اتفاق بين قادة الجيش الحر وهيئة الأركان المشتركة وضباط الجيش السوري ممّن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين، لتنظيم عمليات وقف إطلاق النار وسحب الجيش إلى ثكناته، واستيعاب الثوار في الجيش والقوى الأمنية، وضبط الأمن وحفظ السلم الأهلي». وأما الشيخ أحمد معاذ الخطيب، رئيس «الائتلاف الوطني»، فقد حثّ على الروحية ذاتها، في خطب رسمية وأحاديث صحفية مختلفة: «كلّ من لم تتلطخ يداه بالدماء فهو شريك في الوطن، ليس فضلا منّا وإنما حقّ له، وهؤلاء الناس كثيرون»؛ وكذلك: «لو كان كلّ الثوار إرهابيين فليستلم (السلطة في سورية) من لم تتلطخ يده بالدماء، ولا مشكلة لدينا في ذلك»؛ وأيضا: «كلّ من لم تتلطخ يداه بدماء السوريين هو جزء من أي حلّ سياسي ممكن». غير أن المقولة، التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة ومنطقية، تسعى إلى إحقاق الحقّ، وتنهض على مبدأ أن وازرة لا تزر وزر أخرى؛ تخفي في طياتها مقدارا كبيرا من التعقيد والتشابك، لا يُفقدها قسطا كبيرا من براءتها الظاهرية فحسب، بل ينذر بانقلابها إلى نقيض ما تصبو إليه من تسامح واستعداد لقبول الآخر ونزوع إلى المصالحة. هذا إذا افترض المرء، بادئ ذي بدء، أن الجهة/الجهات التي سوف تتولى فرز ملطخ اليدين من سواه، تمتلك من أسباب الشرعية والتمكن والإحاطة والعدل والإنصاف والموضوعية، فضلا عن المعلومات والوثائق والبراهين، ما يسبغ الكفاية الحقوقية على خلاصاتها وأحكامها. ثم إذا افترض المرء ذاته، بعدئذ، توفر درجة كافية من الإجماع حول إجراءات كهذه، لدى الأوساط الشعبية ذاتها التي يعود إليها، أولا، حقّ المقاضاة في وقوع تلطيخ اليد أو الجزم بعدم وقوعه. فإذا لم تكن المقولة صيغة لفظية ومجازية صرفة (وهي تأخذ هذا المنحى في أمثلة كثيرة، عمليا!)، فإن تصنيف الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين يظل عملية أصعب، بكثير في الواقع، من تصنيف الملطخة أيديهم، غنيّ عن القول. هم، في المقام الأول، ليسوا أولئك الذين انشقوا صراحة عن النظام، بصرف النظر عن توقيتات انشقاقاتهم ودوافعها الظاهرة والخافية والمواقع التي شغلها كلّ منهم في آلة السلطة، ذلك لأن الفرضية العقلية البسيطة تقول إنهم قد انخرطوا في صفّ الانتفاضة، وهذه تجبّ ما قبلها، الآن على الأقل، في انتظار ساعة حساب يتوجب أن تأزف ذات يوم، في سورية المستقبل، حيث دولة الحق والقانون. كذلك، فإن الفرضية السياسية تستوجب زجّهم في محاولة استمالة تلك الشرائح من «جمهور» النظام، التي حافظت على درجة من الولاء لمؤسسات السلطة، حزب البعث أو النقابات أو اتحادات الطلبة والشبيبة أو ما يُسم لميليشيا عسكرية أو قطيع شبيحة؟ أم في الصفّ الآثم، بوصفه أحد كبار مموّلي الإنفاق اليومي على آلة الاستبداد، وأحد كبار دافعي رواتب الشبيحة، فضلا عن الخدمات اللوجستية الكثيرة التي تقدّمها شركاته إلى أجهزة النظام المختلفة؟ وإذا جاز القول إن حالة مخلوف أوضح من سواها، لجهة تصنيفه في خانة الملطخة أيديهم بدماء السوريين، فما حكم بثينة شعبان مثلا، المستشارة الإعلامية للقصر الجمهوري رسميا، وطابخة معظم قدور الحصى حول مسرحيات «الحوار الوطني» و»المعارضة الداخلية الشريفة»، أو عمار ساعاتي، رئيس ما يُسمى «الاتحاد الوطني لطلبة سورية»، وقائد معظم عمليات التشبيح الدامية ضدّ طلاب الجامعات السورية؟ أو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطى، الذي أفتى بأن ضحايا النظام ليسوا شهداء، وحرم التظاهر السلمي في الشوارع، واعتبر صورة الأسد الموضوعة على الأرض بمثابة بساط يمكن السجود فوقه لله؟ والأكثر تعقيدا، في جانب ثالث من أركان التصنيف، هو حالة المسؤولين السابقين الذين شغلوا مواقع عليا في جهاز الدولة، ولم يكونوا مجرد موظفين يؤدون مهامّ بيروقراطية صرفة، بل شاركوا في إدارة شبكات الفساد، وانخرطوا فيها بأنفسهم: هل ذاك الذي امتصّ دماء السوريين، وأثرى على حساب قوتهم وكدّهم ونهب ثروات بلادهم... يختلف كثيرا عن ذاك الذي تلطخت يده بدمائهم؟ وذاك الذي لم يكن فاسدا تماما، لأسباب شتى، لكنه سكت عن الفساد أو تواطأ عليه أو سهّل عملياته بحكم موقعه، ما الرأي فيه؟ وقد يقول قائل، محقا في مستوى أول: ألا يتوجب على دولة الحق والقانون الوليدة أن تحسم أمر هؤلاء، في دور القضاء وقاعات المحاكم؟ صحيح، بالطبع، ولكن للأمر مستواه الآخر الأسبق، الذي أخذت تلهج به مؤسسات المعارضة: إذا كان هؤلاء شركاء لنا في الوطن، و»ليس فضلا منا»، كما يقول الشيخ الخطيب، فهل يكونون أيضا شركاءنا في المرحلة الانتقالية، قبل أن يقول القضاء كلمته في ماضيهم، من حيث أفعالهم التي خرقت قوانين كانت سارية المفعول في عهودهم، هم أنفسهم؟ لعل بعض الأمثلة تقرّبنا أكثر من ميدان النمط الملموس، وليس المجرّد وحده؛ ففي خريف 2004 عقد محمد الحسين، وزير مالية النظام آنذاك، مؤتمرا صحافيا واسع النطاق، غير مسبوق أو بالأحرى غير معهود في تاريخ وزارة كهذه، مع مراسلي الصحف المحلية والعربية والعالمية. واكتسب اللقاء أهميته من اعتبارات ثلاثة: أن الوزير عضو في القيادة القطرية، ورئيس المكتب الاقتصادي القطري، ومن الجيل «الشاب» الذي واكب ترقية بشار الأسد في الميدان الحزبي، ومن مواليد محافظة دير الزور الشرقية النائية غير المعروفة بتعاطفها مع النظام؛ وأن اللقاء، ضمن الاعتبار الثاني، عُقد في مقرّ دار البعث، بما يوحي بتوجيه رسالة مفادها أن الوزير الرفيق يتمتع بدعم قيادة الحزب أيضا؛ وأخيرا، أن الهدف الرئيسي من اللقاء كان شرح مبادئ «التعاون» و»الشفافية» و»الصدق» التي تعتمدها الوزارة مع الوفد الأمريكي القادم للتفتيش على المصرف التجاري السوري، بحثا عن تبييض أموال أو ودائع عراقية، أو سواها من التفاصيل التي يستدعي «قانون محاسبة سورية» التدقيق فيها. ولقد كان الوزير مفوّها ذرب اللسان متباهيا في كلّ ما طُرح عليه من أسئلة، عدا ذلك السؤال الوحيد الذي تجاهله تماما، وكأن أحدا لم يطرحه البتة: ما حكاية انقلاب شركتَيْ الهاتف الخليوي «سيرياتيل» و»سبيستيل»، لصاحبهما الأبرز رامي مخلوف، من شركتَي BOT (أي بناء تشغيل انتقال ملكية)، إلى شركتين مساهمتين تطرحان الأسهم للبيع على الجمهور، قبل أو دونما إحداث سوق أسهم؟ المحتوى الآخر للسؤال ذاته كان يفيد التالي: هل تنازلت الدولة عن حقّها في امتلاك الشركتَين بعد انتهاء مدة العقد؟ وكيف، نكتشف، ويكتشف الجمهور السوري، الآن فقط أن المدة هذه ليست ثماني سنوات كما نعرف ويعرف الجميع، بل هي 15 سنة بالتمام والكمال... هذا إذا وافق مخلوف على رد ما للدولة إلى الدولة! بالطبع، «طنّش» الوزير الرفيق عن هذا السؤال لأن أملاك ومشاريع وأنشطة مخلوف كانت وتظل فوق القانون، ويحدث أحيانا أن تكون صانعة للقوانين أو معدلة لها أو ضاربة بها عرض الحائط (كما حين أصدرت محكمة البداية المدنية في دمشق حكمها بتحويل ملكية 750 ألف سهم من مجموعة نجيب ساويريس إلى مجموعة مخلوف؛ أو حين خضع بشير المنجد، وزير المواصلات، الاتصال والتقانة بعدئذ، وطوى قرارا بمنع شركتَي الخليوي من تحويل أموالهما إلى الخارج دون إذن من الوزارة؛ أو حين بدا أن كلّ قوانين الأرض لا تحفظ حقّ آل سنقر في وكالة مرسيدس، التي سال لعاب مخلوف عليها...). ولقد «طنّش» الحسين لأن مخلوف يمثل التجسيد العملي الأعلى للبنية الريعية التي تضخّ أموال الفساد إلى حسابات الفاسدين، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله! وبعد المالية والمواصلات، هناك مثال ثالث جسّده وزير الصناعة الأسبق غسان طيّارة: رجل شغل موقع نقيب المهندسين طيلة 20 سنة، ليس لأن مهندسي سورية يهيمون به إعجابا، وليس لأنه انتُخب (حتى بمعنى انتخابات حزب البعث الأقرب إلى المهازل)، بل لأنه عُيّن تعيينا بقرار من القيادة القطرية للحزب الحاكم، بعد حل نقيب ومجلس نقابة المهندسين في عام 1980، إثر التحرّك الشعبي والمهني الواسع ضدّ النظام. المثال الرابع غسان الرفاعي، وزير الاقتصاد الأسبق، المستشار السابق في البنك الدولي، «المستقل» حزبيا، ولسان حال توجهات السلطة نحو الاقتصاد الليبرالي. وفي التغيير الأول لوزارة محمد ناجي عطري، جرى الاحتفاظ بالرجل ضمن صيغة إرسال المزيد من الإشارات حول الليبرالية القادمة، ولأن النظام كان بحاجة إلى هذا «الخبير» في خوض مفاوضات شاقة حول الشراكة الأوربية. وفي دورة التغيير، عطري 2، فُصلت التجارة عن الاقتصاد، وارتدّت هذه الوزارة الأساسية إلى حيث بدأت وتواصلت طيلة عقود: إلى حزب البعث الحاكم، الذي عاد من جديد للإطباق على المالية والصناعة والاقتصاد! أليس البتّ في أمثال الحسين والمنجد وطيارة والرفاعي أشدّ تعقيدا، من حيث الإشراك في بناء الوطن، من الرأي في كبار ضباط الجيش الذين لم ينشقوا، ولكن النظام جمّد صلاحياتهم أو أحالهم على مواقع غير قيادية لارتيابه في إمكان انشقاقهم عنه؟ أليس أشدّ صعوبة، كذلك، من نموذج قاضٍ اضطُرّ، تحت ضغط رؤسائه وإلحاح لقمة العيش والخوف من التنكيل، إلى إصدار أحكام جائرة في حقّ المواطنين؟ وقبل انقياد مؤسسات المعارضة إلى خطاب غنائي حول التسامح والشراكة المستقبلية في الوطن، ألا يتوجب احترام الذاكرة الشعبية بصدد شخوص النظام، لا رموزه وحدهم؟ ألا يصحّ فرز زارع الحنطة عن زارع الزوان، كما جاء في مثال يسوع الناصري... سيّد التسامح؟