«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. الإسكندر الأكبر أحد أعظم المحاربين وأكثرهم غموضا على مر العصور.. عندما بلغ الثلاثين من عمره حكم واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي عرفتها البشرية وحكم من بساتين الزيتون من اليونان إلى قصور الهند.. لكنّ ما لا يعرف عنه أنه كان قاتلا مجنونا وشاع حول حياته الكثير من اللغط. هل كان عسكريا عبقريا أم طاغية متعطشا إلى الدماء؟ وما حقيقة الأسرار التي أحاطت به؟ ابن ملك الآلهة في بابل، عام 323 ق. م. يستلقي الإسكندر صريع مرض خطير، وقد أنهكت الحمى جسده.. بعد الغزوات وسفك الدماء واجتياح أزيد من 50 ألف كيلومتر، وصل سعيه إلى تحقيق المجد الأبدي: نهايته.. يتجمع رجال الإسكندر بقلق حول سريره. يصف المؤرخ بلوتاخ المشهد: «لم يكن شيء ليمنعهم من رؤيته للمرة الأخيرة. كان حافزهم الحزن الذي سكن قلوبَهم والذهول العاجز لفكرة خسارة ملكهم». خلال ساعات سيفارق أحد أعظم الملوك المحاربين الذين عرفهم العالم الحياة. ولد الإسكندر في مدينة بيلا، شمال اليونان، عام 356 ق. م. كان العصر الذهبي لليونان قد مضى منذ زمن طويل وكانت الإمبراطورية عبارة عن مجموعة من المدن الممزّقة المنقسمة وفريسة سهلة لفليب، والد ألكسندر.. كان الملك فيلب جنديا خشنا وزيرَ نساء وكان مقاتلا شرسا والمثل الأعلى لجنوده. تعلم ألكسندر المهارات العسكرية وفنّ القيادة من والده، لكنْ كان لأمه أولمبياس أيضا تأثير قوي عليه، فمنها ورث طبيعته الشغوفة وعاطفته المتقدة. يقول بول كاترتليغ من جامعة كامبدرج: «كان تأثيرها على ألكسندر هائلا. كانت امرأة قوية وغامضة. كانت تحب ابنها وكانت حارسا تحمي مصالحه المنتظرة.. كانت أولمبياس تابعة للطوائف الدينية، وبالتحديد طائفة «ديونيساس»، إله النجوم. أشيع أنها كانت تعبد هذا الإله بالانغماس في رقص جامح حتى تفقد وعيها.. نشرت إولمبياس شائعة تقول إنها حملت من زيوس، ملك الآلهة، الذي جاءها في هيئة أفعى.. وطيلة حياته، سيعيش ألكسندر مفتونا بفكرة أنه قد لا يكون بشرا فانيا.. إضافة إلى التأثير القوي لوالديه عليه كان هناك تأثير مُعلّمه الفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو، منه تعلم ألكسندر عجائب الحضارة الإغريقية، وعلى رأسها الحكايات الأسطورية العظيمة. أحبّ الإسكندر إليادة هوميروس، قصة حروب طروادة، وكانت مصدر إلهام له، إنها قصة تحمل في طياتها حكايات أبطال خلّدتهم أعمالهم الملحمية ومنحتهم السلطة، أحد هؤلاء الأبطال هو «أخيل»، المحارب الإغريقي النموذجي، بطل عندما خير بين حياة طويلة عادية وبين حياة مجد قصيرة على أرض المعركة.. اختار «أخيل» موتا مبكرا وشهرة سرمدية. من الصعب الاستخفاف بتأثير «أخيل» على الإسكندر، فقد كان أحد أجداده من جانب أمه كما اعتقد، ومنذ حداثة سنه آمن بأن «أخيل» هو المثل الأعلى الذي يجب أن يتخذه شخص مثله وضع نصب عينيه أن يكون في القمة وقرر ليس فقط اعتناق صفاته بل وأيضا منافسته، حيث يحقق كل ما حققه «أخيل» وأكثر. قطيعة مع الأب ترك الإسكندر بلاده ثلاث سنوات للدراسة مع أرسطو، وعندما عاد -وكان في الثالثة عشرة من عمره- وجد مثَله الأعلى الآخر، والده الملك فيلب، وقد تزوج مرة أخرى، والأسوأ من هذا وجد أخا جديدا يهدد منصبه كخليفة للعرش.. أثار هذا الأمر حفيظة الإسكندر وغضبه ووقع شجار عنيف بين الأب وابنه، ونشأ جو عدائي بينه وبين والده.. وانتهى الأمر بألكسندر في المنفى، في النهاية، تصالح الاثنان، لكن الهدنة لم تدوم طويلا.. في ليلة صيف من عام 336 ق. م. اجتمع فيلب والعائلة المالكة للاحتفال بزواج ابنته. يقف الملك على المدخل لتحية القادمين، فيدنو منه رجل ويطعنه طعنة قاتلة... مات فيلب على الفور وقُتل القاتل على الفور أيضا.. فهل تصرف القاتل بمحض إرادته أم هناك متآمرون آخرون؟ يعتقد المؤرخون أن مقتله كان بتدبير من أولمبياس، فقد نبذها فيليب لأجل امرأة أخرى أصغر سنا وأزيحت عن مكانتها الرفيعة؟ وماذا عن الإسكندر، هل كان ضليعا في موت والده؟ إذ نظرنا في مصلحة من يصبّ اغتيال فيلب سنجد أن المستفيد الأكبر هو ألكسندر، لأن فيلب في وقت اغتياله كان على وشك الانطلاق إلى آسيا لبدء حملة غزاوات واسعة، ولم يكن ألكسندر سيشارك في الحملة، كان سيتركه في مقدونيا كوصيّ على العرش وبهذا ما كان ليحظى بالمجد الذي كان سيصاحب هذه الحملة. في سن العشرين، أعلِن ألكسندر ملكا، وعندما اعتلى العرش ورث جيشا عظيما واضطرابا سياسيا واسعا. استغرق عاما ليخمد تمردا في اليونان ويرسّخ حكمه فيها، لكن ألكسندر لم يقتنع بمقدونيا وحدها، لقد ركز عينه على عدو اليونان الأزلي، دولة الفرس.. كانت الإمبراطورية الفارسية تمتد من تركيا في العصر الحالي إلى باكستان. قبل 150 سنة من تولي ألكسندر الملك، أحرق الفرس مدينة أثينا وهدموا معابدها ولم تنس هذه الحادثة قط، كان والده فيلب يخطط لغزو فارس قبل موته والآن أتيحت لألكسندر فرصة الثأر. في عام 334 ق. م. عبَر الكسندر هيلسبون بجيشه وبدأ رحلة من الطموحات والانتصارات لا نظير لها، دامت 11 سنة وغيّرت خريطة العالم القديم إلى الأبد. بداية الأسطورة كانت محطته الأولى أسوار طراودة، المنهارة. زار ضريح أخيل. كان يستعد لمعركته الخاصة الملحمية وخصمه هو أحد أثرى وأقوى ملوك الأرض، الملك ديراوس الثالث. تقدمت جافل جيوشه حتى وصلت مدينة إيسوس (في تركيا حاليا).. كانت جيوش ديراوس تفوق جيوش ألكسندر عددا، لكن هذا تماما هو التحدي الذي يتلذذ به ألكسندر. في الفوضى تنهار ميسرة الجيش الفارسي، ومع نهاية اليوم يقتل 50 ألف جندي فارسي ويفرّ الملك ديراوس.. تقدم إلى سواحل لبنان (حاليا) واستسلمت كل المدن، لكن مدينة صور قاومته بعد 7 أشهر قبل أن يقتل 7 آلاف من أهلها ويستعبد 30 ألفا.. فيما صلَب ألفا جندي، لجعلهم عبرة لأعدائه، ما سيحل لهم. قاومته غزة وقتل رجال ألكسندر جميع رجال المدينة.. لقد كان انتقامه منهم وحشيا وكان يقاتل من أجل المجد وقد تجسدت فيه كل الصفات السيئة. تحداه باتيس، حاكم غزة، إلى النهاية وكشف عن جانبه الوحشي، حيث ربطه بالحبال وقام بجره حول المدينة حتى فارق الحياة.. مشهد استوحاه من «إليادة» هوميروس، حين قام أخيل بجرّ خصمه هكتور حول أسوار المدية لكن في تلك القصة كان هكتو ميتا. مكللا بانتصاراته الوحشية، يستعد للاستيلاء على مصر، لكن المصريين يستسلمون بلا قتال.. كان اليونانيون مبهورين بالحضارة المصرية وكان الإسكندر أكثرهم انبهارا.. أصبغ عليه لقب فرعون.. كلف أحد معاونيه ببناء مدينة تحمل اسمه، فكانت الإسكندرية، التي قُدّر لها أن تصبح عاصمة مصر لاحقا في عهد البطالمة الذين خلفوه. ينتعش التحدي لدى الإسكندر و يزيده جرأة وجسارة لقتال ديراوس من جديد، فيحاصره، ويهرب هذا الأخير، الذي يُقتَل على يد أحد ضباطه، وبالتالي تحقق للإسكندر ما لم يحققه والده لنفسه. لم يتوقف ولا ينوي العودة.. تقدم إلى أفغانستان، لقهر الحافة الشرقية للإمبراطورية الفارسية، وتمكّن من ضمن جل الأراضي التابعة للأمبراطورية الفارسية وتمكن أيضا من إخضاع شبه القارة الهنيدة. ما وراء الأسطورة ارتبط الإسكندر بعلاقة وثيقة مع صديق عمره وخليله، المدعو هفستيون وبلغ من شدة تعلّق الاثنين ببعضهما أن لعبت وفاة هفستيون دورا في جعل صحة الإسكندر تتراجع بوتيرة أكبر، وباختلال توازنه العقلي على الأرجح، خلال الشهور الأخيرة من حياته. كانت ميول الإسكندر الجنسية موضعَ جدال وشك طيلة سنين، فليس عناك أي نص قديم يفيد أنه كان شاذا أو دخل في علاقة شاذة، أو أن علاقته مع هفستيون كانت علاقة جنسية.. لكنْ رغم ذلك، يذكر المؤرخ الإغريقي أليانوس تكتيكوس قصة جاء فيها أنه عندما زار الإسكندر طروادة، اتّجه إلى قبر آخيل وكلله بالزهور، فيما اتجه هفستيون إلى قبر فطرقل وكلله كذلك، مما قد يعني أنه كان عشيق الإسكندر.. كما كان فطرقل عشيق آخيل، فلم عسى كل منهما يزور قبر نظيره دون الآخر إن لم يكن الأمر كذلك؟.. كما يشير أليانوس إلى عبارة «إيرومينوس»، والتي تعني «المحبوب» باليونانية القديمة، ويقول إنها لا تحمل بالضرورة معنى جنسياً في طياتها، فقد يُقصد بها أن هفستيون كان أقرب الأصحاب والرجال إليه. في جميع الأحوال، فإن مثلية الإسكندر إن كانت صحيحة، لم تكن بالأمر المحرّم أو غير الطبيعي في أيامه، بل كانت أمراً شائعاً.. تنص المصادر التاريخية على أن الإسكندر تزوج بثلاث نساء: رخسانة، ابنة وخش آراد، أحد نبلاء باختريا، بعد أن رآها ووقع في حبها؛ وستاتيرا الثانية، ابنة الشاه داريوش الثالث، لدوافع سياسية محضة، وپروشات الثانية، صغرى بنات الشاه أردشير الثالث، التي تزوجها في سوسة، إلى جانب عدد من ضباطه الذين جعلهم يقترنون بأميرات فارسيات.. يظهر أن الاسكندر أنجب ابنين فقط: الإسكندر الرابع من رخسانة، وهرقل المقدوني من أمته «برسين»، وتوفي له طفل مرة واحدة، عندما أجهضت رخسانة في بابل. مع هذا، فإن فن العظمة والحرب جزء من إرث ألكسندر، فقد أسس طرقا تجارية جديدة وصاغ علاقات جديدة في الثنائية بين الشرق والغرب نشر الثقافة الإغريقية وأصبحت المسرحيات الإغريقية تقدم في بلاد الفرس آنذاك ووصلت الفلسفة اليونانية إلى النهد وتجاوزتها إلى سيرلنكا.. لقد أصبح رمزا للطموح الجامع والانجازات العملاقة.. لقد كان قائد أسطوريا نتغنى بمآثره الباهرة.. في آخر المطاف حظي ألكسندر بما أراده، وهو الخلود..