لعله من اللافت من الوجهة الموسيقية الصرفة، حصر مختلف الفنون المغربية الأصيلة، سواء العالمة منها أو الشعبية، لاعتبارات متعددة مرتبطة أساسا بالغنى الحضاري والإثني والعرقي للمغرب، فعلى مدى قرون تعاقبت على هذا البلد، حضارات وأجناس وإثنيات، شكلت بشكل تراكمي، مجموعة من الألوان الفنية، والتعابير الموسيقية، الحبلى بالعديد من التفاصيل، والتي غالبا ما لا نلتفت إليها، عن قصد أو غيره، مكتفين بظاهر الأمر عوض البحث عن بواطنه. ولعله من نافلة القول إن تراثنا، بمختلف مكوناته، يعاني من إجحاف ما بعده إجحاف، فكثيرا ما يختزل في جوانبه الفلكلورية، وغالبا ما يبخس حقه في التبريز والإظهار، فلا يمرر في وسائل الإعلام إلا على مضض، وبأشكال تسيء إليه أكثر مما تفيده. هذه الحلقات ستحاول أن تسلط الضوء على مجموعة من فنوننا التراثية، بغية إظهار جوانبها المشرقة، عن طريق مقاربتها من وجهة أكاديمية صرفة، علها تساعد في إعادة النظر في هذه الثروة الفنية التي يحق للمغرب الافتخار بها. بعد انفراط عقد دولة الموحدين، انقسمت إمبراطوريتهم إلى مجموعة من الدويلات، الحفصيون بتونس، وبنو عبد الواد بالجزائر، وبنو الأحمر بالأندلس، والمرينيون بالمغرب. وقد تمكنت دولة بني مرين في بعض فتراتها من التوسع إلى خارج المغرب الأقصى، كما حدث في عهد أبي سعيد الأول، ويوسف بن يعقوب وخاصة أيام أبي الحسن المريني، الذي توحد المغرب الكبير تحت رايته، من سوس إلى مسراته قرب الحدود المصرية شرقا، ورندة بالأندلس شمالا. غير أن عدم قدرة المرينيين على التوسع شمالا نحو الأندلس (انحصرت عمليا في مملكة بني الأحمر بغرناطة)، خاصة مع التفوق البري والبحري لإسبانيا والبرتغال، تمثل بشكل جلي، في الانهزام في موقعة طريف «ريو سالادو»، والتي وصفها ابن الخطيب، في «الإحاطة في أخبار غرناطة»: «فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء، التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرت بذلك عيون الأعداء»، ومعلوم أن السلطان يعقوب منصور المريني كان قد عبر إلى عدوة الأندلس، نحو أربع مرات، حقق فيها انتصارات باهرة، غير أن خوف محمد الفقيه ملك غرناطة من تنحيته، بعد أن استولى على مالقة، دفعه إلى التحالف مع بيدرو الثالث ملك أراغون، بالإضافة إلى تحالفه مع بني زيان كذلك ضد المرينيين. ونجم عن موقعة «ريو سالادو» أي النهر المالح، نزوح عدد كبير من الأندلسيين نحو عدوة المغرب، خاصة البلنسيون الذين هاجروا نحو فاس، فتلقى المغرب أولا أسلوب التأليف البلنسي، الذي ظل سائدا طيلة حكم المرينيين، وعقب سقوط غرناطة على عهد الوطاسيين سنة 1492 م، استقبل المغرب جموعا كبيرة من الموريسكيين، فحدث التمازج بين الأسلوبين البلنسي والغرناطي، وقد أصبح عماد المدرسة المغربية في طرب الآلة، بينما استقبلت الجزائر الأسلوب الغرناطي، وتونس الأسلوب الإشبيلي. ويخبرنا كتاب «نثير الجُمان في شعر من نظمني وإياهم الزمان» لإسماعيل بن يوسف الأنصاري الغرناطي نزيل مدينة فاس والمتوفى بها عام 808ه/1405م، بنحو 74 شاعرا ممن عاصرهم المؤلف بعدوتي المغرب والأندلس، وزعه إلى اثني عشر بابا، وسمي الباب الثاني: «في شعر ملوك بني مرين وأبنائهم»، مما يدل على احتفاء المرينيين بالشعر والأدب، كما تجدر الإشارة إلى تطور القصيدة الزجلية في العهدين المريني والوطاسي، تطور يمكن اعتباره نزوعا نحو التأسيس لقصيدة الملحون المغربية، ويخبرنا عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته، في معرض حديثه عن عروض البلد، عن أحد رجالات هذا التطوير، وهو الكفيف الزرهوني، يقول: «من فحولهم بزرهون من نواحي مكناسة، رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن»، وللكفيف الزرهوني «ملعبة» (قصيدة طويلة جدا حوالي 500 بيت، يمكن اعتبارها من الشعر الملحمي)، يمكن اعتبارها وثيقة تاريخية، تصف لنا بدقة رحلة أبي الحسن المريني إلى القيروان، بغية السيطرة عليها، في إطار جهوده لتوحيد المغرب الكبير، وقد حققها أستاذنا محمد بن شريفة, صدرت عن المطبعة الملكية عام 1987 م. ومن أعلام العصر كذلك حماد الحمري، وهو من استحدث «الحربة» أي اللازمة في القصيدة الملحونة، يقول في إحداها: الورد والزهرواغصانو واشجار باسقة واطيار يسبحوا لنعم الغني والما فقلب كل غدير وبرزت أسماء أخرى كمولاي الشاد، وعبد الله بن احساين وابن شجاع التازي وغيرهم كثير. ومن علامات ازدهار الموسيقى في عهد المرينيين والوطاسيين، استخدام الموسيقى لعلاج الأمراض العقلية والنفسية، ومعلوم أن مسألة العلاج بالموسيقى قديمة جدا، من عهد الفراعنة إلى عهد الإغريق، إلى كبار الفلاسفة العرب، من كندي وفارابي وابن سينا، يقول إخوان الصفا: «أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها، كل ذلك بحسب تغييرات أمزجة الأخلاق واختلاف طباع وتركيب الأبدان في الأماكن والأزمان… ولذلك فإنهم استخرجوا لحنا يستعملونه في المارستانات وقت الأسحار يخفف من ألم الأسقام عن الأمراض، ويكسر سورتها، ويشفي كثيرا من الأمراض والأعلال»، ويشير الدكتور محمد بن شقرون، في كتابه «مظاهر من الثقافة المغربية من القرن 13 إلى القرن 15 م» إلى طلب الأطباء من الموسيقيين: «أن يحضروا في كل أسبوع مرة أو مرتين، لأن ذلك يفيد في انشراح الصدر وإنعاش الروح، فتقوى ضربات القلب، وتعود الأعضاء الجسمية لتأدية وظائفها». وكانت هذه الظاهرة سائدة في العديد من المدن، كمراكش وسلا وفاس، التي حبست فيها أملاك، كانت مداخيلها تخصص، لأداء أجرة جوق الموسيقى الأندلسية المغربية، الذي يحضر للعزف بمستشفى سيدي فرج. (يتبع) أستاذ مادة التراث الموسيقي المغربي بالمركز التربوي الجهوي بالرباط