يقول هنري غولدمان، الباحث المتخصص في مسألة الهجرة الذي يعيش في بلجيكا، في كتابه: «النبذ الفرنسي للإسلام.. معاناة جمهورية»، إن نظرة البلجيكيين إلى الإسلام تبقى مختلفة نسبيا عن نظرة الفرنسيين، بحكم العوامل التاريخية والسياسية وحجم الجالية في كلا البلدين. وتنهل مقاربته من عدة مناهج ومن حالات عينية ومن قضايا هزت المسرح السياسي الفرنسي والأوربي، وبالأخص انبثاق البرقع في المشهد الحضري الأوربي. كما أن بحثه اعتنى بمقاربة ما أسماه «المعاناة الجمهورية»، أي أن المجتمع الفرنسي يتعامل مع إفرازات الإسلام كما لو كانت مرضا أو وباء ويشعر بها كذلك. فمنذ قضية الحجاب إلى اليوم، ثمة تعامل باثولوجي (مرضي) مع الإسلام والمسلمين. تبقى سلوكات النبذ، التي هي نتيجة ظروف تاريخية، سياسية، إحدى محصلات الظاهرة الاستعمارية. كما تجد تفسيرها في البنيات السيكولوجية اللاوعية للأفراد لما يتعلق الأمر ب«الآخر»، الغريب، الأجنبي. وتعتبر فرنسا بشكل سافر أحد المختبرات النموذجية لهذا النبذ، الذي يتخذ أشكالا وصيغا متباينة من العنف، الخفي أو الظاهر. من قضية الحجاب إلى «حرب القيم»، التي أعلن عنها نيكولا ساركوزي، مرورا بقضية البرقع والهوية الوطنية، اجتازت فرنسا تجارب إقصاء ألبس فيها المسلمون جلد الضحية. المفارقة الصادمة أن تحدث مثل هذه الوقائع والممارسات في بلد حقوق الإنسان وبلد الدفاع عن الحريات! وقد تفاقم مسلسل النبذ غداة هجمات 11 سبتمبر، ليصبح بعد عقد من الزمن سلوكا وتصرفا مبتذلا وجاريا به العمل، حيث يتمتع بشفافية في المجتمعات الغربية. فالدعوات إلى طرد أو قتل «الآخر» لم تعد تغلف داخل خطابات مزدوجة أو استعارات مشفرة، بل أصبحت مطروحة في واضحة النهار. ولنا في تصريحات أندرس بيهرينغ برافيك، الذي أودى بحياة ما يقرب من مائة شخص، من بينهم أطفال وأبرياء، مثال حي على ذلك. فصوره على الإنترنت وخطاباته وكتاباته بمثابة ملصق حائطي معروض على كل الأنظار. التعامل الباثولوجي مع الإسلام في موضوع الإسلام، حضوره في المشهد الفرنسي، وشفافيته، كتبت العديد من المقالات وألفت الكثير من الأبحاث والدراسات. بعضها له توجه تاريخي، والبعض الآخر مقاربة سوسيولوجية أو أنثروبولوجية. في الكتاب الذي يعرضه علينا هنري غولدمان نقارب الكيفية التي يعالج بها باحث متخصص في مسألة الهجرة، يعيش في بلجيكا، «الإسلام الفرنسي». ذلك أن نظرة البلجيكيين إلى الإسلام تبقى مختلفة نسبيا عن نظرة الفرنسيين، بحكم العوامل التاريخية والسياسية وحجم الجالية في كلا البلدين. وسبق لهنري غولدمان أن أشرف ما بين 2003 و2009 على قسم الهجرة في «مركز تساوي الفرص ومناهضة العنصرية» في بروكسيل. ويشغل اليوم منصب رئيس تحرير مجلة «السياسة والهجرات المغاربية». وتنهل مقاربته من عدة مناهج ومن حالات عينية ومن قضايا هزت المسرح السياسي الفرنسي والأوروبي، وبالأخص انبثاق البرقع في المشهد الحضاري الأوروبي. كما أن بحثه اعتنى بمقاربة ما أسماه «المعاناة الجمهورية»، أي أن المجتمع الفرنسي يتعامل مع إفرازات الإسلام كما لو كانت مرضا أو وباء ويشعر بها كذلك. منذ قضية الحجاب إلى اليوم، ثمة تعامل باثولوجي (مرضي) مع الإسلام والمسلمين. جاء التقديم بقلم فرنسيس مارتينز الذي حلل سيكولوجية النبذ والعداء، باعتبارهما أحد مكونات البشر. وسبق لطوماس هوبز أن أشار إلى أن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، فيما لطف عالم الإحيائيات كونراد لورينتز هذا الحكم قائلا إن الإنسان شخص مفترس، غير أن طبعه لا يتحلى بأي طاقة عدوانية. وقد أكدت العلوم الإنسانية، وخاصة الأنثروبولوجيا التحليلية، على المميزات الفصامية التي تربط علاقات الأفراد بعضهم ببعض. ويلاحظ إكلينيكيا بأن العلاقة بالآخر تشتد تأزما في لحظات الانفلات الأمني والأزمات الاقتصادية واضطراب الهوية. وفي المجتمعات الحديثة وفي حياة كل يوم، لم تعد للفرد ثوابت للتعريف والتوجيه لها قدرة المساعدة على العثور على مكانه وموقعه. ويضرب فرنسيس مارتينز المثل بأبناء الضواحي الذين أصبحوا محط أنظار وتشكيك. لقد هيمن الخطاب حول الإسلام على الأذهان. كما تسبب في مواجهات فكرية بين المعسكرات أو داخل نفس المعسكر الواحد. كما أن الغرب لم يتخلص بعد من خوف طفولته البدائي. وبمنأى عن الأزمة الاقتصادية والتعايش بين الثقافات التي ينظر إليها البعض كعائق، فإن التشويش واضطراب الهوية هما اللذان يولدان اليوم الخوف الراديكالي. ويطرح البحث السؤال الحيوي: ما هي سبل الإفلات من الأشكال الجديدة للتمييز؟ مقاومة الإدماج أندريه مالرو هو صاحب قولة «سيكون القرن الواحد والعشرون دينيا أو لا يكون». وثمة من شكك في مصداقية هذه النبوءة وفي إمكانية تطبيقها على المجتمعات المسماة علمانية، بحكم أنه لا مستقبل للدين في مجالها. المفاجأة هي أن أبناء الهجرة، وبالأخص المتحدرين من أصول مغاربية أو من أصول تركية أو من إفريقيا السوداء، عوض أن يندمجوا في مجتمع علماني أدخلوا أو سربوا إليه مكون الإسلام. وهو دين شعبي وقوي يطمح إلى احتلال موقع في مجال مدن أفرغت كنائسها من المؤمنين. لكن عوض أن ينظر الأوروبيون إلى هذا اللقاح على أنه علامة على رغبة لرفض أي انصهار داخل نسيج بلد التبني، سعوا بالنبذ إلى فرض الاندماج. وقد عثر البعض طبعا على تبريرات واهية لتفسير هذه المقاومة: انصياع هذه الأطراف لقوى خارجية تسيرها وتسخرها لمآرب خفية، وتدخل النساء المحجبات في هذا المخطط. إن مسألة إدماج الأجانب تختلف من بلد إلى آخر. فالنموذج الفرنسي ليس هو النموذج البلجيكي، الذي يقوم على ثقافة الوفاق، فيما يقوم الفرنسي على ثقافة التذويب، بمعنى أن يذوّب الفرد ذاته وهويته في هوية التبني. ويذكر هنري غولدمان بأنه في المناطق الفرنكوفونية المحيطية يميل الناس إلى ما أسماه عالم الاجتماع الكيبيكي جيرار بوشار «الفكر العضوي»، الذي يتميز بنوع من المرونة ورفض الفكر الثنائي، وهو فكر ميال إلى التسامح والتوافق والتكيف. وبما أن فرنسا تمارس ثفافة راديكالية قوامها الحسم وعدم المساومة، فقد كانت ضحية مفاجآت لأنها لم تفاوض ولم تعمل بالتوافق. هناك تصلب وتشدد من قبل الدولة الفرنسية في طريقة تعاملها مع الإسلام على النقيض من بلجيكا التي تتعامل بليونة مع هذه الديانة، على الرغم من وجود تيارات متطرفة ووجود إسلاموفوبيا لا تقل عدوانية عن نظيرتها في فرنسا أو في هولاندا. ونتيجة هذا التصلب، من غير المستبعد أن تجد فرنسا نفسها أمام قطيعة عنيفة، يقول هنري غولدمان. وتسعى هذه الدراسة إلى فهم الميكانيزم الذي يتحكم في حيرة فرنسا أمام الإسلام. وهي حيرة مشبعة بالكثير من الفانتازمات. إن الاندماج على الطريقة الفرنسية، الذي يقوم على تذويب الهوية الأصل في هوية التبني، يبقى وهما ولا يمكنه أن يحقق نتائج تذكر. لذا وجب التخلص من أثقال الفكر الراديكالي الفرنسي، وإلا ستكون الأحداث الدامية التي شهدتها فرنسا عام 2005 مستهلا لأحداث أكثر عنفا بكثير. شهدت حقوق الإنسان ولادتها الأولى على الأرض الأوروبية في 27 غشت 1789 بإعلان ولادة ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، وهو البند المؤسس للثورة الفرنسية. ويشير البند الأول إلى أن «الناس يولدون ويبقون أحرارا ومتساوين في الحقوق، وبأن التمايزات الاجتماعية لا يمكنها أن تقوم إلا على المنفعة الجماعية». هكذا تأكدت مركزية فكرة المساواة في الجمهورية الفرنسية، وبالأخص لدى اليسار الذي سيكون الوريث الوفي لهذه الحقوق إلى اليوم. كانت الآمال التي تولدت عن 1789 جد قوية، وبالأخص لدى الشعوب المستعمرة. التأكيد على أهمية فرنسا ولغتها في الصراعات التحررية كانت القاسم المشترك للنخب الديمقراطية للشعوب المضطهدة. غير أن فرنسا وعلى خلفية الظاهرة الاستعمارية خيبت الكثير من الآمال، إذ سوقت لاستعمار وحشي باسم الثورة وباسم مثلها العليا. وكان استعمار فرنسا للجزائر أحد أشكال النبذ العنيفة. إذ تم إدماج البلد كطرف جغرافي ضمن الجمهورية الفرنسية ليتمتع فيها 10 بالمائة فقط من المواطنين بحقوق المواطنة، أما الباقي فكانوا مواطنين سفليين أطلقت عليهم تسمية «الأهالي المسلمين». في أوساط اليسار الفرنسي، لا أحد شكك في اندماج الجزائر في فرنسا. وفي أكثر الحالات كانت النخب اليسارية تساند النخب الإسلامية في مطالبتها بمنح المسلمين حق المواطنة في فرنسا والهوية الفرنسية. هذه المخلفات هي التي تدمغ السلوكات وأنماط التعامل مع الإسلام بغض النظر عن هويات المسلمين، أفارقة كانوا أم أتراكا. الإسلام الذي تعرفه فرنسا صالح للتطبيق على كل المسلمين الفرنسيين! وقد تم العمل ولا يزال بهذا المنطق المنحرف. إسلام الهجرة وتبقى المسائل العرضية مثل مسألة الحجاب وطقوس التعبد...، من بين علامات التمييز والنبذ التي ينكب هذا البحث على دراستها بتأن. ويلاحظ أن فئة كبيرة من المسلمين من تلك التي تعيش في فرنسا لا ترغب ألبتة في التعرف على نفسها في القيم والمعايير الفرنسية. وفي غياب هذا الانصياع، يتم التشديد على الضغوط التي تمارس على النساء لارتداء البرقع أو الحجاب أو البقاء في البيت لتربية الأطفال. بمعنى إلصاق كليشيهات لتصغير وتحقير صورة المسلمين وموقعهم. لكن، بالرغم من حملات التشويه لامتصاص هوية المسلمين، ثمة تأكيد لهويتهم ولثقافتهم، يقول هنري غولدمان. كيف لنا أن نفسر بأن الاختلاف الإسلامي يؤكد ذاته منذ بداية 1990 ضمن المجتمعات أوروبية، وبالأخص في قلب المجتمع الفرنسي؟ في هذا الاتجاه يطرح المفكر السياسي وعالم الجغرافيا إمانوييل طود الفكرة القائلة المطروحة عام 1974 ب«امتصاص» احتياطي المهاجرين واستيعابهم نهائيا. لكن مد الهجرة لم يلبث أن استأنف حركيته عام 1980، على الرغم من أن الحدود كانت مغلقة في وجه الهجرة، مع ارتفاع كبير في معدلات البطالة وانكماش آلية الاقتصاد. في ظل هذه الظرفية المتميزة بنظام ليبرالي وحشي، حافظ المسلمون على تآلفهم داخل بنية جماعية. وأنيط بالجيل الثالث دور المسؤولية في إعادة بناء علاقات وارتباطات جديدة مع التقاليد والتراث. في الوقت الذي نأى فيه قسم من هذا الشباب عن الإسلام، وطّد البعض الآخر علاقاته بالإسلام، لكن على نمط جديد: إسلام يحمل بصمات الهجرة. هنا نلاحظ تمايزات على مستوى الممارسة والتعبد بين الأتراك والأفارقة، بل حتى بين الجزائريين والمغاربة. ويلاحظ أيضا تعايش بين الجيل الأول، الثاني والثالث. كما أن مسلسلات الاندماج لا تتشابه فيما بينها.
مشهد العيش المشترك لكن يبقى السؤال: هل فرنسا قادرة على ضمان وإنجاح سياسة اندماج أبناء الهجرة ضمن قيم الجمهورية؟ لو أخذنا الشغل كنموذج على حيف سياسة الإدماج، لاتضح أن أبناء المهاجرين، بغض النظر عن الأجيال التي يمثلونها، لا يعاملون على مستوى سياسة الأجور بنفس المعاملة التي يحظى بها ما يسمون بالفرنسيين الأصليين. يطالب الأجانب كما جاء في مقالة لوزير الداخلية، كلود غيان، أن ينسلخوا عن جلدتهم وأن يعربوا عن «فرنسيتهم» الكاملة، بمعنى أن يكونوا فرنسيين أكثر من الفرنسيين. لكن هذه السياسة لم يحالفها التوفيق لأن الإسلام أضحى بالنسبة إلى شرائح عريضة من المسلمين، وشرائح من الفرنسيين الذين اكتشفوا، بل اعتنقوا الإسلام، ملاذا، بل درعا ضد كل أشكال النبذ. في البيئة الفرنسية، يعيش المسلمون في ظل مثاقفة دائمة. لكنهم يودون التحكم في آلياتها ومسلسلها. وقد عكف هنري غولدمان على إعداد هذه الدراسة كرد فعل على ما عرف ب»قضية الحجاب»، التي لا تزال تداعياتها مستمرة في المتخيل الفرنسي إلى يومنا هذا. علاوة على هذه القضية، مر المجتمع الفرنسي بتشنجات دينية وثقافية، سعى من ورائها منشطوها إلى التمييز والنبذ. وهي اليوم في وضع تفاقم واحتدام. لذا يدعو الباحث إلى نبذ هذا النبذ وإفساح المجال للمسلمين والأجانب ليأخذوا موقعهم كاملا في المشهد الرمزي، مشهد العيش المشترك.