كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. في يوم سبت من شهر ديسمبر عام 1976، إذ كنت أخصص ذلك اليوم لعمليات قلب الأطفال، كان عليَّ إجراء تداخلات قلبية مختلفة لتسعة منهم. وبينما كنت منهمكا في العمل، استدعيت، في التاسعة صباحاً، على عجل من قبل القيادة وأبلغت بأن القائد يريدني. ولما كنت على بيَّنة من أنه بصحة جيدة، وأنني أستطيع شرح الأمور له، وأنه سيتفهم عذري، قلت للمتحدث (أحمد رمضان): «سآتي عندما أُتم عملي». ألح في طلبه، فكررت الرفض. أنهيت عملي على الساعة الرابعة مساءً. وذهبت بعدها لأقابل العقيد، وهناك كانت المفاجأة. وجدته قد سافر إلى موسكو. وقعنا في حيرة. أخيراً قرر النقيب خليفة حنيش أن ألحق به. خصصت لي طائرة نفاثة صغيرة أقلعت من مطار معتيقة العسكري، وطلب من قائدها التوجه إلى صوفيا للحاق بالعقيد. وصلنا صوفيا، فأُبلغنا أنه غادر إلى موسكو. تقرر أن نواصل الرحلة إلى هناك. لم تكن لدي تأشيرة دخول موسكو، فطلبت من مجلس قيادة الثورة إبلاغ السفارة الليبية هناك لاتخاذ الإجراءات اللازمة. هبطت بنا الطائرة على الساعة الحادية عشرة مساءً، وإذا بي أرى سيارات مدرعة مسلحة تحيط بالطائرة من كل ناحية. هبطنا فاقتادنا البوليس السوفييتي إلى مبنى المطار، وكانوا في منتهى الحيرة، فالقادم بطائرة خاصة ليبية ليس ليبياً، ولا يحمل تأشيرة دخول. أُبقيت في قاعة الانتظار مدة تقارب ساعة. كان الارتباك ظاهراً على وجوه رجال الأمن. منهم من هو غاد وآخر قادم، تفحصوا جواز سفري أكثر من مرة، يخابرون ويكررون. استمر الحال على ما هو عليه إلى حين ظهور السفير الليبي. انفرجت سرائري، وأيقنت أن الفرج قريب. بعد برهة، والحيرة ما زالت بادية على وجوه رجال الأمن، ختم جواز سفري وذهبنا إلى الكرملين. كانت الساعة متأخرة، وبالرغم من هذا أُخذت لمقابلة العقيد، الذي رحب بي عندما رآني. شرحت له المغامرة من ألفها إلى يائها، وسبب التأخير فما كان منه إلا أن شكرني وقال: بارك الله فيك وفي أمثالك. في اليوم التالي، بدأت المحادثات بين الوفدين. تركزت المباحثات على تطوير التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري، وتقرر تشكيل لجنة عسكرية روسية ليبية من أجل تحديد حاجة ليبيا من الأسلحة وترتيب التسليم والدفع. لقد أبلغني أحد أعضاء اللجنة أنه تم الاتفاق على شراء أسلحة باثني عشر مليار دولار. لاحظت أثناء الجلسة رجلاً في الوفد السوفييتي يجلس خلف الرئيس بريجنيف يدخن باستمرار، وينفث الدخان مباشرة في ظهره دون أن ينهره أحد، فاستغربت المنظر. وعند خروجنا من الاجتماع، سألت العقيد عن ذلك فأبلغني أن بريجنيف مريض بالقلب، ومنعه أطباؤه من التدخين، والعمل الرسمي لهذا الموظف هو التدخين ونفخ الدخان باتجاه بريجنيف». بعد انتهاء الزيارة، اتجهنا إلى بلغراد. كان في استقبالنا الماريشال تيتو. هناك، ظهرت بشكل واضح للعيان جهود نظام الماريشال تيتو على الحياة العامة من معالم الحضارة والرقي والفن، والثقافة والتطور، في مبانيها، في حدائقها، في تنظيم ونظافة الشوارع وفي الصناعات المختلفة. أثناء حفل العشاء، شاهدت ما لم أشاهده في حياتي، إذ قدمته لنا فرقة من الخدم (نادل) بطريقة كانت أشبه بفرقة فلهارمونية تعزف مقطوعة موسيقية كلاسيكية. كانت تلك الفرقة تقوم بعملها بشكل غاية في التنظيم. طريقة الدخول إلى القاعة أشبه بفرقة عسكرية تقتحم القاعة: طريقة السير، الخطوات متناسقة منظمة والقامة مشدودة، حَمل الأواني والكؤوس وزجاجات الشراب، طريقة انحنائهم وجمعهم ما تم استعماله، انسحابهم من القاعة، وعودتهم بأوان وأصناف أخرى من الطعام. لم أعد أتذكر أيٍّا من الأصناف التي قدمت لنا، لكن ما بقي في ذاكرتي هو ذلك المنظر الخلاب. في اليوم الثالث، اتجهنا براً إلى جزيرة بريوني. تقع الجزيرة في البحر الأدرياتيكي، وهي منطقة عسكرية، الدخول إليها يكون من خلال بوابة عسكرية وبقوارب عسكرية. وهي محاطة من جهة الغرب بعدة جزر تجعل منها منطقة آمنة وشبه معزولة عن أعالي البحار. القصور فيها رائعة الجمال والفخامة كقصور بلغراد لدرجة أنني لم أتمالك نفسي وقلت للعقيد باللهجة الليبية الدارجة: «إلا كانت الاشتراكية هيكي، نبو منها هلبه» بمعنى «إذا كانت الاشتراكية بهذه الرفاهية، فنحن نريد المزيد منها». أثناء فترات الانتظار كنت ألعب مع موظفي التشريفات الليبية بشطرنج صغير كنت أحمله معي. دخل تيتو فجأة إلى القاعة، فلمح الشطرنج الصغير، وما هي إلا برهة حتى أحضر موظف من المراسيم اليوغسلافية شطرنجاً فخماً كبيراً وطاولة خاصة به، وقال لي هذا بأمر الماريشال. كان الماريشال تيتو يتناول الشاي في جزيرة، والغداء في جزيرة ثانية، والقهوة في ثالثة. أما القاعة المخصصة لفطوره فكانت موجودة في القصر الذي كنا نقيم فيه، فهي دائرية فخمة، أرضيتها من الرخام ناصع البياض ذات أعمدة رخامية ضخمة، فيها منضدة دائرية من خشب الأبنوس، ووسطها مفرغ تظهر منه أنواع رائعة من نباتات الزينة والزهور، محاطة بكراس من نفس نوع الخشب ومنجدة بأغطية مطرزة. كانت جلسة تفتح الشهية وتشعر الجالس فيها بإنسانيته وبحضارة ورقي الماريشال تيتو وأمته. في تلك القاعة كنا نتناول طعامنا، وكان فريق من النوادل اليوغسلاف يقومون على خدمتنا، وينجزون عملهم على نفس الطراز الذي لمسناه في قصور بلغراد: حركات هادئة ثابتة، رشيقة متناسقة. في إحدى جلساتنا لتناول وجبة الغداء، كنت مع طه الشريف بن عامر، الذي كان يجلس أمامي وخلفه أحد الأعمدة، والمهندس جاد الله عزوز الطلحي عن يمينه وإبراهيم بجاد (السكرتير الصحفي للعقيد) عن يساره. وبينما نحن في انتظار تقديم الطعام، استدعى إبراهيم بجاد طباخ العقيد وهمس في أذنه، وما هي إلا دقائق حتى ظهر ثانية، حاملاً صينية خشبية قذرة عليها بعض الأطباق. أراد تقليد نوادل الماريشال تيتو في سيرهم وحركاتهم. وعند وصوله بالقرب منا، وقعت الكارثة . لم ينتبه الطباخ للعمود الرخامي، فارتطمت الصينية التي يحملها به وسقطت الصحون بما فيها على رأس المهندس طه الشريف بن عامر. كانت في تلك الصحون أكلة ليبية تدعى «المحمصة»، وهي عبارة عن حبيبات معكرونة مطبوخة بصلصة البندورة. انتشرت حبيبات المعكرونة والصلصة على رأس طه الشريف وعلى أكتافه. أصيب الكتف الأيسر للمهندس جاد الله بالخير الكثير، أما أنا فلله الحمد نجوت بفضل تصميم تلك الطاولة. أما ما حصل لرخام الأرض والأبنوس والكراسي فحدث ولا حرج. أخذ المهندس طه يزيل المعكرونة عن رأسه وأكتافه وهو يردد «متخلفين، متخلفين!» وذهب إلى غرفته، ثم تبعه المهندس جاد الله. باشر موظفو القصر عملية التنظيف وإصلاح ما وقع. حقيقة ما حدث أن إبراهيم بجاد، وهو من مدينة سبها، لم تعجبه قائمة الطعام المعدة من قبل القصر، فاستدعى طباخ العقيد وسأله عما أعده له للغداء، وطلب منه إحضار القليل منه. كان العقيد يصطحب معه طباخه الخاص وجميع لوازم أكله من لحم وزيت وخضر وخبز وفواكه إلى أي مكان كنا نسافر إليه خارج ليبيا. ولم يكن يأكل بتاتا من أكل البلد المضيف حتى في الحفلات الرسمية، بل كان «يواكل» المضيف لإكمال قصة الكارثة. استدعاني بعد ذلك العقيد وقال لي: «راهو الطباخ ديمه يحك». قمت بفحصه فوجدته مصاباً بالجرب فطلبت من التشريفات إعادته فوراً إلى ليبيا. كانت ترافقنا صفية وأولادها الثلاثة سيف الإسلام، الساعدي وهانيبعل (أو هاني البال كما كان يحب أن يسميه أبوه). تقرر أن ينقسم الوفد إلى ثلاثة أقسام: العقيد سيذهب لزيارة قاعدة عسكرية، وصفيه وزوجة تيتو ستتوجهان إلى الشمال لزيارة مغارة مشهورة في كرواتيا، وسيبقى الأطفال في الجزيرة. علمت بالأمر، فاقترحت على العقيد، بما أنه بصحة ممتازة وكذلك صفية، أن أبقى مع الأطفال، فهم أحوج بي منهما. رُفِضَ الاقتراح وقال: «أنت معي، إن دخلت البحر أدخل معي ولا تستشر أحداً ولا تسمع كلام أي كان». قضينا في بريوني أسبوعاً من العمر. وعند انتهاء الزيارة، سألني العقيد «كيف أمضيت أوقاتك؟» فأجبته بأنها قطعة من الجنة. علق قائلاً: «أنا قنطت». من الغريب أنه أعادنا إلى مدينة سبها، وبدأنا رحلة صحراوية: شمس حارقة، تراب، غبار، فوضى وتأخر أنستني بريوني وجمالها، لكن أزالت القنط عن العقيد، إذ يجد نفسه في هذا الجو. أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا