في هذا الحوار، يضع أستاذ علم الاجتماع علي الشعباني الأصبع على ظاهرة خطيرة باتت تهدد المجتمع المغربي، وهي المتمثلة في «الاحتفال التفاخري أو التظاهري»، والتي تؤدي -في نظره- إلى خلق نوع من الصراع الاجتماعي الذي يكون التبذير والبذخ من ضمن الأسباب الأساسية لإذكائه. في الحوار كذلك، يقدم الأستاذ الشعباني رؤيته لانتشار مموني الحفلات، مؤكدا أن تغير العادات السكنية هو أحد العوامل الرئيسية المساهمة في ازدياد الإقبال على الممونين، وبالتالي تعاظم دورهم. وبالمقابل، أبرز المحلل الاجتماعي أنه بات لزاما الاعتناء بالجانب التربوي لمحاربة قيم التبذير والبذخ التي تمس بنية المجتمع المغربي في الجوهر. - في البداية، نود أن نسألك عن ظاهرة باتت تنتشر بصورة كبيرة في المغرب، وتتعلق بلجوء المغاربة إلى «الممونين» لإحياء حفلاتهم، ولاسيما تلك المرتبطة بحفلات الزفاف؛ هل يمكن أن نعتبر أن مثل هذه الظاهرة ستقضي على الأشكال التقليدية للاحتفال؟ أعتقد أن الاستعانة بالممونين من أجل إحياء الحفلات، ولعل من أبرزها حفلات الزواج، هي ظاهرة حديثة في المغرب، ظهرت في المدن الكبرى، وأملتها أسباب اقتصادية، منها ما يرتبط بضيق العمارات والمنازل داخل المدن بفعل تغير العادات السكنية لأهل المدن الذين لم يعودوا يسكنون في منازل كبيرة بسبب قلة أو ارتفاع أسعار الوعاءات العقارية، وكذلك لأن تلك الفضاءات المنزلية لم تعد تستجيب لحاجيات أصحاب الحفلات، لأن العادات الاحتفالية لم تعد تتسم بالبساطة كما كانت من قبل، بل انضافت إليها عادات أخرى، ومنها ما يتصل ببروز ما كان يسميه عالم اجتماع أمريكي ب«الاستهلاك التفاخري أو التظاهري». وهنا، لا بد من أن نسجل أمرا أساسيا شجع على انتشار مموني الحفلات، وهو أن الممون يسهل مأمورية صاحب الحفل ويتكلف بكل شيء من بداية الحفل إلى نهايته بثمن يكون في الكثير من الأحيان معقولا. وإذا أضفنا أن الممونين يشغلون عددا لا يستهان به من المستخدمين، ولو بشكل موسمي، فإننا نفهم أكثر سبب كون هذه الظاهرة ماضية في طريقها إلى الانتشار. ومهما يكن من أمر، فإنه من المستبعد جدا أن نقول إن الممونين سيقضون على القيم التقليدية للاحتفال بالمناسبات مادامت شرائح مجتمعية كثيرة ما تزال تتمسك بالعادات المصاحبة لذلك. - هل تقصد أن قيم التظاهر والمباهاة بين فئات المجتمع المغربي هي التي ساهمت في ازدياد أعداد المغاربة الذين يلجؤون إلى الممونين، وهل يمكن أن نفهم مما قلته أن نظرة المجتمع المغربي تغيرت كثيرا تجاه الاحتفال بالمناسبات؟ بطبيعة الحال، تغيرت بشكل كبير، وغذى هذا التغيرَ تأثرُ المغاربة بقيم دخيلة نتيجة الاحتكاك بثقافات أخرى، فلم تعد الأعراس، مثلا، تتميز بسيادة شيم الحميمية والبساطة كما كانت منذ عقدٍ أو أقل، إذ بدأت في البروز مظاهر احتفالية جديدة يطغى عليها الطابع التظاهري والتفاخري بين مختلف طبقات المجتمع المغربي، حيث يعمد بعض المحتفلين من الطبقات الميسورة إلى القيام بأشياء خيالية بغية أن يثبتوا أنهم أحيوا عرسا أحسن من عرس جيرانهم أو أحسن من منافسهم على النفوذ الاقتصادي أو الاجتماعي. ويتجلى هذا، في رأيي، حين يقدم هؤلاء على طلب أطعمة تكلف فاتورة باهظة الثمن، وكذا شراء ملابس من أفخم المتاجر وبماركات عالمية. وقد نجازف بالقول إن هذا التفاخر يخفي في ثناياه صراعا مبيتا، وهو صراع غير محمود تذكيه عوامل نفسية تنبني على عقدة التفوق وتؤدي، في نهاية المطاف، إلى نشوء نوع من الصراع الاجتماعي الذي لا يخدم، في نظري، المجتمع المغربي في شيء سوى إنتاج المزيد من زرع قيم الحسد وتبذير أموال طائلة في أمور كمالية. وكان عالم اجتماع أمريكي في القرن التاسع عشر تحدث عن هذه الظاهرة في معرض تشريحه للاقتصاد الرأسمالي، فأكد أن «الاستهلاك التفاخري» هو من السمات التي تطبع المجتمعات المعتمدة على نظام اقتصادي ليبرالي. ولم يسلم المجتمع المغربي من هذه المباهاة المبالغ فيها، ولاسيما بعد تحسن مدخول الكثير من المغاربة، غير أن الظاهرة تفشت في صفوف الفئات الميسورة وبعض الأحيان في المدن الصغيرة. - لكن ما هي، في رأيك، الأسباب التي أدت إلى انتشار ما تسميه ب«الاستهلاك التفاخري»، وهل سيؤثر ذلك على قيم المجتمع المغربي ويؤدي إلى تبدلها؟ أرى أن انفتاح المغرب على ثقافات أخرى هو السبب الرئيس في انتشار ذلك، مع العلم بأن دولا عربية كثيرة تشهد نمو هذه الظاهرة التي تمس بنية المجتمع في العمق، وهذا الكلام لا يعني أنني ضد الحداثة، فالحداثة كذلك لها ضوابطها وقواعدها التي يجب احترامها بالموازاة مع القيم الثقافية والحضارية التي يتميز بها المغرب. ومع ذلك، فالظاهرة بالمغرب ما تزال في طور التشكل، بمعنى أنها في مرحلة انتقالية ولم نصل بعد إلى مستوى «المجتمع التفاخري» بالشكل الذي تبلور به في المجتمعات الغربية. أما بخصوص الشق الثاني من سؤالك والمتعلق بتبدل قيم المجتمع المغربي، فإن الأمر أصبح ثابتا في ظل الابتعاد عن قيم التوسط في إحياء الحفلات والإفراط في التبذير.. وهي أمور كرستها الطبقات فاحشة الثراء لتجر معها في مرحلة لاحقة فئات أخرى من المجتمع. والأدهى من كل ذلك أنه رافق ظهور هذه الظاهرة أمر غريب يتمثل في التجاء الراغبين في القيام بالحفلات، وهنا أركز على الأعراس، إلى اقتراض مبالغ خيالية بهدف أن تمر حفلاتهم في جو باذخ، وبذلك يكلفون أنفسهم ما لا طاقة لها به ويضطرون، بعد ذلك، إلى العيش في ظروف صعبة حتى يتسنى لهم تسديد تلك القروض.. وهذا أمر له عواقبه الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة. ولن أخفيك، فكل ما أخشاه هو أن تنتقل هذه الظاهرة إلى المدن الصغيرة والبوادي المغربية، لأن ذلك سيخلق مشاكل كبيرة، علما بأنها هي التي تحافظ، إلى حدود الآن، على القيم الاحتفالية ذات التجذر المغربي، وهذا الحفاظ على الأصالة المغربية في الاحتفال أصبح من اللازم الاعتناء به أكثر من أي وقت مضى. - على ضوء ما قلته، ما هي الحلول المقترحة لمواجهة آثار هذه الظواهر السلبية التي ترافق الاحتفال بالمناسبات في المغرب، ولاسيما أن بعضا منها يمس بالثقافة المغربية في العمق، كما ذكرت؟ الأكيد، في هذا الصدد، أنه إذا لم يكن هناك نوع من الحرص، فستظهر انحرافات أخرى أكثر انحرافا من تلك الموجودة حاليا، إذ ستتحول العادات الاحتفالية من نموذج تقليدي يحتفي بالقيم الاجتماعية المرتكزة على الحميمية ونبذ التبذير إلى نمط آخر من المجتمعات، يشجع على الإسراف ويتخذ من الاحتفال وسيلة للمباهاة المجانية المسيئة إلى المجتمع دون احترام خصوصياته وقيمه الحضارية. ولذلك، لا مناص من التخفيف من هذه الظاهرة، وعلى المواطن المغربي أن يتحلى بالوعي اللازم بخصوص محاربة ثقافة التبذير، ولا بد كذلك من مواجهة ما وصفته، في البداية، ب«الاحتفال التظاهري» حتى لا تحتد الظاهرة وتتحول إلى عداوات اجتماعية تفتت تماسك المجتمع المغربي. وفي هذا الإطار، ينبغي الاهتمام بالجانب التربوي عبر نشر قيم التواضع والبساطة في صفوف المجتمع المغربي.