من كثرة ما استهلك شعبنا من عبارات النعي والتوديع للشهداء، سواء منهم الشهداء الحقيقيون الذين ماتوا دفاعا عن القضية الوطنية أو شهداء الملصقات أولئك الذين أضفى عليهم صفة الشهادة مَن أرسلهم ليُقتلوا بمعارك الجنون والجهل والفساد من أجل السلطة والجاه، ومن كثرة من بكينا وتألمنا على حالنا ومن حالنا... لم تعد هناك كلمات تُرقى ويمكنها أن تحيط وتعبر عن حالة الحزن والألم الذي أصابنا لرحيل الشاعر والإنسان العظيم محمود درويش، هو ليس شاعر فلسطين ولا شاعر العرب فقط، بل رسول مُرسل من إله الشعر ليعبر عن الإنسانية بكل ما فيها من معاني الجمال والحب والحزن والمعاناة والتضحية، حب الإنسان وحب الوطن، ومعاناة الإنسان ومعاناة الوطن. ومن غير محمود درويش كان قادرا على خلق هذا التماهي الجميل ما بين الحب والمعاناة على المستوى الفردي وعلى المستوى الوطني، حيث لا معاناة بدون حب ولا حب بدون معاناة وتضحية، وكأن إله الكون وإله الشعر أراداه أن يُولد في فلسطين دون سواها، فكانت فلسطين هي المدخل أو الاستهلال التي من خلالها عبر بشعره عن هذه القيم الإنسانية العظيمة. بالرغم من أن حياة الإنسان بيد الخالق عز وجل فهو الذي يهب الحياة لمن يشاء وينزعها ممن يشاء، وبالرغم من أن (على هذه الأرض سيدة الأرض وأم البدايات وأم النهايات ما يستحق الحياة) ولكن يبدو وكأن شاعرنا محمود درويش قرر أن يغادر الحياة عندما وجد أن الحب والتضحية والجمال والوطن والوطنية وكل الكلمات العميقة ذات المعنى التي نسجت ووشحت أشعاره قد انسلخت عن معانيها الحقيقية في واقعنا الفلسطيني، لقد استشعر الراحل هول التغير المدمر للقضية الوطنية وصيرورتها أداة بيد تجار السياسة والدين والولدان والغلمان، حيث أصبحنا (مختلفين على كل شيء حتى على العلم الوطني) وكتب يقول بألم وغضب «أنت منذ الآن غيرك»، وربما استشعر أيضا أن القضية أصبحت لعبة نرد، القضايا المصيرية فيها يتداولها لاعبون يحسبون نقاط ربحهم وخسارتهم ولكن الوطن دائما هو الخاسر الأكبر. جاء رحيل محمود درويش في مرحلة تاريخية هي بمثابة المنعطف المصيري والخطير في تاريخ القضية الفلسطينية، مرحلة انتقال من (وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر) إلى مرحلة أصبح فيها الوطن حقيبة والمواطنون مسافرين، كان رفضه بأن يكون الوطن حقيبة هو رفض للغربة والشتات، رفض واحتجاج على ما يلاقيه الفلسطينيون من معاناة وإذلال على الحدود والمطارات العربية، وتوق للعودة إلى الوطن ووضع حد لحالة السفر من المنفى إلى المنفى، وبعد أن أصبح لنا مشروع وطن وعاد الشاعر مع مَن عاد إلى مناطق السلطة آملا وآملين بأن الفلسطيني المسافر والمشتت سيجد في مناطق السلطة محطة استراحة مؤقتة للمقاتل وللمناضل أو محطة استراحة نفسية، مناطق سلطة وطنية أو هكذا أسموها أشعرتنا بداية بأن هناك مشروع وطن يمكنه أن يستوعب ويستقبل من تلفظه المطارات والحدود العربية. ولكن وجدنا أن الوطن ليس هو الوطن وفلسطين ليست هي فلسطين، فحزم من عاد ومن كان صامدا حقائبهم ليبحثوا عن الوطن خارج الوطن، عندما وجدوا أن الوطن يتقاسمه الاحتلال من جانب وجماعات رأسمالها في الشراكة مع الاحتلال هو المساومة على قوافل الشهداء ومعاناة شعب وحقوق وطنية وقدسية مقاومة. رحمك الله يا شاعرنا، فمع أننا نحب الحياة اليوم وغدا إلا أن الوطن ما زال حقيبة ومازلنا مسافرين.