«حْنا في الرماني دولة بُوحْدْهَا، هذه «الدولة الأخرى»، التي يتحدث هذا الشخص ذو الخمسين عاما، حاكمها هو «صدام» الرماني، المدينة التي لا تبعد عن عاصمة المملكة إلا بقرابة 60 كيلومترا، ولغة الرعب والخوف والاستكانة هي «قانونها». الكل في المدينة يهابه ويخشاه، حتى مجرد ترديد اسمه يثير الخوف والرعب في النفوس، ولذا لا يحلو لقاطني هذه المدينة أن يلقبوا ذلك الدركي إلا باسم «صدام الرماني»، نظرا إلى «جبروته» وإلى الممارسات والسلوكات التي يقوم بها هذا الدركي، الذي يعمل في سرية الدرك في الرماني. غير أن البعض يرفض أن يلقبه ب«صدام»، تشبيها له بصدام حسين. يقول أحد السكان: «صدام حسين، على الأقل، كان «راجلْ» ومات شهيد... أنا أرفض أن أسمي هذا الدركي باسم صدام، لأن الأخير أشرف منه». تصب الشهادات والحكايات التي استقتها «المساء»، خلال زيارة قامت بها يوم الاثنين فاتح فبراير الجاري للرماني، كلُّها، في اتجاه توجيه أصابع الاتهام إلى الدركي. كما رفض بعض الذين تحدثوا ل»المساء» الكشف عن أسمائهم. يقول أحدهم: «إيلى تْنشراتْ سْميتي، مْشيت فيها»... تلفيق التهم تلفيق التهم «هواية صدام». كل من عارض هذا الدركي يكون مصيره السجن، مثل ما وقع لشخص تحدث إلينا، رفض الإفصاح عن اسمه، والذي يؤكد أن الدركي لفق له في السابق تهمة بالمتاجرة في بيع الكحول والخمور، وقضى بسببها عاما كاملا وراء القضبان، فضلا على 40 مليون سنتيم كغرامة لإدارة الجمارك... ووقع نفس الشيء مع أفراد آخرين من عائلته، ويخاف أن يتكرر الأمر من جديد، في حالة إذا ما عرف الدركي أنه قدم شهادته ل»المساء»... «إلى كان عندك الفلوسْ في الرماني ديرْ اللي بْغيتي، وإلى ما عندكشْ يسدّو بيكْ شي ثقبة»، هذه هي الخلاصة التي توصل إليها هذا الشخص الذي كان يتحدث بعفوية بدوية واضحة. واقعة أخرى لشخص آخر شهدتها مدينة الرماني، وكان طرفا فيها يدعى شخص عزيز زعيم، الذي تعرض للضرب والجرح من طرف الدرك في العام الماضي، حسب شهادة الشهود، كما جاء في الملف رقم 841/2010/19، واتُّهم في محضر الدرك بأنه يتاجر في المخدرات، رغم أن الشهود أكدوا أنه لا يتاجر فيها. حكم عليه ابتدائيا في الرماني بسنة حبسا وبثمانية أشهر في المرحلة الاستئنافية في الرباط. لكن تبقى حكاية الطفل أيمن محمد بوحجة، البالغ من العمر خمس سنوات، الحكايةَ الأكثرَ تأثيرا في مدينة الرماني. تعرض هذا الطفل لحادثة سير يوم 20 أكتوبر من العام الماضي، على الساعة الواحدة وعشرين دقيقة بعد الزوال، بعدما صدمته سيارة من نوع «لوغان داسيا». نُقِل الطفل إلى مستشفى الرماني، قبل أن يصل الدرك، ومن الرماني نقل إلى مستشفى في مدينة الرباط. لكن التقرير الذي أعده «صدام»، رفقة دركيين آخرين، تحدث فقط عن إصابة الطفل بجروح خفيفة. غير أن أسرة الطفل استغربت كيف يمكن أن تكون الجروح خفيفة، في حين أن الطفل نُقِل على وجه السرعة إلى الرباط لتقلي العلاج، وبالتالي طعنت الأسرة في المحضر الذي أعده الدرك، باعتباره مخالفا للحقيقة ولا يتطابق مع الوقائع على الأرض. فالطفل ما زال، إلى حد الآن، طريح الفراش، وهناك احتمالات لبتر رجله اليسرى... ويُحمِّل أحد أقرباء الطفل أيمن مسؤولية ما ورد في محضر الدرك ل»صدام» -الرماني، الذي وصفه ب»الذئب إذا رآك مهادنا أكلك، وإذا كنت مشاكسا، ابتعد عنك». شبكات الوساطة تعتمد «مملكة صدام» في الرماني، بالأساس، على شبكة من «المخبرين» والمخبرات يطلق عليها السكان اسم «القوادات». يحكي أحد الأشخاص الذين التقهم «المساء» أن «هذا الواقع يعرفه الصغير قبل الكبير: يتحرش بالنساء المتزوجات، يحيك المكائد للرجال، بإرسال النساء إليهم والإيقاع بهم». وتحفظ ذاكرة الرماني الجماعية حكايات رجال استدرجتهم نساء يتعاونَّ مع «صدام» إلى مكان خالٍ خارج المدينة بثلاثة كيلومترات تقريبا، ثم تهاتفه النسوة، فيحضر الدرك فيقبضوا على الشخص متلبّسا ب«جريمة»... بعد ذلك يشرعون في مساومته أجل إطلاق سراحه، مقابل ملايين... لكنْ، لا أحد من هؤلاء الرجال «تجرأ» واستنكر ما يحدث له، لأنهم يخافون من افتضاح أمرهم، فيلوذون بالصمت... لا يُكنّ سكان مدينة الرماني أي عداء لجهاز الدرك، يقولون إن هناك دركيين «الله يعمرها دار» مروا بهذه المدينة، دون أن يحدثوا أي جلبة. لكن معركتهم، اليوم، هي مع «صدام»، الذي تجاوزت تصرفاته كل الحدود. هناك حكايات عن فتيات قاصرات تعرضن لهتك العرض من طرفه، ولا أحد من سكان الرماني لديه دليل مادي عن تلك الوقائع.. يقولون إن الخوف من العار أو من الانتقام هو الذي يحول دون أن تقوم تلك الفتيات برفع شكايات ضده... «الديستي» تحقق نشرت «المساء»، ضمن ركن «سري للغاية» في نهاية الأسبوع الماضي، خبرا صغيرا حول دركي الرماني. خبر صغير ولكنْ كان له وقع كبير. تحدّث الخبر فقط عن عرائض «وقعها مئات المواطنين في مدينة الرماني وُجهت لمسؤولين، تندد بما يتعرض له السكان من مضايقات من طرف مسؤول كبير في الدرك الملكي في المنطقة. قالت العرائض، التي تضمنت أسماء نشطاء في المجتمع المدني وممثلي السكان، إن تصرفات الدركي بلغت حدا لا يطاق من الممارسات المشينة التي تنتهك حرمة البيوت وتعرض نساء المدينة لأنواع من الأذى الذي لم يعد ممكناً السكوت عنه». ويطالب السكان «قيادة الدرك الملكي بفتح تحقيق في الموضوع، بعد استفحال تجاوزات «صدام» الرماني، الذي أصبح مجردُ ذكر اسمه يبعث الرعب في نفوس نساء وفتيات المدينة الهادئة»... ما زال الرعب يجثم على قلوب سكان الرماني. بعد نشر «المساء» مقالا حول «صدام»، هاتف عدد من السكان الجريدة يريدون أن يبوحوا بما يحسون به. بعضهم يرفضون أن يكشفوا عن أسماءهم أو حتى عن أرقام هواتفهم. المهم بالنسبة إليه، أن يوصل الرسالة إلى المسؤولين دون أن يعرفوا مصدرها. لم يلجأ سكان الرماني إلى الجرائد إلا بعد أن وجدوا أبواب المسؤولين موصدة في وجه شكاياتهم. ولم تُجْد المراسلات الكثيرة التي وجهها أشخاص يدّعون تعرضهم لظلمه، أو هيآت مدنية في المدينة أو حقوقيون، إلى قائد الدرك الملكي الجنرال حسني بنسليمان، نفسِه، نفعا. لا أحد من السكان يعرف على وجه التحديد «سر» قوة هذا الدركي ولا من يحميه أو «يغطي» عن أعماله، إلى درجة أن البعض أصبح يعتقد أن الرماني «هي دولة قائمة بذاتها»!... هذا الرعب المستكن في نفس السكان عبر عنه «ع.» بالقول: « انتهت صلاحية بطاقتي الوطنية منذ عام ولا «أرغب» في أن أقوم بتجديدها إلى حد الآن، لأنني خائف على نفسي من أن تطالني من جديد يد صدام»... عريضة مضادة عندما نشر الخبر الأول عن «صدام»، ساد جو غير عادي في مدينة الرماني، وسرى الخبر بين أهاليها مسرى النار في الهشيم. تحركت الهواتف داخل سرية الدرك وتحركت، أيضا، عناصر الاستخبارات تبحث وتحقق في الخبر، كانت تريد أن تجمع معطيات عن العريضة وعن الموقعين عليها: «جاءتنا عناصر من تلك الأجهزة تريد نسخة من الجريدة، فرفضنا أن نقدمها لهم. أين كانوا عندما كان صدام يقوم بأعماله؟ إنهم يعرفون «الشاذة والفاذة» في المدينة، ولا تخفى عنهم أي واقعة»... كان وقع ذلك الخبر الصغير كبيرا جدا في «إمبراطورية صدام»، فقد نقل أحد مسؤولي المدينة لعدد من السكان أن الخبر «زعزع» الدركي صدام، واستعمل كلمة بالدارجة المغربية «صدام تقرّص». بدأ هذا الأخير في جمع توقيعات مساندة له واعتمد على شبكة زبنائه من أصحاب الطاكسيات ومن يطلق عليهم سكان الرماني «القوادات». «تؤكد» التوقيعات أنه «شخص نزيه ورجل طيب ومسالم»!... حكاية صابر مع «صدام» محمد صابر بن بوعزة هو واحد من الأشخاص الذين لا تربطهم علاقة ود ب»صدام» الرماني، يحكي محمد أنه يملك عقارا يطلق عليه اسم «سهب الخروب»، تبلغ مساحته نصف هكتار كان قد اقتناه بشكل قانوني وهو موثق في قسم التوثيق في المحكمة الابتدائية في مدينة الرماني، تحت رقم 438، والمؤرخ في 22 فبراير 2008، غير أن أبناء عمومته حاولوا الاستيلاء على العقار بالقوة ومنعوه من استغلال أرضه. وعوض أن يقوم «صدام» بواجبه بحماية الحقوق، انحاز إلى أبناء العمومة على حساب محمد صابر بن بوعزة. رفع صابر شكايات إلى القضاء وإلى المسؤولين، وكانت تقابل، كلُّها، بالتجاهل. وفي فاتح أكتوبر من العام الماضي، بعث محمد صابر رسالة إلى قائد الدرك الملكي حسني بنسليمان، يشرح فيها معاناته مع «صدام». ومما جاء في الرسالة: «تقدمتُ بشكاية إلى وكيل الملك في المحكمة الابتدائية في الرماني بشأن نزاع عقاري سببه الترامي على ملك الغير، من طرف «ص. ب.» و»ص. ع.» و»ص. س.»، حيث توجهتُ، بغرض تقديم شهادتي في النازلة، إلى مصلحة الدرك الملكي، وبينما أنا أحكي للسيد «أجودان شاف» (يقصد «صدام»)، فوجئت بأن السيدة «ف. م.»، التي تعمل كخادمة نظافة في المصلحة هي التي تطرح علي الأسئلة عوض «لاجودان شاف»، حيث قامت بسبي وشتمي، دون أن يحرك الأخير ساكنا، وفي الأخير قال لي إنه ليس لي أي حق في هذا الملك وليس لي الحق في أن أمنعهم من حرث الأرض، رغم أنني قدمت له الوثائق والحجج التي تثبت حقي، وهددني أمامها بالسجن، إن تقدمت بشكاية في هذا الموضوع»... مرت أشهر على هذه الرسالة وعلى هذا التظلم ولا جواب، ولا رد... أحزاب وبرلمانيون «خارج التغطية» «لو كانت هناك أحزاب حقيقية وقوية هنا، لأمكن إيقاف هذا الشخص عند حده، ولكن الأحزاب في الرماني لا تبحث إلا عن مصالحها»... هذه الخلاصة هي نتاج معاناة ساكنة الرماني، التي يقدر عددها بحوالي 12 ألف نسمة، والذين يعاني أغلبهم من الأمية، مع «صدام». لدى المنطقة ثلاثة برلمانيين، ولكنْ لا أحد منهم تكفل برفع شكاواهم إلى المسؤولين عساها تجد آذانا صاغية. وهؤلاء البرلمانيون هم بوعمر تغوان، عن حزب الاستقلال، ورحو الهيلع، الذي تنقل من حزب التقدم والاشتراكية إلى حزب الأصالة والمعاصرة مؤخرا، والحسين النعيمي، عن الحزب العمالي. «هم خارج التغطية»، يقول أحد الأشخاص بنوع من التهكم والسخرية. ثم يوضح أكثر طبيعة العلاقة بين السياسيين في المدينة و«صدام»، والتي تفسر إلى حد ما «التواطؤ» أو «غض الطرف» عن تصرفاته. يقول نفس الشخص: «ما يهم البرلمانيين هو أن يحافظوا على كراسيهم ومقاعدهم. «صدام» يقدم لهم خدمات في الانتخابات، عندما يطلب «صدام» من السكان أن يصوتوا لشخص ما، فإنهم ينقادون له ويخضعون، خوفا من عقاب يطالهم». لا يثق هؤلاء الذين تحدثت إليهم «المساء» في الأحزاب السياسية نفسِها، لأنها لو كانت لها نية في محاربة هذا الدركي لقامت بدورها في ذلك، لكنها «تغضّ» الطرف عن تصرفاته، ولذلك، عندما عمد هؤلاء الأشخاص لرفع شكاواهم إلى المسؤولين لم يتصلوا بتلك الأحزاب، واكتفوا بالاتصال بالجمعيات المدنية التي تنشط في المدينة أو ببعض المستشارين الجماعيين.