بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... يواصل الحاج فوقار النبش في ذاكرة الحي المحمدي ويرصد واقع الثقافة الشعبية في هذا الحي، فبعد أن رصد مظاهر الفلكلور وتأثيره في الحركية الفنية في الحي المحمدي، انتقل الحاج فوقار إلى مظهر ثقافي آخر، ويتعلق الأمر ب«الأعراس». في هذا الإطار، يقول فوقار في الصفحة 29 من بحثه المعنون ب«الأعراس» وأقصد بها على الخصوص الطقوس التي تقام في حفلات الخطوبة والزواج والعقيقة والختان وإتمام حفظ القرآن، وإذا كانت كل حالة من الحالات السابقة تختلف عن الأخرى في الطقوس، فإنها تبقى متشابهة، غالبا بالنسبة إلى المنطقة ككل، إلا ما يتعلق بالجزئيات داخل الأسر. ويتميز حفل الخطوبة غالبا بنوع من البساطة، حيث كان في مجمله لا يتعدى تقديم بعض الهدايا بواسطة أهل الخاطب، مصحوبين بمجموعة فلكلورية، لينتهي المطاف بحفل عشاء تتم فيه الخطبة مشافهة بين أولياء أمر المخطوبين، ولعل هذا التقليد كان محمودا، لأنه كان يلغي أي حاجز نفسي يحول دون الإقدام على الخطوبة، ولم يكن مكلفا من الوجهة الاقتصادية. وحسب ارتباطي إلى الآن بالحي المحمدي، فإن الزمن أصبح مختلفا، ذلك أن الخطوبة أصبحت الآن تكاد تتخذ حجم الزواج نفسه، وهو ما يخلق سوء التفاهم أحيانا بين أسرتي الخاطبين، وقد فوجئت ذات يوم بأن تلقيت دعوة من أحد قدماء الحي المحمدي الذي ستخطب بنته، لحضور الحفل في فندق «شيراتون»، فأدركت أن هذا الشخص يتخلى عن البساطة التي ضمِنَتْها لنا ثقافتنا الشعبية». ويضيف الحاج فوقار: «في ما يتعلق بحفلات الزواج، فإنها غالبا ما كانت تتميز وما زال بعضها إلى الآن بإقامة حفل في ساحة مجاورة لمنزل العريس أو العروس، على امتداد يومين: يوم خاص بالجانب الديني، حيث تتم تلاوة القرآن وتُنشَد أمداح نبوية، ويوم خاص بالفلكلور والأهازيج، وغالبا ما يكون كل ذلك منسجما مع البيئة الأصلية للعروسين. ودون الإطالة في الجزئيات المتعلقة بكيفية إقامة هذه الأفراح، وما يقع من خلاف بين أشكالها، حسب العادات والتقاليد المختلفة، فإنني أشير إلى أن بعض هذه المظاهر بدأت تتراجع عن الشكل الذي كانت عليه، بحكم التطور الذي أصاب الحياة، وبحكم تغيير الأجيال. وعدا بعض العائلات البسيطة التي مازالت تحتفظ بنفس النمط والسلوك البدوي، فإن مظاهر الاحتفال بالزواج أصبحت متشابهة تستفيد من التحولات الاجتماعية، وتستعير بعض الأشكال الغربية أو المشرقية البعيدة عن تقاليدنا المغربة، ويظهر ذلك جليا مثلا في اللباس الذي كانت ترتديه العروس ليلة الزفاف، والذي كان عبارة عن لباس تقليدي يسمى «الشقة»، حيث يستبَدل حاليا باللباس الغربي للزفاف أو بنماذج تقليدية مغربية ولكنها غير نابعة من بيئة العروس... أما الاحتفال ب«العقيقة» أو ما يسمى «السّْبوعْ» فهو الحفل الذي يقام بمناسبة تسمية المولود، بعد مرور أسبوع على ميلاده. وحسب علمي، فإن الأُسَر ما زالت تحتفظ في حالة إقامتها هذا الحفل بنفس الطقوس والمراسيم التي كانت تقام سابقا، وذلك نظرا إلى ارتباط هذه المناسبة بمجموعة من المعتقدات تكاد تستند في بعض منها على أرضية دينية، مثل ذبح أضحية غالبا ما تكون خروفا، ومثل إحياء حفل ديني لتلاوة القرآن وإنشاد الأمداح.. وعلى أي حال، فإن الأمر لم يتغير كثيرا إلا من حيث النقص في عدد الذين يُحيون هذا النوع من الاحتفالات. وعن حفل الختان، فإن جميع العادات التي كانت سائدة ما زالت تمارس خلاله اليوم، بل إنه ورغم ما أصبح يتوفر عليه الحي المحمدي من طاقات طبية مادية وبشرية، فإن العديد من الأسر مازالت تلجأ إلى نفس الوسيلة التقليدية في الختان والمتمثلة في «المْعلّم» -الذي عادة ما يكون حلاقا- ويقوم بنفس الدور، بل الأكثر من ذلك أن بعض الجمعيات والهيآت الإحسانية تقوم، بين الفينة والأخرى، بعمليات إعذار لأبناء الفقراء والمعوزين، وأول ما يطلبه الطبيب المكلَّف بالعملية هو الاستعانة بأكبر عدد من «المْعلّمينْ»، إذ إن معظم العملية تقوم على عاتق هؤلاء، وفي ظرف لا يتجاوز نصف يوم، وتشمل أكثر من 500 طفل.. وقد سألت ذات مرة الدكتور الحاج محمد الشرقاوي، وهو الطبيب الرئيسي في المنطقة، عن سر الالتجاء إلى الوسيلة التقليدية في الختان، فأكد لي أن هذه المجموعة من «المعلمين» الموجودين في المنطقة قد تمكنوا، بكيفية مذهلة، من عملية الختان، لارتباطهم بهذه المهنة وممارستهم لها في كل وقت وحين»... وعن الطقوس، يضيف الحاج فوقار: «أما عن الطقوس فيختلف الأمر حسب الإمكانيات من أسرة إلى أخرى، ولكن الجميع يشترك في انتقاء لباس من نوع خاص للأطفال، وهو نوع موحَّد في اللون، وقد يختلف في الجودة، ويشترك الجميع في إقامة حفل نسائي غنائي، وتنفرد الأسرة المتواضعة وهذا هو الأصل بإقامة حفل قرآني، بينما تنفرد الأسرة الميسورة بإقامة استعراض شعبي في الشارع العمومي، قوامه عزف مقطوعات موسيقية تؤديها مجموعات شعبية راقصة، بمساهمة الخيالة وباستعمال البارود. وباختصار، فإن أسلوب الختان ووسائله وطرقه لم تتغير عما كانت عليه، وحافظت هذه المنطقة على الطقوس المتميزة في المظهر الشعبي المرتبط في أذهان المواطنين بالجانب الديني، أما حفل ختم حفظ القرآن، فقد كان ظاهرة متميزة في المنطقة، حيث إن الأسر البسيطة التي كانت في معظمها محرومة من تعليم أبنائها في المؤسسات العصرية عملت على الاحتفال بالقرآن، وأدخلت أبناءها إلى الكتاتيب القرآنية، وقد كان من علامة هذا الاحتفاء أن التلميذ يلقى عناية خاصة حينما يُتِمُّ حفظه للقرآن الكريم. وقد عشت في صباي، مرات متعددة، مع مظاهر هذه العناية، حيث كان الآباء يقيمون حفلا بهيجا للابن كانوا يسمونه آنذاك «التّخْريجة» ولعلها كلمة محرَّفة عن «التخرج»، ويعني إنهاء مرحلة معينة من حفظ القرآن، وكان البعض يطلق هذا اللفظ على كل رحلة فاصلة بين كل حزب قرآني وحزب قراني آخر. وعلى كل حال، فإن هذا الحفل كان يتميز بتقديم هدايا إلى المعلم القرآني «الفقيه» تتمثل في لباس مكتمل، وفي تقديم بعض الأموال له، مكافأة على ما يبذله من مجهود في تحفيظ القرآن، كما يتميز بتلاوة سور القرآن الكريم والأذكار النبوية، تؤديها مجموعة من حفَظة القرآن. وغير خاف أن هذه العادة تكاد الآن تندثر، حتى في مصادرها في البوادي، فأحرى بها في المدن الكبرى، كالدار البيضاء، نظرا إلى ما تعلمونه من تطورات كبرى في بنية التعليم»...