بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... عند الحديث عن ذاكرة الحي المحمدي لا يمكن، في رأي العديد من المهتمين بتاريخ هذا الحي الشعبي، أن يتم إغفال اسم الفنان والمثقف الحاج فوقار، رئيس مؤسسة مسجد الحسن الثاني،.. هو الاسم الذي خصص دراسات وإصدارات تؤرخ للواقع المجتمعي والثقافي والسياسي للحي المحمدي، وعلى الرغم من ذلك، فهو مُقِلٌّ في أحاديثه ويفضل، بتواضع كبير، الصمتَ أحيانا. بعد محاولات عديدة لإقناعه بالحديث إلينا حول ذكرياته عن الحي المحمدي، تحدث الحاج ادريس فوقار، ل«المساء» قائلا: «عشتُ في الحي المحمدي وكان سيدي مومن، الحي الراقي الذي تُزيِّنه الفيلات آنذاك (وآثار ذلك مازالت بادية إلى يومنا هذا).. في فترة الستينيات من القرن الماضي، انتقلنا إلى عين السبع، وعلى الرغم من ذلك، لم يتقطع الود والعلاقة بيني وبين الحي المحمدي وسيدي مومن، بدءا بالعلاقات الإنسانية والروحية مع بعض الفضاءات، إلى جانب معطى متعلق بقضاء بعض الأغراض والمصالح الخاصة.. وهنا لا بد من التذكير بأنني حافظت على الحلاق (بَّا عْزّوز)، على الرغم من مرور السنوات.. ومن الطريف أن الأجر انتقل من 25 سنتيما في السابق إلى 25 درهما حاليا.. أتذكر في الحي المحمدي التأطير العلمي والسياسي والتوعوي، بصفة عامة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن البعد الوطني كان حاضرا، بامتياز، ويتجاوز المعطى الحزبي، إذ كان الهدف هو زرعُ روح المقاومة ومناهَضة المستعمِر.. وهنا يتوجَّب استحضارُ مجموعة من الأسماء التي ركبت رهان البعد التوعوي، من بينها عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان يقطن بدرب السلطان وكان يخصص دروسا لتثقيف عمال معمل «كوزيمار».. ومن الأشياء الطريفة أنه كان يُدرِّس الأطفال والآباء، وكان والدي من بين مستخدَمي «كوزيمار»، آنذاك. كما نشط هناك المقاوم محمد العبدي، الذي انتهى برتبة «خْليفة» في المحمدي، وعُيِّن كأول «خْليفة» في الحي المحمدي.. ومن الشخصيات المهمة، يمكن ذكر الهاشمي الفيلالي وحسن رضوان (العبدي)، إلى جانب أسماء كثيرة ساهمت، بوسائل مختلفة، في تقوية وتنمية الحس التوعوي في الحي المحمدي»... وقد خصَّ المؤلف ادريس فوقار الحيَّ المحمدي بدراسة متخصصة بعنوان «الحي المحمدي رافد من روافد الثقافة الشعبية»، ضمن ندوة «جوانب الثقافة الشعبية في الدارالبيضاء، التي نشرتها كلية عين الشق، وناقش فيها العديدَ من الجوانب المجتمعية والثقافية والفنية. في هذا السياق، يقول الحاج فوقار في الصفحة 26 من الدراسة: «اختار المستعمر الفرنسي في الدارالبيضاء المنطقةَ الشرقية من هذه المدينة لتكون حيا صناعيا، ابتداء من حي «الصخور السوداء»، الذي استقطب عددا من الجاليات الأجنبية، كالفرنسيين والإيطاليين والإسبان، باعتبارهم أطرا وحِرفيين وتقنيين في المؤسسات الصناعية التي أنشئت على امتداد ساحل المحيط الأطلسي من حي «الصخور السوداء» إلى حي عين السبع. وقد دفع إنشاء هذه المؤسسات الإنتاجية، الذي امتد خلال العقود الخمسة الأولى من هذا القرن، إلى استقطاب اليد العاملة، وخاصة من القبائل المجاورة أو القريبة من الدارالبيضاء، كالشاوية ودكالة وعبدة والرحامنة.. ونتجت عن ذلك تجمعات سكنية، إما أن تكون في أحسن أحوالها، عمالية، أو تجمعات قصديرية.. وباستثناء حي درب مولاي الشريف، الذي بني بصفة مبكرة على شكل منازل من طابق أو طابقين في أواسط العشرينيات، والذي هم على الخصوص طبقة التجار والميسورين آنذاك، فإن ما تبقى من المنطقة كان عبارة عن خليط من المجموعة السكنية «Blocs»، ومن الأحياء العالمية، كحي «بلاندو» وحي «سوسيكا» ومن المدن الصفيحية»... وأضاف فوقار: «كانت هذه التجمعات تضم عددا كبيرا من المهاجرين من البوادي والنازحين من المناطق التي كانت تصاب بين الفينة والأخرى بأزمات اقتصادية، خاصة في الفترات العصيبة التي مر بها المغرب، ما بين الحربين العالميتين. وقد كان أغلب هؤلاء النازحين يعمدون بعد حصولهم على العمل واستقرارهم في بيت أو كوخ إلى استقدام أهلهم وأقاربهم من نفس المنطقة، مما شكل تجمعات تكاد تكون أحيانا قبلية أو عشيرية تتبع في حياتها اليومية نفس الشكل ونفس التعامل، وتسير على الطقوس التي كانت تعيش وفقها في المنطقة التي نزحت منها، بل إن بعض المجموعات الصفيحية كانت تتكون من عائلات متجانسة متحدرة من نفس الدوار في البادية، مما كان يساعد على قيام أسلوب يتشابه في الحياة، إن لم يكن أسلوبا واحدا ينطلق من نفس المعطيات، ويتطلب نفس الحاجيات لقيامه»... و«سنرى، يقول فوقار، كيف أن ذلك سيؤثر في الحفاظ على مجموعة من العادات والأعراف التي تعتبر جزءا من الثقافة الشعبية ليس في الدارالبيضاء وحدها، ولكن في المغرب كله. غير أنه يجب ألا تفوتنا الفرصة في هذه العجالة دون أن نشير إلى أن هذه التركيبة الاجتماعية، بكل ما في الكلمة من أبعاد، أخذت بدورها تستقطب إليها نماذج أخرى من التراث الشعبي، وأهمها نموذج «الحلقة». وقد اشتهر الحي المحمدي على الخصوص خلال عقد الخمسينيات، سواء قُبيل الاستقلال أو بعده مباشرة بسوق خاص: تقام فيها الحلقة ومكانه الآن بمحاذاة شارع «فم الحصن» (زنقة لامنتواز، سابقا)، حيث كانت سوقا رائجة يفِد إليها عدد كبير من أقطاب الحلقة في المغرب.. ثم تمرْكز فن «الحلقة» في بداية الستينيات في المنطقة الجنوبية من الحي، وبالضبط قرب ما أصبح يسمى «كريان السوق» (قرب مستشفى محمد الخامس حاليا) إن صح التعبير لإقبال الجماهير عليها، نظرا إلى كونهم أناسا شعبيين، ذلك أن التلقي الجيد للحلقة هو أساس نجاحها»... يتبع