كأن التاريخ العربي يستأنف بدءا أول، يعود الى الوراء، يجبّ ألفا وخمسمائة عام خلفه صنع بعضُها القديم لتاريخ العرب شأنا. كأنه الى أولِّه البدوي يحن، ولكن من دون معلقات ومروءة وشجاعة وشدة بأس. نحن الآن في أول القرن الواحد والعشرين، نُخرج المكان العربي من زمانه، نعيده الى زمنه الخاص قبل أن يدخل في الزمان الكوني. نحن الآن في الصحراء الفسيحة التي لا تنتهي كتلك التي كان يهيم فيها البدو، يظعنون وينتجعون، ويقيمون مضارب الخيام على شبهة ماء أو كلأ شحيح. لا نختلف إلا في القليل الكثير: تاريخهم أمامهم وسيدخلون فيه ويصنعونه بعد حين، وتاريخنا وراءنا أشحنا عنه بالوجوه والعقول ومسنا الحنين الى ما قبله! كأننا اليوم هناك، في أمس يتجدد، في جزيرة العرب، بين سادة العصر: الفرس والروم، نمالئ هذا ونحابي ذاك كي نحفظ البقاء. لابأس من ممالك صغيرة نقيمها على أطراف الامبراطوريات لنحميها من غارات البدو. من نكون حتى نتطلع الى دور أكبر؟ ما نحن إلا قبائل وعشائر لا تجمعها رابطة إلا رابطة الدم. والدم عندنا ليس مقدسا: يمكن أن يُسفك عند الضرورة. ألا نسفكه في الثأر وعند الاقتصاص؟ لا حرمة لدم أحد منا عند الآخر، إن جعنا أغرنا على القوافل والخيام، وإن خشينا غضب كسرى وقيصر، أنزلنا أسيافنا في بعضنا كي يهدأ روع من يتبرعون علينا بالبقاء على حدود الاشتباك المؤجل بينهم الى حين! تلك حالنا اليوم مثلما كانت قبل ألف ونصف ألف من الاعوام في عهد التشرد والتفتت والاقتتال والمصير المبهم، بين أشداق فارس وبيزنطة العائدتين اليوم الى المكان والزمان. في ذلك الإبان قام فينا نبي عظيم، رتق الفتوق، وشق الأفق، وفجر في الناس الينابيع، ليصنع من البدو والقبائل أمة كسرت شوكة فارس والروم واقتحمت الآفاق وذهبت بدعوة التوحيد الى الأبعد. ليس في المشهد اليوم أنبياء، لعل الشيطان أكثر حرية في التصرف، في نقض ما قام على عصيان ندائه. ها أمة تعود الى ما قبلها، تتبدد، تنحل الى قبائل وعشائر وبطون وأفخاذ وطوائف ومذاهب، ها بيزنطة وفارس تحكمان ثانية هذا المِزق البشري! في لحظة من الألف وخمسمائة عام لحظتئذ خرجنا من البداوة ودخلنا في المدنية انتكست الروم وانكفأت وعادة تتخطف بعض ديارنا حاملة صلبانها قبل أن تجلو، ولم تلبث بعد كبوتها الثانية ان نظمت داخلها أكثر واستعارت مما تركنا على أطراف ديارها في الأندلس وصقلية من بعض كنوز العلم لكي تنهض نهضتها الكبرى منذ خمسمائة عام تابع 1 وفي لحظة من الألف ونصف الألف من السنين، ركعت فارس للفاتحين، أولئك الذين كانت فرائصهم لذكر اسمها ترتعد، والذين منهم كانت تؤلف جنود مرتزقتها لمواجهة غارات البدو. أخذت منا الحرْف وعقيدة التوحيد وأصهرت لأئمتنا وأمرائنا وكادت، في لحظة من وهن بني العباس، تحكم ديارنا جهرة بعد أن حكمتْها من وراء حجاب. وهي اليوم تعود لتأمر فتطاع بعد أن دخلت جيوش الروم الى بغداد. انصرم متغير الروم والفرس وعاد الفريقان الى الثابت فيهما: قوتان كبيرتان يخشى لهما الجانب. وغيرت العرب ثابتها القديم الى ثابتها الأقدم: مجموعة سكانية تهيم على وجهها في المبهم، لا أفق يفتحه أمامها الخيال. تصل الروم الى القمر، وتهيئ فارس نفسها لذلك فتصنع أحصنة الصعود في يوم قريب. أما العرب، فلها قمر في القصيدة يكفيها أن تصفه من بعيد. تتهيأ فارس والروم لتجديد عادتهما القديمة في الحرب، وتتهيأ العرب الى مجالس الرهان في الليل على من ينتصر.... عليها، فوق أرضها! وكما أن في جوف كل ثابت متغيرا، فإن ثابت العرب بين أمس الصحراء ويوم الخواء يخرمه بعض قليل من التمايز. ففي صورة التشابه الكلي بين الحالين ، اختلافات طفيفة في الملامح والقسمات لا يخطئ رؤيتها حذق: كانت عرب ما قبل الدعوة تتنقّل في المكان بحرية، فالمكان مكانها (= أرض العرب)، لا حدود ولا حرس أو أذونات بالدخول، وإن أحد وفد من قبيلة الى أخرى وارتضى العيش فيها، صار من أهلها، وبسطت عليه الحِِِمَى. أما عرب اليوم، فقبائلها تصطنع الحدود بينها وتمنع حق التنقل الحر على بعضها، وإن دخل عربي حوزة قبيلة من قبائل اليوم من غير إذن، أعيد الى موطنه من حيث أتى إن لطفت به الأقدار، أو أودع السجن الى أن يفعل الله به ما يشاء. وفي أخلاق عرب الزمان الاول نجدة الملهوف واستجابة نداء النصرة ممن سيم خسفا أو أصابه قرح، ويرتفع التردد في هذا والإحجام الى مقام العار الذي لا غُسل له إلا بالدم، أما في أخلاق عرب اليوم، فمتسع لخذلان الأخ وابن العم والكيد له إن دعت الى ذلك الحاجة كما لاشك يحصل اليوم في مصر من الأمصار يسمى فلسطين. أما العار في عقيدة هذا الزمان، فهو أن تؤخذ قبيلة عربية بجريرة النجدة والنصرة فتغضب الروم. وكان عالم الأعرابي الأول صغيرا تحده راحلته، لكنه في قصيدته كان أكبر، يتسع لكمية خرافية من المعاني البعيدة، أما عالم أعرابي اليوم، فأكبر من الكرة الارضية، لكنه في عقله أصغر: ماذا يستهلك، وكم يستهلك! بين اللحظتين فروق وتمايزات يضيق بذكرها المجال، لكن التشابه في المشهد مخيف جدا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.