حاول مؤلفا كتاب «السيرة: نبي الإسلام بلسان صحابته»، بهجت النادي وعادل رفعت- اللذين اختارا اسما مستعارا للتوقيع المشترك (محمود حسين)- أن يقدما «صورة واقعية وكثيفة وشاملة» عن سيرة النبي، من خلال الالتزام الصارم بمناهج البحث العلمي الحديث، بعيدا عن معياري «رواية الثقاة» و«القرب الزمني» اللذين-في رأيهما- يتصلان بطبيعة ميولات المؤرخين الفكرية، إذ يجنح البعض إلى «القراءة السياسية»، فيما يفضل بعضهم «الفعل الخارق» (المعجزة) أو «البعد الروحي» للحدث. وهذا ما أكداه بالفعل في مقدمة «هذا الكتاب». فهما يقترحان وضع الحدث في سياقه الشامل، أي عدم إبعاد أي عنصر له طابع تفسيري مهم، أو أي تفصيل غني بالمعاني التي تعضدها «القراءات» (التفاسير) المختلفة والمتاحة. عبد الله بن جدعان أحد وجهاء قريش المشهورين بمكة، وكان مسموعا مطاعا بين قومه، ومن بين أثريائهم الأجواد، وكان في بداية أمره متمردا شريراً مبغضاً لدى قومه وعشيرته وأهله، حتى أبوه، فأعرضوا عنه، فهام على وجهه في البراري، وشارك الصعاليك الذين خلعهم قومهم أو الذين انتفضوا عليهم فأصبحوا لصوصا يعيشون من السلب والنهب ويقيمون في الكهوف، وصاروا أعلم من غيرهم بكل شبر في الصحراء، حيث كانوا ينصبون الكمائن للقوافل فينهبونها ويفرون دون أن يتركوا وراءهم أثر. وفي ليلة، وبينما كان يبحث عبد الله بن جدعان عن مكان ينام فيه في شعاب مكة، فرأى شقاً في جبل فظن أن يكون به شيئاً يؤذي فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه، فلما اقترب منه إذا بثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان يقوتتان، فكسره وأخذه، ودخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم فلا يدري أين يذهب ! ووجد عند رؤوسهم لوحاً من ذهب فيه تاريخ وفاتهم ومدة ولايتهم وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة الشيء الكثير فأخذ منه حاجته ثم خرج وعلّم باب الغار (أي جعل له علامة) ثم انصرف إلى أبيه فأعطاه وطلب منه العفو، فعفا عنه وأعطى قومه حتى أحبوه وسادهم ، وجعل يطعم الناس، وكلما قلّ ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته ثم رجع، وكان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، واستمر كذلك إلى أن أصبح أثرى رجل في مكة. ولما كان تاجر عبيد، فإنه كان يتاجر في الجواري ويبيع أبناءهم، وكان يحتفظ بالبعض، كما حدث أن منح الحرية لبعضهم. ويروى أن أول من أطعم الفالوزج « بمكة عبد الله بن جدعان. فقد وفد عبد الله بن جدعان على كسرى فأكل عنده الفالوزج فسأل عنه: - مم يصنع هذا؟ فقالوا: -لُباب البُر يلت مع العسل. فقال: - أبيعوني غلاماً يصنعه. فأتوه بغلام فابتعاه فقدم به مكة فأمره فصنعه للحجاج، ووضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد ثم نادى مناديه: - ألا من أراد « الفالوزج « فليحضر. فحضر الناس بكثافة. ويروى أن بن جدعان كان يطعم كل من يلجأ إليه. وكان الطعام في جفنة كبيرة غرق فيها ذات يوم- على ما يحكى- صبي، وكان يأكل منها الراكب على البعير. وقد أكل منها محمد بن عبد الله. وفي الحديث أنه قال: « «كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان في الهاجرة». وكان عبد الله بن جدعان مغرما بالخمرة، وكان يحدث أن ينادم أمية بن أبي الصلت الثقفي. وفي يوم نهض بن أبي الصلت بعد ليلة خمرية، فلاحظ بن جدعان كدمة في عينه، فسأله: - ما هذا الذي على جفنك؟ فقال: - أنت لطمتني. فصُعق بن جدعان، وقال: - أو تذهب الخمر عقلي حتى ألطم رفيقي؟ فأعطى أمية ألفي درهم دية على اللطمة، وقال: - حرمت الخمر على نفسي. ولم يقرب الخمر بعدها قط. وكان أمية شاعرا معروفا، وكان يمدح بن جدعان الذي كان يجزل له العطاء. وفي يوم قدم على عبد الله بن جدعان؛ فلما دخل عليه قال له عبد الله: -أمر ما أتى بك! فقال أمية: -كلاب غرماء نبحتني ونهشتني. -قدمت علي وأنا عليل من حقوق لزمتني ونهشتني، فأنظرني قليلاً، ما في يدي، وقد ضمنتك قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه. وبينما كان يتناولان الطعام، جعل أمية بن أبي الصلت يمدح بن جدعان، وكانت معهما قينتان معروفتان في مكة، وكانتا تلقبان ب.. فقال: - خذ أيتهما شئت. فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا له: - لقد لقيته عليلاً، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتها، كان ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حق ضمنه لك. فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم، ورجع إليه ليردها عليه. فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: -لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها وقالوا كذا وكذا، فوصف لأمية ما قال له القوم. فقال أمية: - والله ما أخطأت يا أبا زهير. فقال عبدالله بن جدعان: - فما الذي قلت في ذلك: فقال أمية: [عطاؤك زين لامرىء إن حبوته ببذل وما كل العطاء يزين وليس بشين لامرىء بذل وجهه إليك كما بعض السؤال يشين] فقال عبدالله لأمية: -خذ الأخرى. فأخذهما جميعاً وخرج. ولما لقي القوم قال أمية: [ومالي لا أحييه وعندي مواهب يطلعن من النجاد لأبيض من بني تيم بن كعب وهم كالمشرفيات الحداد لكل قبيلة هاد و رأس وأنت الرأس تقدم كل هادي له بالخيف قد علمت معد وإن البيت يرفع بالعماد له داع بمكة مشعل وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزي ملاء لباب البر يلبك بالشهاد] وقال فيه أيضاً: [ذكر ابن جدعان بخي ركلما ذكر الكرام من لايخون ولا يع ق ولا تغيره اللئام نجب النجيبة والنجي] ولما رأت قريش ذلك من عبد الله بن جدعان أرادت أن تمنعه من تضييع ثروته. فذهبوا إلى كل من وهبهم شيئا وطالبوهم بإعادته إليه. فلما جاءه رجل منهم لطمه ثم دفع دية اللطمة، فامتنعوا عنه. وفي آخر حياته، تزوج عبد الله بن جدعان امرأة أرملة ثرية كان لها جمال وشبابة تسمى ضباعة. وعاشت معه ما شاء الله. وفي يوم، بيننا هي تطوف بالكعبة إذ رآها هشام بن المغيرة المخزومي فأعجبته فكلمها عند البيت وقال: -لقد رضيت أن يكون هذا الشباب والجمال عند شيخ كبير فلو سألته الفرقة لتزوجتك. وكان هشام رجلاً جميلاً مكثرا. فرجعت إلى ابن جدعان فقالت: -إني امرأة شابة وأنت شيخ كبير. فقال لها: -ما بدا لك في هذا أما! إني قد أخبرت أن هشاماً كلمك وأنت تطوفين بالبيت وإني أعطي الله عهداً ألا أفارقك حتى تحلفي ألا تزوجي هشاماً، فيوم تفعلين ذلك فعليك أن تطوفي بالبيت عريانة وأن تنحري كذا وكذا بدنة وان تغزلي وبراً بين الأخشبين من مكة وانت من الحمس ولايحل لك أن تغزلي الوبر. فأرسلت إلى هشام تخبره بالذي أخذ عليها فأرسل إليها: - أما ما ذكرت من طوافك بالبيت عريانة فإني أسال قريشاً أن يخلو لك المسجد فتطوفي قبل الفجر بسدفة من الليل، فلا يراك أحد، وأما الإبل التي تنحرينها فلك الله أن أنحرها عنك، وأما ما ذكرت من غزل الوبرفإنه دين وضعه نفر من قريش ليس ديناً جاءت به نبوة. فقالت لعبد الله بن جدعان: - نعم. لك أن أصنع ماقلت وأخذت على أن تزوجت هشاماً. فطلقها فتزوجت هشاماً.