سنحاول، عبر حلقات يومية، أن نرافق هنا قصة امرأة مغربية استثنائية، إسمها ثريا الشاوي.. ولمن لا يعرف ثريا الشاوي، فإنها كانت وعدا مغربيا جميلا، ومثالا مشرفا للمرأة المغربية، كونها كانت أول طيارة مغربية في زمن كانت حتى الطيارات الأروبيات والأمريكيات واليابانيات قليلات جدا، بل تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة. هي عنوان اعتزاز لكل مغربي، وإذ نستعيد ذاكرتها اليوم فإنما نستعيد جوانب مشرقة من ذاكرة المغاربة الجماعية. ورغم أنها قتلت في أول سنة للإستقلال، في واحدة من أبشع الجرائم السياسية في المغرب، فإنها بقيت خالدة، وطوى النسيان قتلتها. إننا سوف نرافق قصة حياتها، كما صدرت في كتاب جديد للأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بعد أن كان يعتقد أنه وثيقة ضاعت إلى الأبد، كون الطبعة الأولى للكتاب صدرت سنة 1956، باسم مستعار لشاب مغربي وطني طموح، هو الأستاذ عبد الحق المريني.. هي قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد، نسعد أن نقدمها للناس وللأجيال الجديدة.. لماذا قتلت ثريا الشاوي؟!.. من قتلها ونفذ الجريمة؟!.. لمصلحة من، ومن حرك الجناة؟!.. ألا يزال القتلة أحياء إلى اليوم؟!.. ألا يزال من هندس لعملية التصفية وحركها وخطط لها أحياء يرزقون؟!... أسئلة وأسئلة غيرها كثير تطرح منذ أكثر من 50 سنة، وليس هناك جواب واحد شاف ونهائي عنها. هناك تأويلات عدة، هناك قرائن، أما الأدلة القطعية التي تجيز الحكم الواضح والنهائي حول طبيعة الجريمة، فهي غير متوفرة. هي جريمة سياسية، ذلك ما لا يتناطح حوله عنزان، بلغة فقهائنا الأجلاء، لأن الغاية، كانت ضرب شابة مغربية كانت ترمز للكثير في المغرب الجديد الذي كان يصنع حينها في نهاية الخمسينات من القرن العشرين،، المغرب الذي ضرب ضربات متتالية في مقتل، كان جزء منها اغتيال وتحييد الشهيدة ثريا الشاوي، لما ترمز إليه من انطلاق ومثال. وكانت نتيجة تلك الضربات، أن غرق المغاربة في بحر من التخلف والنكوص والتراجع والأعطاب، لا تزال تأخد بخناق المغرب إلى اليوم، وتهدد استقراره الإجتماعي بشكل متواتر ودائم. إن للمعطيات المحيطة بجريمة اغتيال الشهيدة ثريا الشاوي، مكرها العجيب. فقد نفذت العملية يوم 1 مارس 1956، والمغرب نال استقلاله رسميا يوم 2 مارس 1955، أي على بعد يوم واحد من الذكرى الأولى للإستقلال. مما يعني أن من خطط ونفذ، لم يختر تاريخ التنفيذ اعتباطا، بل اختاره كي يوجه رسالة للمغاربة في يوم عيد استقلالهم. وكانت الشهيدة، النموذج المثالي لذلك، خاصة أمام ما أصبحت تمثله في المخيال العام للمغاربة، وفي ذاكرة الشعب. فقد كان المشهد العام للقيم بالمغرب آنذاك، موزعا بين رموز عدة، تحتل مراكز عالية في سلم الشرف عند المغاربة، وكانت تلك الوجوه وتلك الرموز فطاحلة في ميادينها المتعددة.. كان هناك الملك الوطني محمد الخامس، الذي بلغ القمر عند الناس، لأنه فضل الشعب على العرش، حين تمت مساومته على الإنصياع للمخطط الإستعماري الفرنسي، وأزيل من العرش ونفي مع عائلته، ونصب مكانه ملك جديد طيع وطاعن في السن وشديد الليونة حد الإنبطاح ( بن عرفة ). ولم تكن للملك الوطني محمد الخامس رحمه الله رحمة واسعة، أية ضمانة من أي نوع، أنه سيعود إلى عرشه. بل اختار في لحظة امتحان أمام ضميره أن يكون رجلا، فقط رجلا. وهذا هو الذي مجده في التاريخ، وجعل المغاربة يردون الدين الذي عليهم للرجل الذي كانه، فربطوا بين الإستقلال وعودته إلى الحكم، وكان الشعار: « ملكنا واحد، محمد الخامس »، مسنودا بالشعار الآخر « بن يوسف إلى عرشه »، فكان أن صنع المغاربة تجربة سياسية غير مسبوقة في تاريخ كل الملكيات العربية والإسلامية، وهي أن يصطف الملك والشعب في خندق واحد، في ما اكتسب شعارا مثيرا وعجيبا في تركيبته في معنى السياسة الدولية آنذاك، هو شعار « ثورة الملك والشعب ». لأنه تاريخيا، متى كان الملوك ثوارا، حتى أعطى محمد الخامس للتاريخ المثال، وأعطاه أيضا للمغرب وللمغاربة في سجل الشرف أمام باقي العالم. ولهذا كان الرجل رمزا في المغرب وفي العالم.. كان هناك الشهيد محمد الزرقطوني، رمزا ساميا للوفاء والتضحية والفداء، من خلال طريقة استشهاده رحمه الله، هو الذي كانت تتجمع عنده كل خيوط شبكة المقاومة المغربية، وخطى صوب الموت تاركا وراءه ثلاثة أطفال زغب الحواصل، بلا أمان واحد، أكبرهم في السادسة من عمره وأصغرهم في أسبوعه الثاني، والأوسط في سنته الثانية، مؤمنا أن أبناء بلده لن ينسوهم ( هل ذلك ما وقع فعلا؟!.. الجواب فيه بعض من المرارة، حتى وإن ترك لهم رأسمالا لا يقدر بثمن، أنهم سلالة اسم خالد في الزمن والشرف، وأنهم مثله في نهاية المطاف قاموا بشرف وبإباء بالمقاومة من أجل مكان آمن تحت الشمس ).. كان هناك صف طويل من فطاحلة السياسة والعمل النقابي والعمل المسلح المقاوم، نذكر منهم علال الفاسي، أحمد بلافريج، المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، محمد الفقية البصري، شيخ الإسلام بلعربي العلوي، عبد الرحمان اليوسفي، الطيب بن بوعزة، عبد الخالق الطريس، محمد بلحسن الوزاني، عبد الله كنون، المختار السوسي،،، كان هناك أبطال الرياضة ورموزها الكبار، عبد السلام، العربي بنمبارك، البطاش وغيرهم كثير،، كان هناك ريبرتوار هائل لرموز تصنع صورة المغرب الجديد الناهض، ويصنعها.. وكانت بينها جميعها شابة وحيدة إسمها ثريا الشاوي. كانت هي الأنثى الوحيدة التي « تنافس » ذلك الصف الطويل من الذكور الرموز الكبار. ولهذا حين ضربت، فإن من اختارها كان يدرك أن الضربة موجعة على أكثر من صعيد، وأنها ذات معان متراكبة. هل نجح؟!.. في الذاكرة الحية للمغاربة، أي ذلك الصف الطويل من الناس الطيبين، لم ينجح المخطط، لأن ثريا عاشت، وسكنت الأغنيات والقصص وحكايا الناس، وظلت خالدة في ذاكرتهم أنها أول طيارة في المغرب. رسميا، كان هناك الكثير من العقوق والنسيان. مثلا، كيف لم يفكر أحد أن يطلق اسمها على أي من مطارات المغرب؟!، أقله مطار « تيط مليل »، على صغره، والذي له رمزيته العالية، لأنه فضاء تكوينها وتخرجها؟!.. لماذا لم يطلق اسمها مثلا على مطار النواصر، الذي لا يزال العمل به قائما، بمنطقة أولاد صالح، جوار مطار محمد الخامس الدولي بالدارالبيضاء؟!. ألن يكون للأمر رمزيته الهائلة: مطار ثريا الشاوي، بجوار مطار محمد الخامس؟! أليسا معا، عنوانين للشرف العالي في المغرب، كل في سياقه ودوره ومكانته المحفوظة في دفتر الأيام وذاكرة التاريخ؟!. الحقيقة، أن قيمة كتاب الأستاذ عبد الحق المريني، العالية، أنه اليوم الدليل الوحيد المادي الملموس، على الوفاء الذي خصص لهذه المرأة المغربية. إنه يكاد يكون لحظة الوفاء الوحيدة اتجاهها، وهو بذلك يستحق التقدير العالي، لأنه كتاب وثيقة. وفي ذلك الكتاب، نتوقف عند تفاصيل غاية في الأهمية، حول الخطر الذي كان يحذق بالشهيدة، من خلال كم محاولات الإغتيال التي كانت ضحية لها. لنفسح المجال للكتاب أن يتحدث بنفسه عن ذلك، حيث نقرأ في الصفحة 112: « فلتت ثريا الشاوي أربع مرات من الإغتيال: 1 في أوائل نونبر 1954، وضع إرهابيون فرنسيون قنبلة بباب الفيلا التي كانت تسكنها، بشارع اليسكاندر مالي. فألحقت بها خسائر جسيمة، ولم يصب أحد. 2 وفي يوم من أواخر دجنبر، بعدما أدخلت سيارتها الى المستودع برفقة والدها، واتجها الى منزلهما الكائن بين طريق «بيرجوراك»، وطريق «تميرال»، أطلقت عليهما ثماني طلقات من رشاشة أوتوماتيكية، ولكن لم يصابا. 3 وفي غشت 1955، حاولا شرطيان فرنسيان إطلاق النار عليها وهي بداخل سيارتها صحبة والدتها، ولكن الجماهير احتشدت، فاختفى المجرمون، وأخذوا ذيل الفرار. 4 وفي شهر شتنبر 1955، أوقفها شرطيان، لما كانت مارة في سيارتها، وأمراها بأن تحملهما الى المكان الذي يريدانه، فامتنعت. فهدداها، فأبت. فاجتمعت الجماهير، فقلبوا لها ظهر المجن، واتهموها بمخالفة قانون من قوانين المرور، ثم خليا سبيلها. وتحقق فيما بعد أن الشرطيين إرهابيان، وإنما ارتديا بذلة الشرطة لينفذا خطتهما علانية. فأرسلت رسالة الى المقيم «لاكوست» هذا نصها: « سعادة سفير فرنسا «لاكوست». إن أيام المحنة والحوادث الدموية، التي يعيشها المغرب منذ 20 غشت 1953 لتزداد تفاقما وخطورة. وإن لهذه الحوادث المؤلمة لعواقب وخيمة، في الميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لهذا يجدر بنا أمهات وفتيات المغرب، أن نتقدم إليكم بطلب إيجاد حل للقضية المغربية المشروعة حسب مطامع المغاربة، وتحققوا لهم أملهم المنشود في عودة الملك الشرعي، مولانا محمد الخامس نصره الله وأيده. كما نرجو من سعادتكم أن تسعوا لدى الحكومة الفرنسية، بأن تطلق سراح جميع المعتقلين السياسيين، حتى يتسنى للمغاربة أن يحتفوا بعيد الاضحى المبارك تحت قيادة ملكهم المعظم سيدي محمد بن يوسف أيد الله ملكه، وفي جو يملأه العدل والثقة والاخوة والسلام. فلنا كامل الثقة في حسن نية الوزير، «مانديس فرانس» ووزير الشؤون التونسية والمغربية. وفي سعادتكم للسعي وراء تنفيذ هذه الرغبات. وبهذا يرجع الهدوء الى نصابه، ويعم الهناء أطراف البلاد المغربية، وبهذا تكونوا قد أديتهم خدمة جليلة للمغرب ولفرنسا. وإليكم في الاخير يا سعادة السفير أجمل التحيات. الدارالبيضاء في 4 غشت 1954 الإمضاء: الطيارة ثريا الشاوي». ثم جاء يوم التصفية والجريمة الجبانة، التي نفذتها مجموعة أحمد الطويل، التي كانت جماعة أشبه بمافيا جديدة في المغرب آنذاك، تقدم خدمات لمن يدفع سواء للسرقة أو الترويع أو القتل. ومن الوقائع المثيرة التي تؤكد تورط هذه المجموعة في عملية الإغتيال، تلك الشهادة التي كانت قد صرحت لي بها السيدة فاطمة التهامي، التي تعتبر أول مولدة في المغرب تخرجت من جامعات باريز والجزائر سنة 1948 ، حين اختطفت صبيحة الإغتيال وشرع في تنفيذ مخطط تصفيتها، بحضور أحمد الطويل، لولا أن صاح في عصابته بعد أن حضر لمشاهدتها في مكان احتجازها، منبها أنهم أخطأوا في السيدة المقصودة، فظلت معتقلة عندهم 48 ساعة حتى نفذت عملية الإغتيال ( شهادة نشرتها بالجريدة منذ 6 سنوات ). وكانت عصابة أحمد الطويل، تحتمي بأن ذلك يتم باسم المقاومة من باب خلط الأوراق وتلويث صورة المقاومة ( التي ارتكب العديد من أفرادها أخطاء غير مبررة حينها في ذلك الزمن المتراكب والساخن، والتي لن يحكم عليها سوى المؤرخون الأقوياء بالتحليل العلمي المفحم ). فكان أن عاش المغرب أول جنازة سياسية كبرى، في أول سنة لاستقلاله، شيع فيها ابنته ثريا الشاوي صوب المجد والخلود في ملكوت الله الواسع. لقد ولدت يوم جنازتها الكبيرة، ثريا الشاوي الرمز. وحول ظروف الإغتيال وتفاصيله لنترك للوثيقة التاريخية الأقرب للحظة أن تتكلم، حيث كتب الأستاذ عبد الحق المريني، الشاب الأديب والصحفي حينها يقول: « في عشية فاتح مارس 1956 غادرت ثريا معهد الاميرة آمنة على الساعة السادسة والربع [ يقصد معهد الأميرة للا أمينة الذي كانت ثريا الشاوي من مؤسساته رفقة نساء مغربيات مميزات ]، بعدما ودعت شريكاتها في العمل. وقالت لهن، اني على أحر من الجمر، اني أريد أن أرى ثمرة كفاح الشعب المغربي الابي، إني أريد أن أسمع ميلاد الاستقلال بيدي. ثم امتطت سيارتها مع أخيها واتجهت نحو المنزل الذي يبعد عن المعهد ب 250 متر على التقريب. فعند وصولها الى باب المنزل نادت أمها، واخبرتها بأنها على موعد مع لجنة «نادي الطيران الملكي»، في الساعة السادسة ونصف. ولكن في نفس اللحظة، أي في الساعة السادسة وعشرين دقيقة كان أمر الله قدرا مقدورا. وأسلمت ثريا الروح الى العلي القدير. لقد أتاها القاتل الغدار من الوراء، وضرب الضربة القاضية [ بطلقة مسدس واحدة على مستوى الرأس المحرر الصحفي - ]. يا لجبن الاستعمار! يا لخساسة القتلة! يا لخدع المكرة! ان الذي يريد ان يقتل او يقاتل، فله ان يأتي من الأمام، ويكون وجها لوجه مع خصمه اللذوذ. أما إذا كان هذا الخصم فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولن يجرأ المعتدي ان يتقدم امام ليضرب ضربته بل يأتيها في الخفاء فذلك أكثر ما يتصور من الدناءة والغدر والجبن! وبعد هذا الاعتداء الفظيع امتطى المجرمون سيارتهم وأخذوا طريق الفرار فاجتمعت الجماهير على جسد الفقيدة وحملوه الى المستشفى وقدمت الشرطة على جناح السرعة واحتلت الحي الذي يوجد فيه بيت الفقيدة. ومن هاته اللحظة لم تفتأ الوفود تتوارد على والدي الفقيدة حتى السادسة صباحا من يوم ثاني مارس يوم عيد الاستقلال. وفي التاسعة ليلا حضر عامل البيضاء وقدم تعازي جلالة الملك المفدى الى والد الفقيدة». لابد في الختام من التوقف عند الدور الذي لعبته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث في نفض الغبار عن ذاكرة الشهيدة ثريا الشاوي، من خلال العمل التنظيمي والجهد الكبير الذي بدله نجل الشهيد محمد الزرقطوني، الكاتب العام للمؤسسة عبد الكريم الزرقطوني، في إحياء أول مهرجان للمرأة المغربية المقاومة، وفي إصدار هذه الوثيقة التاريخية الهامة، مما يتصالح وذات الدور في الوفاء والتضحية الذي كان يميز والده الشهيد رحمه الله ( وهذه شهادة لابد من أن أسجلها من باب الواجب الأخلاقي ومن باب الإعتراف بكل عمل صالح ونسبته باعتزاز لمن يستحق شرفه ). لقد التأم حينها جمع من الفاعلين، ضمنهم أعضاء من عائلة الشهيدة ثريا الشاوي، خاصة شقيقها صلاح الدين الشاوي، الذي شهد مقتل شقيقته، لأنه كان معها في السيارة ( ألقى كلمة العائلة بالنيابة ابن عمها الأستاذ نجيب الشاوي )، وكذا عدد من النساء الفضليات ( نجاة المرابط، خديجة مكوار بلفتوح ) اللواتي يضم الكتاب شهاداتهن حول الشهيدة، وهي شهادات غنية بالمعطيات ومثقلة بروح الوفاء لما ترمز إليه ابنة الشعب: ثريا الشاوي. ٭ انتهى.