لما علمت قبيلة جرهوم، التي كانت تعاني من القحط، أن العماليق استقروا بالوادي، وبأن هناك أراض خصبة ومراع كثيرة، التحقت بهم. حلت قبيلة جرهم بالوادي واستقرت بدورها في مكة التي ازدهرت، كما اتخذ إسماعيل إحدى بناتها زوجة له. استأذن ابراهيم، مرة ثانية، زوجته سارة لزيارة ابنه إسماعيل، فأذنت له، لكنها اشترطت عليه، بسبب غيرتها الشديدة، أن لا ينزل عن راحلته عندما يبلغ مكة. عند وصوله إلى مكة، ذهب ابراهيم إلى بيت ابنه الذي لم يكن كالعادة في البيت، لأنه ذهب لرعي الغنم والقنص. لكنه وجد زوجة إسماعيل الجديدة. حياها فردت عليه التحية ورحبت به واستقبلته بطريقة حسنة. سألها عن أحوال زوجها ، فقالت له: - لقد ذهب ليأتينا بما نحتاج إليه. -كيف هي أحوالكم؟ وكيف هي أحوال معيشتكم؟ - نحن على أفضل حال، والخير وفير. - ماذا تأكلون؟ - اللحم. - وماذا تشربون؟ - الماء. - ليبارك الله لكم في طعامكم. طلبت زوجة إسماعيل من ابراهيم أن يترجل عن راحلته، لكنه رفض. فألحت عليه في الطلب، فلم يذعن. فقدمت إليه الحليب وشطائر من اللحم، فدعا ابراهيم ربه ليباركها. أخرجت الزوجة حجرا من البيت ووضعته تحت قدم إبراهيم اليمنى فداس عليه ورفع رأسه في اتجاهها فربتت على رأسه من جانبه الأيمن وذهنته بالشحم، ثم رفعت الحجر من مكانه لتضعها تحت قدم ابراهيم اليسرى، فداس عليه ابراهيم الذي أمال رأسه إليها، فدعكت شعره من جانبه الأيسر وخللته بالشحم. ولما انتهت، استعادت الحجر ووضعته في مكانه. ولما لمحت عليه أثر قدمي ابراهيم، استعجبت، فقال لها: - احتفظي بهذا الحجر الكريم اسما ومسمى. وقبل أن ينصرف، أضاف: - إذا عاد إسماعيل، قولي له إن ابراهيم يقرئك السلام ويوصيك بأن تحتفظ بعتبة بيتك، فهي الأفضل. لما عاد إسماعيل، سأل زوجته: - هل جاء شخص هنا؟ - نعم. رجل مسن ذو هيئة حسنة. سأل عن أحوالك فأجبته. سألني عن أحوال معيشتنا فأجبته أننا في أحسن حال. - هل أوصاك بشيء؟ - لقد أقرأك السلام، وأوصاك بالحفاظ على عتبة بيتك. - إنه أبي. وعتبة بيتي هي أنت. أوصاني أن أتمسك بك. مر وقت قصير، ثم عاد ابراهيم فوجد ابنه إسماعيل يبري السهام قرب بئر زمزم. وما إن أبصره إسماعيل حتى هرع إليه واستقبله بحفاوة شديدة تليق بمقامه، فقال له إبراهيم: - يا إسماعيل لقد كلفني الله بمهمة. - يا أبتي افعل ما تومر. - هل ستساعدني؟ - سأساعدك. فباح له إبراهيم بالمهمة: - لقد كلفني الله أن أبني مسجدا هنا. ثم أشار بأصبعه إلى مرتفع. وفي الحال، شرعوا في بناء الكعبة. كان إسماعيل يأتي بالحجارة من الهضاب المجاورة، بينما كان إبراهيم يرفع البناء. ولما أصبح مرتفعا شيئا ما، أتى ابراهيم بالحجر الذي يحمل أثر قدميه، فثبته وأكمل حوله البناء. وكان إبراهيم وإسماعيل يرددان وهما منهمكان في العمل: - ربنا تقبل منا فأنت السميع العليم. كان إبراهيم يريد بناء الكعبة بطول ثلاثين ذراعا، وبعرض اثني وعشرين ذراعا، وبعلو تسعة أذرع. ثم جعل لها بابا، وترك البناء بدون سقف. لما انتهى إبراهيم من بناء الكعبة، أمره الله أن يدعو الناس للحج، فسأل ابراهيم ربه: - ربي، إلى أي مدى سيصل صوتي؟ فأوحي له الله: - نادهم، وسأبلغ نداءك. فصاح إبراهيم: - يا قوم أدعوكم جميعا للحج إلى البيت العتيق. فسمع نداءه من طرف كل الموجودين ما بين السماء والأرض.