ثمة مفارقة تستحق التأمل تنطلق من عنوان «عصر الحوارات» الذي فضل عدد من المفكرين إطلاقه على عصرنا الحالي، استذكارا لعناوين أخرى من نوع حوار الشمال/الجنوب، الشرق/الغرب، الدول الصناعية/الدول النامية. وإذا كانت جميع هذه الحوارات تصب في هدف واحد، وهو بلوغ عالم مزدهر، تسوده قيم السلام والمحبة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن العقيدة واللون، الأصل والفصل، إلخ. أما المفارقة، فإنها تتجلى في أن هذا يمكن أن يسمى «عصر الحوارات الدامية» كذلك، إذ آثر الإنسان، كما يبدو، أن ينزف، سوية مع أخيه الإنسان. ضمن هذا السياق المؤسف الذي نلاحظه حال متابعة أية نشرة للأخبار، يأتي الحديث عن حوار الأديان، وهو حديث طيب بقدر تعلق الأمر بأهدافه السامية التي تتبلور في رؤيا إنسان «معولم» قادر على أن يحيا مع سواه من البشر دون ملاحظة الفروقات الدينية أو المذهبية، كدافع للعداء أو للإرهاب والجريمة. ومع هذه الرؤيا السامية ينبغي أن نباشر عدداً من الأسئلة المهمة، ومنها: ما معنى حوار الأديان، وماهي الأديان التي ينبغي أن تدخل الحوار الآن؟ من يحاور من؟ ما الهدف النهائي لمثل هذا الحوار؟ أول ما يقفز إلى رأس المتأمل في مثل هذه الأسئلة هو أن مثل هذا الحوار ينبغي أن يقوده رجال الدين الذين يمثلون كل معتقد أو نظام روحي. وللمرء أن يتوقع أن مائدة حوار، إذا ما فرشت اليوم، ستكون مثالا للمحبة والتعايش والأواصر المشتركة، خاصة إذا ما عقدها كبار رجال الدين من أديان متنوعة. وقد حدث مثل هذا النشاط عبر التاريخ، كما هي عليه الحال في «برلمان الأديان» الذي عقد في مدينة شيكاغو في القرن التاسع عشر، على هامش معرض شيكاغو التجاري، إذ تمكن المضيفون الأميركان من استقدام عدد من رجال الأديان الكبرى من آسيا وأفريقيا وأوروبا للجلوس سوية وللقيام بمناظرات دينية أمام الجمهور الأميركي. كما أن حواراً آخر شبيها قد حدث في نفس القرن بين الطوائف الإسلامية، برعاية وتنظيم الوالي العثماني في بغداد، وقد سمي الاجتماع ب«مؤتمر النجف» الشهير الذي أرخ له العلامة الراحل الأستاذ علي الوردي في أحد مجلدات (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تمكنت هذه الأنشطة من تجاوز تفاهمات رجال الدين كي تشيع مفاهيم المحبة والتعاون بين سواد الناس من أتباع الأديان المختلفة؟ جميع الأديان تدعو إلى التسامح والمحبة والتعايش في جوهرها. إلاّ أن الاختلاف يأتي من الجهلة الذين يركبهم شبح التعصب والعصبية درجة الانجراف في تيار الكراهية والضغينة. إن عصراً ذهبياً للتنوع والتعايش الديني كان قد تحقق في بغداد العباسية عبر العصر الوسيط، إذ اجتمع في هذه المدينة الكوزموبوليتانية أتباع مختلف الأديان تحت مظلة الإسلام المتسامح، باحثين عن لقمة العيش وعن فرص التفوق والإبداع، بالرغم من أن غير المسلمين كان يتوجب عليهم ارتداء ملابس خاصة تفرقهم عن عامة المسلمين. وقد كان «بيت الحكمة» العباسي أنموذجاً لهذا التعايش، إذ أنه كان يضج باليهود والمسيحيين وحتى الزرادشتيين والمجوس والهندوس من مترجمين وأطباء وعلماء وفلكيين تحت خيمة الخليفة العباسي المأمون الذي كان يهدف من وراء توظيفهم الإفادة من علوم الأعاجم وغيبيات الجميع على طريق بناء واحدة من أرقى حضارات التاريخ، الحضارة العربية الإسلامية.الآن نلاحظ ثمة يقظة للتعصب الديني والفرقي والفئوي، وهي من نتائج التنافسات السياسية التي تقود دوماً إلى سيادة قانون «فرق تسد» من خلال توظيف التعامي المتعصب للتنافس بين الإنسان والإنسان، المعتقد والمعتقد. إنه عصر يقظة الولاءات الصغيرة والمجهرية التي تبقي القوي قوياً والضعيف ضعيفاً إلى ما لا نهاية. * أستاذ محاضر في جامعة ولاية أريزونا > عن «منبر الحرية»