شكل النص الأدبي مدخلا وجدانيا في التعاطي مع قضايا فلسطين، كما لعب دوراوازنا في تطوير وعينا السياسي واستيعاب حجم معاناة الشعب الفلسطيني،الذي قدم الكثير من التضحيات الجسيمة عبر نضال مستميت وعزم قوي في الحفاظ على هويته وتطور مقاومته. كان الشعرفي مقدمة التعبيرات التي أثرت في تفاعلنا المباشر مع المقاومة الفلسطينية، ومن خلاله تمكنا من صياغة مختلف الشعرات والصيغ النضالية للتعبير عن عمق التضامن والانخراطالميداني أحيانافي تقوية مواقع المقاومة وتحقيق انتصاراتها. الصياغات الشعرية لمحمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم شكلت مقدمة لمساهمات الشعراء الذين بسطوا ملامح القضية الفلسطينية وحجم المعاناة في صيانة الهوية الوطنية وتأكيد الحق في الوجود والاستقلال. على مستوى آخر كان أميل حبيبي وغسان كنفاني أبرز الروائيين في تحقيق المتن الروائي لموقع متميز في سرد جوانب من معاناة أجيال وصمود عنادهم للدفاع عن حقهم في الوجود، فبلو البلاء الحسن لتأكيد العزم الجماعي في استعادة حق ودرء عدوان. في تفاصيل مسار المعاناة وشموخ الصمود والمواجهة، تألقت محكيات تبسط الوقائع كما عاشها بكل معاناتها أشخاص من مختلف الأعمار والأجناس، في ظل احتلال عنصري يستهدف اجتثاث الانسان وسد كل آفاق انعتاقه واستقلال قراره. فكان القلم سلاحا لفك الحصار وكشف المستور في كل ما يعيشه الفلسطيني والفلسطينيةالماسكون على الجمر. في المجموعة القصصية « ناس قد تعرفهم « للأستاذة سلمى الريس، يقف القارئ على بعض من تفاصيل المعيش اليومي لنساء ورجال، يعانون من عسف مستمر بأشكال مختلفة واضطهادمتعدد على أعلى درجة من القسوة والاستهتار. في المقابل تقربنا المجموعة أكثر من حدة وصلابة المواجهة وتحدي كل أساليب الإقصاء والتهميش. صمود بطولي يشوبه بعض التردد وضعف الهمم حين تنهار قيم الانتماء عند بعض ضعاف النفوس. المجموعة القصصية تضم سبعة عشر حكاية أو واقعة، تختلف في شكلها وسرد وقائعها، وتطفح كلها بقوة الإصرار على مواصلة المواجهة، بإيمان قوي وتحد شجاع في مواجهة كل الأعطاب، كشف المترددين والمندسين لزرع الخدلان. في مطلع الحكايات المرصودة، عرض لأقصى الممارسات الظالمة حيث تتجلى بشاعة الاحتلال. هدم البيوت على ساكنتها لإرغامهم على المغادرة والاستسلام للاحتلال، توسيع النفوذ الاستعماري بالمزيد من الاستيطان. فعل اجرامي يهدف الاستئصال وطمس الهوية الوطنية لأصحاب الأرض وما تحبل به من تاريخ عريق، نسجته إرادة نساء ورجال وأطفال. « الله يخرب بيوتهم كما يخربون بيوتنا « صرخة عكست لحظة إرهاب قاسية عصفت بأحوال عائلة وبعثرت كل مقومات استقرارها، تفقد الجدة صوابها ويتيه الأحفاد في صمت يعصف بوجدانهم ويلفهم شجن بما هو آت.يتداول الجيرانمواقف يشلها صخب المعاناة، يدثرون أحزانهم بتعاضد في حده الأدنى، يفتحون بيوتهم لتضميد الجرح وتحمل بعض من أعباء الوزر. لا تحد الأشجان من فسحة الأمل في غد تبزغ فيه شمس الحرية ويتحقق النصر، لا الهدم والزج في السجون يحد من أنفة الفلسطيني وعزته بنفسه، يخلق السعادة بين الحطام ويواصل شغفه بالحياة، يجدد سلالته واثقا بأن تباشير النصر تلوح في توالي فورة الأجيال. تقام أفراح وتعد ولائم، تنساب الحياة في أوصال مجتمع يعج بكل معالم العطاء. فالحكايات في سردها تبسط كل معاني الحياة من خلال وقائع تحاكي في تفاصيلها ما تتسم به شروط العيش بكل قسوتها، كما تفتح نوافذ على مباهج الروح وما تضج به الأيام من متاعب وانشغالات العيش الكريم. هي آيات تتلى في سياق الزهو بانسياب العطاء: لابد أن نبتسم لتمتد في الدماء قطرة حياة، ومعانقة ضياء الشمس ومسامرة الجليد، في الخبر ستار شفاف يتيح رؤية غزال وفي ذيل الواوي يرفع الستار عن وجه جاسوس انهار أمام الأحلام المطوية على ما تحبل به الأيام، تجانب خواجة الحالم بالسفر البعيد. في آخر الموجة تلوح الأهوال وعلى الطاولة السادسة يمتد زمن الانتظار فيستحيل الرحيل وعندما نصادف ناسا قد نعرفهم نستهوي أجواء المكان فتنجلي جمالية تضاهي فضاءات عريقة في المدى، لا ملاك في القفص فأفراحنا الصغيرة انطلقت لتأكد أن صمود الأحفاد يضاهي صولة الأجداد. هيتركيبة من الأحداث تطفح بالحياة تحيل عل تاريخ شعب جبار، عاركته الأهوال واستعصى عن الاستسلام. حقائق ومآثر دالة على النضال المستمر لمواجهة كل أشكال العسف والاضطهاد.من خلال القص تنخرط الأستاذة سلمى الريس في المسار النضالي للشعب الفلسطيني، تختار الحكيبالكتابة لتكشف عن كل ما يمور في المجتمع الفلسطيني، بإبراز أعطابه وبطولاته،وفضح ما يتعرض له من انتهاكات لكل الحقوق في محاولات يائسة للاجتثاث. هي الغزاوية التي عاينت منذ الطفولة أحداثا ووقائع،تركت أثرها البالغ في وجدانها، وظلت تحفظ وقعها البالغ في ذاكرة أشجانها، فكان القلم حين اكتملت رؤيتها،وسيلتها في مواصلة ما افتتحه رواد الكلمة الذين واللواتي انخرطوا بكل فعالية في التحريض على المواجهة والتصدي لكل أشكال العدوان. هكذا انتهت إلى أن تضع بين أيدينا أعملا إبداعية بمستوى عالي من الصياغة الأدبية واللغة العربية الرصينة. في سياقات الحكي تختلف الصيغ، وتتعدد كيفية تقديم المشاهد واللحظات المعاشة للحيوات، وهي في قمة معاناتها أو في أبهج لحظاتها. عوالم تتباين في ردة أفعال شخوصها مع الإحالة على الواقع العام الذي يظل في خلفية كل المشاهد، وهو ما يجعل القارئ يقترب أكثر من تفاصيل المعيش اليومي لشعب مضطهد، يخترق بصموده كل ما يسعى الغاصب إلى الجز به في غياهب الانصياع والاستسلام. كثيرة هي الصور والمشاهد الدالة، التي تطفح صيغها بجمالية في ترتيب التفاعل مع الأحداث وسياقاتها والوقوف على انسيابية الحياة في مجتمع يحمل مواطنوه كل معاناتهم يلفهم عشق الحياة. « مصمصت العجوز شفتيها ثم انطلقت: (بنات هاته الأيام لا يحبلن إلا بطلوع الروح، هذا كله من السراويل الضيقة، كنا نحبل من الهوا الطاير، زوجي كان مطارد، وكان يجيء مرة كل ستة أشهر، ومع ذلك أنجبت سبعة، بنتين وخمسة شباب في عين العدو، ثلاثة منهم في الحبس، أقل واحد على كتفه ثلاثة نياشين، كل مؤبد بنيشان، وأنا أدور طوال الأسبوع من حبس لحبس لزيارتهم، الله يرضي عليهم ويفرجها عليهم وعلى الشباب كلهم» (قطرة حياة) « استيقظت بعد نوم متقطع يغص بالكوابيس. أبقيت على عيني مغمضتين وأنا أحاول ترتيب أحداث مبعثرة عشتها في أحدها. أنا في غرفة متسعة، على الأرض صناديق كثيرة، كلها مغلقة بالأقفال، أنادي أحلام، ولكن الصناديق صامتة ولا تنطق، لا أعلم لماذا في الحلم كنت أتوقع من الصناديق أن تتكلم، أشعر ببرد شديد فأدخل أحد الصناديق لأجد أحلام هناك. تبتسم وكأنها كانت تتوقع لقائي بينما يغمرني شعور بالراحة، لأني أحس بالدفء، ولأني وجدتها أخيرا.» على منوال هذه المقاطع التي وقفت عندها، يتوالى الحكي في مجمل القصص، حيث تتقابل الرهبة والثقة الزائدة بالنفس، في استقبال ما هو آت بكل جلد وإصرار على التحمل والمواجهة.هي صيغ متعددة تجعل المجموعة تحبل بنفس سردي خاص يتميز بالواقعية وتأكيد العزم على مواصلة المواجهة والتحدي حتى النصر الأكيد.