تعتبر رواية «حين يزهر اللّوز» الصادرة حديثا عن منشورات دار الفاصلة (ط 1-2020)، أوّل عمل روائي في السجلّ الإبداعي للنّاقد المسرحيّ المغربي محمد أبو العلا الذي دأبت مؤسسة الأدب على تصنيفه ضمن قائمة الباحثين والنقّاد . وبانتقال المؤلف محمد أبو العلا ،عبر هذا المنجز السّرديّ، من عالم النّقد إلى عالم السّرد يكون كما قال «أمبيرتو إيكو»، متحدّثا عن تجربته الخاصّة، مثل « حالة ذلك النّاقد المسرحيّ الذي يجد نفسه فجأة تحت أضواء الخشبة أمام كلّ هؤلاء الذين كانوا، إلى عهد قريب، شركاء له خارج الخشبة « (1) مع فارق جوهريّ مكمنه أنّ صاحب «حين يزهر اللّوز» ناقد مسرحيّ فعلا وممارسة وليس افتراضا، وبالتّالي فإنّ فعل الانتقال لديه يصبح مثالا حيّا لتشخيص ما افترضه « أمبيرتو إيكو» على سبيل التصوّر، أو المثال، لتوضيح حالته كفيلسوف عاش تجربة العبور المتأخر إلى عوالم السّرد الرّوائي بعد مسار طويل في مجالي النقد والبحث السّيميائي، وهي التّجربة التي تجعل من كلّ من يحقّق هذا العبور ممثّلا يشخّص الأدوار المسندة إليه على الأركاح بعدما كان متتبّعا وفاحصا يتأمّل المشاهد والفرجات من بعيد، وينتج حولها خطابا واصفا يغني عبره تجربتي الإنتاج والتّلقي.
«حين يزهر اللّوز» فرجة معرفية وسؤال عميق في معنى الهويّة إنّ المتأمل في عوالم رواية «حين يزهر اللوز « يجدها عبارة عن فرجة معرفية تتمظهر من خلال محكيات موزّعة بين السّارد( ادريس الفاكتور) وشخوص تخييلية أخرى(الجبلي، العالية، العربي ساتيام، موحى الدرامي، السهل، المقدم علي، ستاتي الجبل، رحال، القائد،. ..) تشاركه نفس الفضاء الذي تجري فيه الوقائع وهو فضاء الجبل الذي سيصبح في الرّواية «منبعا سرديّا» مركزيّا، منه ستنبثق كلّ «المجاري» الحكائية الأخرى التي جعلت من تاريخ الأعالي تاريخا قابلا للمعاينة والتّحديد، وذلك من خلال تشخيص مفصّل ودقيق للتحوّلات والحالات التي مرّت منها قرية منجميّة هي بمثابة عنوان هذا الجبل القاسي، جبل الرواية، وذلك في سعي للإمساك بما لا تمسك به الكتابة التّاريخيّة وهي تحلّق فوق هذا الفضاء المنيع. «إنّنا لا ننكر حقائق التّاريخ، ولكن بمقدورنا إعادة كتابته خارج رقابة المؤرّخين» (2)، ولعلّ ذلك ما تطمح إليه رواية «حين يزهر اللّوز» وهي تخوض، تخييليا، في كتابة تاريخ الجبل المغربيّ من زاوية مغايرة تروم إضاءة التّفاصيل والجزئيات المهملة، وإنارة المغاوير المنفلتة من أضواء التاريخ المفهومي، ومحاولة الإمساك بالخبايا الممتدّة في أعماق الذّات البشرية وفي وجداناتها وفي أحلامها وانكساراتها، وذلك عبر المزج بين «الواقع» و»الخيال» بحثا عن الحقيقة الغائبة التي تستوعب حياة الأفراد والجماعات على حدّ سواء . إن العملية السّرديّة في الرواية لا تفكر في موضوع الجبل من خلال محكيات تعرض تفاصيل الحياة فيه محتفية بالهويّات الذّاتيّة والاجتماعيّة للشخوص، فقط، بل تعمد بين الفينة والأخرى بدعم ما تسوقه من مضامين تخييليّة بوقائع أو مقولات تاريخية مستمدّة من مدوّنات حقيقية ( مذكّرات اوغسطين ليون كيوم ص 32، تقرير الجنرال كاترو ص 32 ، ليوطي ص 184، كباء العنبر لأحمد المنصوري ص 142و 143…)، وكأنّ هوية الجبل والحالة هاته تتشكّل في خضمّ المزج بين « الحقيقة « كما يعرضها علينا التاريخ المفهومي و»الخيال « كما تشخصه محكيات الرواية. إنّ هويّة الجبل،الحقيقيّة، لا يمكن حصرها في موقعه وفي درجة علوّه عن سطح البحر أو في طبيعته الجيولوجية، ونوعيّة غطائه النّباتي وفصائل الوحيش فيه أو في أنشطة القاطنة في مجالاته، كما أنه لا يمكن حصرها في سلسلة الأحداث التي عرفها وهو ما يمكن أن تقدمه لنا «الموسوعة «، كما يمكن أن تفيدنا به الجغرافيا والتاريخ وعلوم أخرى ضمن ما يمكن تصنيفه في عوالم «الحقيقة» بل إن هويّته، كما الهويات الأخرى، موزّعة بين الحقيقة والمجاز أو ما يطلق عليه « التّاريخ الشّامل « أو ما سمّاه « بّول ريكور»: «الهويّة السّرديّة « (3).. وهي الهويّة التي انشغل السّارد في الرّواية بالبحث عن شظاياها في المدوّنات التّاريخيّة التي يذكّرنا بها من حين لأخر، كما بحث عنها في الجزئيات العالقة بتفاصيل حياة الشّخوص ( الجبلي، العالية، السّهلي ، موحى الدرامي ، العربي ستيام ، علال المينيرو ، فقيه القرية ، المقدم علي، نيفو…) التي منحها الجبل ، كصوت سردي، الكلمة ،في الرواية ، لتعبّر مكانه عن بطولاته وصموده كما عن انتكاساته وانكساراته التي جعلت منه هامشا ينطق بكلّ أشكال القسوة بعدما كان في الماضي، كما جاء على لسان بعض الشّخوص، يرفل في الرّخاء خصوصا لمّا كانت القرية المنجميّة تعيش زمن ازدهارها قبل أن يتم إغلاق المنجم ويزحف الكساد على كل شيء.. حيث ستتوقف عقارب ساعة الحياة في القرية التي أتاها السّارد من السّهل ليشتغل بريديّا بها، فوجدها قاعا صفصفا تئنّ تحت وطأة الفقر والصّقيع والقمع المسلّط عليها من لدن السلطات وأعوانها؛ كلّما نبض فيها ما تبقّى من حسّ احتجاجيّ موروث عن تاريخ المنجم العتيق؛ أو كلّما دبّ في شرايينها المتجمّدة شيء ممّا تبقّى من زمن البطولات أثناء مواجهة قوّات الاحتلال للمطالبة بفكّ العزلة عن القرية بإيعاز من «الجبلي» حارس المنجم الذي لا يتعب من حكي بطولاته كما لا يتعب من التعبير عن آماله في عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وعودة المنجم للحياة من جديد كما وعده بذلك أحد الأطر المنجميّة من الأجانب الذين غادروا القرية الى بلدانهم بعدما أغلق المنجم أبوابه . إنّ الجبل ، في الرّواية ، يعيش «الدّوام في الزّمن « بتعبير «بّول ريكور» من خلال أفعال دالّة على الصّمود ضدّ كلّ أشكال المحو والمسخ، أفعال تم تشخيصها عبر ملفوظ سرديّ اعتمد أشكال أسلوبيّة مختلفة حسب ما يمليه سياق الأحداث وما يقتضيه «إيقاع الحكي» و»نفس السّرد» من انفتاح أو انكفاء، حيث إنّ «السّرد في حالات الانكفاء على الذّات « يأكل من نفسه « ويستمدّ كامل ممكناته من مرجعيات تستمدّ مقوّماتها من طاقات انفعاليّة لا من وقائع موضوعيّة.»(4)، ممّا يسمح للسّرد الشّاعريّ بالطّفوّ على السّطح فتصبح الطّاقات الانفعاليّة للسّارد موردا لتشكيل العالم الحكائي بعيدا عن الوقائع الخارجيّة.. يحدث ذلك في الرّواية كلّما ضاقت أحياز المساحات التي تتحرّك فيها الشّخوص آو كلّما «تعب» السّرد من «النّظر» إلى الخارج، أو كلّما انشغل السارد بالغوص في دواخل الشخوص حيث يصبح الشعر «سيّد الكلام « ( جاكبسون) وتصير الاستعارة نافذة للتعبير عن مأساة « هذه الجموع المنحدرة من بياض القمم أو الصّاعدة من سخم المناجم « ( الرواية ص 119) كما تصير أداة لتوصيف المحكيات. يقول السارد وقد انبهر بحكي «العالية» كثير من الحكي يتبخّر في الهواء إلاّ هذا المثخن بالموت فقد كان يعبر بي إلى عوالم غامضة مشرعة على سؤال كينونة تتداعى هنا كلّ لحظة أمام حتف داهم كما يتداعى للسيل جرف هار، حكي يحرّض على تحبير ما يعبر الدّماغ من وميض قد يخبو للأبد ما لم يدوّن للتو، أليست الكتابة قيد صيد كما يقولون « (الرواية ص 43). وفي مقابل أسلوب الوصف الشاعري، توظّف الرّواية أسلوب «التّحقين السردي»، حيث «يأكل» السرد من غيره وتتكاثف الأحداث ويرتفع إيقاع الحكي كما حدث وقت هجوم قوات القمع على القرية، وفي أثناء وصف حدث اعتقال الجبلي وأثناء عرض سيناريو احتجاز وفد السلطة وسط المنجم المهجور بتدبير من «العالية» زوجة «الجبلي»، أو خلال وصف الزّحف الجماعي لسوق الأعالي أو لحظة اعتقال «العالية» وحجز سلاحها والإفراج عن «الجبلي»، أو عندما ساقت مياه النهر الغاضب جثة «علال المينيرو» وغيرها من الأحداث التي ارتجت القرية المنجميّة البئيسة تحت وقائعها، ومعها باقي أطراف الجبل المعزول بفعل التهميش واستبداد السلطة، وبفعل قساوة المناخ حيث يتسيّد الصّقيع في أرجائه ويجثم الثلج على عروشه وقت الشتاء ليعيش الجبل يوميات « الحصار الأبيض « كما سمّاه السّارد في النص الروائي، وهي « احتقانات» يكسّر السّارد سطوتها و»رهبتها الفنَيّة» إن صحّ التّعبير، بين الفينة والأخرى عبر توظيف ما أطلق عليه « أمبيرتو إيكو «، مستعملا معجمه الذي يمتح كعادته من الاستعارات الغابويّة: «النّزهات الاستدلاليّة» (5) ويقصد به الحكي خارج القصة الأصلية حيث يعمد السارد في كل مرّة تقترب فيها الأوضاع من الانفجار الى مغادرة «غابته السّردية « للولوج بالقارئ إلى فسحات جمالية تقطف تارة من الشعر (درويش في: «كيف يشعّ اللوز في لغتي أنا وأنا الصّدى» ص130، والمتنبي حول «الموت الجبان» ص 160، ونصوص من روائع زوربا ص 129 ، رائعة الحبّ في زمن الكوليرا لماركيز… ) وتارة أخرى من الأدب المسرحي (شكسبير : الحياة مسرح كبير، ص 202 ، أنتيجون .. ).. كما تقطف من التراث الغنائي الشعبي (عيوط امباركة البيهشية ص 34 ، وخالدة «ايناس ايناس» لمحمد رويشة ص 206) ومن التاريخ ( ليوطي ص 184، في وصفه لمغاربة الجبال ب «البحر الهائج» ص 184، احمد المنصوري في كباء العنبر ،ص 142و 143… ) ، وأحيانا أخرى عبر الارتكان لأسلوب الوصف الدّقيق للحالات والأشياء والأمزجة، كما قام بذلك السارد عندما زار سوق الأعالي حيث وصف الوجوه الجبلية بدقة متناهية كما وصف منتوجات الجبل من الغلال والثمار البرّية والأعشاب الطبية، وصوّر بعين الأنتربولوجي ملامح وحركات النساء والرجال وهم «يتصافحون بودّ ويضربون مواعيد قريبة لن يحول دون تحققها هذه المرة حائل، بعد أن ذاب الثّلج وأزهر اللّوز وجرى الماء نميرا في الحقول « ( الرواية ص 136.) وقد يختار السارد في مواقع أخرى النزول إلى غور الأعماق البشرية أسلوبا للتّهدئة وهو ما تحقق في الرواية عبر محكي الرسائل المنسيّة في مركز بريد القرية، حيث كان السارد وهو بريدي القرية يفتح أكواما منها، ضلت الطريق وعلاها غبار سنين النسيان للاطّلاع على ما تحبل به من أسرار كان كشفها أسلوبا مموها لتبديد كثير من الألغاز التي قد يصادفها قارئ النص حول بعض شخوص الرواية وامتدادها في الفضاء (الصفحات 161- 164- -168- 169- في الرواية )… إن «الجولات الاستدلالية» كما وقفنا عليها في النص الروائي جاءت لتحقق ما سماه «امبيرتو ايكو» «التّهدئة السّرديّة « وهي أسلوب سردي وظّفته الرواية بذكاء لافت جعل حكاية الجبل في النص، مندرجة بسلاسة ضمن محكي كبير عنوانه مفارقات الجبل كما يحكيها التاريخ، وكما تقرّها الجغرافيا وكما يرسّخها المجاز عبر محكيات الشخوص في الرواية، وهو ما يشكل في التئامه الهوية الحقيقية للجبل؛ هوية يتضافر فيها الواقع والخيال وتندغم فيها الحقيقة بالمجاز . وأخيرا فإنّ رواية «حين يزهر اللّوز» للكاتب والمبدع محمد أبو العلا الذي أدمنّا صورة البحّاثة فيه؛ تعتبر في تقديري نموذجا للانتقال المبدع والخلاّق في الكتابة من لغة المفاهيم إلى لغة التّخييل والتّشخيص، إنّها تحقّق إبداعي قادر على أن ينافس بقوة صفة الناقد المسرحي للكاتب، وهي الصّفة أو العلامة التي ميّزته على امتداد عقدين من الزمن، كما أنها عمل إبداعي سيمنحنا لا محالة صورة مغايرة عن كاتبها كمروّض جديد وبارع للّغة السّرديّة باعتبارها لغة مطلوبة لتشييد الهويات الضّائعة التي يبدو، حسب ما تبشر به الرّواية، أنها تشكّل أحد الأحلام التي يطاردها الكاتب . (°) ناقد وباحث في التراث الثقافي الهوامش (1) : أمبيرتو إيكو ، آليات الكتابة السّرديّة ( نصوص حول تجربة خاصّة ) ، ترجمة وتقديم : سعيد بنكراد ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، ط 1 ، 2009 ، سورية ، ص 37. (2) : سعيد بنكراد ، الزّمنيّة واحتمالات السّرد، مجلة علامات، عدد 52، 2019 ، ص 07. (3) : انظر بصدد هذا المفهوم : – الزمان والسرد (الزمن المروي)، الجزء الثالث، بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، مراجعة جورج زيتاني، دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2006. – السيرة الذاتية، التاريخ وممكنات الهوية السرديّة، سعيد بنكراد ، مجلة علامات ، عدد 38 ، 2012. – شخصيات الرواية وأشباح التّاريخ، سعيد بنكراد، مجلة علامات، عدد 43 ، 2015. (4) : سعيد بنكراد، السّرد والتجربة الحسّية، مجلة علامات ،عدد 22 ، 2004، ص 11. (5) : أمبيرتو إيكو، تأملات في السرد الروائي ( ست جولات في غابة السرد) ، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي ، البيضاء ، ط 02، 2015.