ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري. في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
p المفكر شوقي الزين، نرى أنك تنظر للمثقف بمنظور كانطي في هذه اللحظة إلى الحدود القصوى، لنتحدث في بعض التفاصيل، حين يتعلق الأمر بالمرجع الذي يشكل البنية المؤطرة للسلوك والمعيار لدى التنظيمات الإسلامية نجدها تتكئ على مستوى بنية الخطاب إلى النص القرآني والسُنّة، واعدةً العامّة والحشود بدولة الخلافة على منهاج النبوّة، لكن على مستوى الشعارات تحمل هي أيضاً وتتحدث عن الديمقراطية والحوار والاختلاف، وهي الشعارات التي تسقط بمجرد أن يقترب التاريخاني أو الهرمينوطيقي من النص، كيف تواجه بصفتك مهتماً بمجال التأويليات هذه المعضلة الكبيرة والخطيرة في الوقت نفسه؟ n المسألة هي مسألة سياقات وقوابل، عندما حاولت الرومانسية استرجاع العصر الذهبي للإغريق صنعت أجمل النصوص والأشعار والفلسفات. لكن الرجوع إلى العصر الذهبي للنبوّة لم يصنع لنا الآن فلسفات أو آداب أو أشعار أو حضارة، ولكن سيارات مفخخة ومجازر وإرهاب. أن نستعيد في الزمن الحاضر مقاصد النص الأصلي، فهي مسألة «حاضر»، هنا والآن. لأن النص لا يتحرك بذاته، بل نحرّكه، هنا والآن؛ الأحكام ليست لها أرجل وأيادٍ لتتحرّك، بل نحرّكها، هنا والآن. إنّ كل قراءة في الماضي، هي الحاضر يقرأ ذاته بوسيط الماضي. مثلاً الخلافة أو تطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الإسلامية أعطت أنظمة مبهمة وشاذّة، غريبة عن عصرها، في حالة من الفقر والعنف وترويع الناس كما حصل في أفغانستان مع طالبان أو في الصومال. إذا كانت هذه هي الدولة الإسلامية التي تسترجع العصر الذهبي للنبوّة في الحاضر، فهي بلا شك أعجوبة مبهمة، لأنها في فصام خطير بين قسرية المبادئ التي تحتكم إليها وعفوية الزمن الذي تحيا فيه. أن نرجع إلى عصر النبوة لبناء حضارة، فهذا وقع في الأزمنة الراقية من الثقافة الإسلامية مع وجوه شهيرة من العلماء والأدباء والفلاسفة والصوفية التي اجتهدت وكتبت وألّفت ونظّرت وصنعت وابتكرت وأبدعت؛ لكن أن نرجع إلى عصر النبوة لتخريب الحضارة، فهذا يبرّر، بشكل لاشعوري وغبائي، ما يقال عن ثقافتنا وديننا، إنهما حاملا بذور العنف والكراهية. وهل نرضى بهذا؛ أي أن يكون النعت الذي يخصّ ثقافتنا هو العنف والقهر؟ p تستند التنظيمات الإسلامية في شرعنتها للدولة الإسلامية إلى مثال النبي العربي، محاججة على أنه أقام الدولة والمؤسسات ولو في صيغتها الأولية، وهو ما يعارضه الحداثيون اليوم، بحجة أنّ متطلبات اللحظة التاريخية آنئذ لم تكن تتميز بدرجة من التعقيد التي تعرفها المجتمعات الحديثة، وهو ما يجعل هذه التنظيمات تفتقر للحسّ التاريخي: كيف تنظرون إلى هذا التغييب للوعي التاريخي لدى هذه التنظيمات؟ وكيف يؤثر في نجاح المشروع السياسي لهذه التنظيمات داخل المجتمع الحديث؟ n نعم، غياب الحس التاريخي هو الذي أفقد التنظيمات الإسلامية مصداقيتها. تفتقر إلى ما يسمّى اليوم، في الدراسات الحديثة، «التداولية». معنى التداولية أنّنا لا نستنسخ أبداً، بأيّة حال من الأحوال، أشكال الماضي. عندما نقوم باستنساخها، فإننا نخترع شيئاً آخر تماماً يرتبط باللحظة الراهنة. عندما نقوم بتقليد أفعال الماضي، فإننا نفعل شيئاً آخر، يرتبط بالسياق والقرينة والزمان والمكان. عندما يقلّد «الحاج موسى» النبيّ محمّد، فإنّ الفعل هو فعل «الحاج موسى» وليس فعل النبي محمد. عندما نستنسخ أشكال الدولة في العصر النبوي، فإننا نؤسس لدولة أخرى لها زمانها ومكانها. هذا ما تفتقر إليه التنظيمات الإسلامية؛ أي البُعد التداولي في مشاريعها المثالية. -الأستاذ محمد شوقي الزين، أنت من القراء والمهتمين بالتراث الغربي، هذا التراث الممتد من يونان أرسطو إلى ألمانيا هابرماس،عرف محطات دموية كانت المؤسسة الدينية والتنظيمات المسيحية صلب الرحى فيها، فهي الآمر والناهي في الاقتصاد والسياسة والأخلاقيات والثقافة. لكن حدث شيء ما جعل الغرب يعي أنه آن الأوان لكي يتوقف الدم ويتحيّز الدين في مجاله الخاص: كيف حدث تاريخياً هذا التوقف؟ وكيف يمكن اليوم أن نستعيده، رغم ما للتجربة المسيحية من اختلاف ثقافي وسياقي عن التجربة الإسلامية في وقف حمّام الدم وأبواب العنف؟ لقد مرّ التاريخ الغربي بمحطات حضارية راقية وأيضاً بمحطات بربرية وهمجية، كانت وراء الهدم العبثي لبنيات اجتماعية وثقافية. وفي كل مرّة كانت هنالك أوقات عصيبة من حروب ونزاعات، اهتدى الغرب إلى تصحيح أخطائه والاشتغال على ذاته وموادّه النظرية. في منعطف الحداثة مثلاً؛ أي بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، حدث شرخ في الوعي الأوروبي بالأفول التدريجي للمرجعية الدينية وتعزيز المرجعية السياسية بنشوء الدولة الحديثة. عندما انهارت المرجعية الدينية بانهيار المؤسسة الدينية (الكنيسة) التي كانت تتكلّم باسمها وتتخذ الشرعية والسيادة بها، فإنّ الطوائف المتناحرة آنذاك خضعت لسلطة الدولة التي استعملت عاملين في تنظيم الحقل الاجتماعي: «العقل» بحكم تواجد الدولة في أزمنة الأنوار والتقدّم؛ ثم «القوّة» باستعمال العنف الشرعي لإخضاع الجميع إلى القانون. بهذا المعنى، تعلمنت الحياة السياسية والاجتماعية، وخضعت المذاهب والطوائف الدينية إلى سلطة الدولة بتأسيس عقد اجتماعي تتعايش فيه الحساسيات، وتأكّد هذا الأمر مع الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. فاتفق أن ارتاح الوعي الأوروبي من أزمنة النزاعات الدينية بإخضاع الجميع إلى سيادة الدولة، فتمّ فصل الدولة كهيكل اجتماعي وتنظيمي عن المؤسسة الدينية، فأصبح الدين رأسمالاً رمزياً مشتركاً لا يحتكره أيّ مذهب أو طائفة، له نطاقه ومجاله، ويتمتع بالحرية في الشعائر والمواسم يضمنه التنظيم الاجتماعي للدولة. هذا باختصار ما حصل في الوعي الأوروبي، وهذا ما يمكنه أيضاً أن يساعدنا في الخروج من شهوة احتكار الدين والحديث باسمه، لأنّ الصراع الكاثوليكي-البروتستانتي في المسيحية له البنية الذهنية والإدراكية والتأويلية ذاتها كالتي يتمتع بها النزاع السني-الشيعي في الإسلام. عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات في القوة وبالشيء المبهم من الطبيعة البشرية (سلطة، انتقام، قهر، عدوان، هيمنة)، فلا مجال للحديث عن الخصوصية والتجنيس، لأن الإنسان واحد ببنيته الأنطولوجية والنفسية منذ بدء الخليقة. أولئك الذين يريدون دائماً التميّز عن الآخرين بحكم الخصوصية والانتماء والاختلاف التاريخي والثقافي، فهم يستعملون في نظري «الخديعة» أو «الاحتيال» في غير محلّه. طبعاً، لا أنكر الفروقات والتمايزات التي أقرّتها الدراسات الإثنولوجية والأنثروبولوجية بين بني البشر من حيث الأعراق والسمات والإدراكات، لكنني لا أتحدث هنا عن «المعرفة»؛ أي عن الجدول الإثنولوجي في الاختلاف بين الأمم والثقافات، ولكن عن «السلطة» وكيفية الهيمنة والذود عن المصالح والنفوذ. عندما يتعلّق الأمر بالسلطة، فالإنسان هو واحد في كل زمان ومكان؛ وما نفع الغرب بوضع حدّ لسطوة المؤسسة الدينية والارتقاء إلى راحة البال والعيش المشترك بين الحساسيات والمذاهب بنبذ العنف والإرهاب، كذلك يمكنه أن ينفعنا بأن نضع حدّاً لسلطة الفقيه والداعية والمرشد، لأنّ علاقتهم بالمقدس لا تعطيهم قداسة فوق القدر، فهم بشر مثل البشر، بلا قداسة ولا عصمة. لهذا الغرض يتوجّب أن يخضع الجميع إلى سلطة القانون والدولة، الدولة التي هي ملك الجميع، لأنها ليست ملك أحد؛ حيث يجد فيها المواطن ملاذاً بالفرار من المظالم والتعديات، ويحتكم بأجهزتها كالعدالة والأمن، شريطة أن تكون هذه الدولة «ملك الجميع» (وأشدّد على ذلك)، وليست «ملك أحد»، ليست وسيلة في يدّ جماعة للدفاع عن مصالحها أو الاغتناء بعوائدها المالية (ونعرف تاريخياً أنّ الدولة تحوّلت في الأوقات العصيبة والأزمنة العجاف إلى وسيلة في يد زُمرة أو عصابة، كما حدث مع الفاشية والنازية، ومع الحزب الواحد في السياسة العربية). p ما يحدث اليوم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الحاجة الملحّة تاريخياً واجتماعياً للفلسفة التي تعرضت لسنوات للمنع من طرف الأنظمة السلطوية من شمال إفريقيا إلى الخليج، مع تفاوت في حدة هذا المنع لحساب تشجيع الفكر الديني المتصلب لسهولة محاججته ومخاطبته، بنظركم كونكم مفكرين وباحثين في الفلسفة كيف يمكن للفلسفة اليوم أن تلعب دوراً في الحد من العنف ونشر قيم التسامح والاختلاف وبناء الذات الحرّة المسؤولة والقادرة على مواجهة كل أشكال الوصاية؟ n تاريخياً كانت الفلسفة العدوّ اللدود لكلّ مَيل سلطوي يسعى إلى التحكّم في العقول، لأن الفلسفة تحرّر العقول وتدفع الإنسان إلى التساؤل والبحث والتفتيش للارتقاء بوعيه وضميره. وهذه الخاصية التحريرية تتنافى مع النزوع السلطوي لمذهب أو تنظيم أو حزب يميل بالأحرى إلى تجهيل العقول ونشر ما كان يُسمّى في فترة من الثقافة العربية المعاصرة «الوعي الزائف». المشكلة مع الفلسفة أنه تمّ النظر إليها كمؤسسة فكرية تعادي المؤسسة الدينية أو السياسية، بينما الفلسفة هي أداة في التربية وفي الارتقاء بالحسّ النقدي والتاريخي. إنها رؤية ثقافية وحضارية في الحياة. ونعرف ما كان مصير التهجّم على الفلسفة، سواء من الطوائف الدينية المعادية أو من المذاهب السياسية: تمّ تشكيل أنظمة سياسية مقفلة تسوس الضمائر بيد من حديد؛ لكنها كانت تجهل أنّ الحرية البشرية التي يقوم عليها التفكير الفلسفي في رمّته هي بمثابة العنقاء (الفينيكس)، تخبو كالنار ولا تندثر؛ ثم تعود وتتوهّج في أزمنة الثورات والانقلابات فتدكّ الأنظمة السياسية أو الدينية دكّاً، كما وقع في التاريخ بالانقلاب على أنظمة دكتاتورية (الفاشية، النازية، ثورات العالم اللاتيني، الشرق-أوروبي، العربي، إلخ). فلا يمكن إذن، إخماد نار الحرية الدفينة في كل وعي، لأن الحرية بكل بساطة هي الهواء الذي يتنفسه الإنسان، إنها الأساس الذي بُني عليه الإنسان أنطولوجياً ونفسياً. فالإنسان هو الوعي بالحرية، منذ سقراط وحتى سارتر مروراً بديكارت وهيغل وهايدغر وحنه أرندت. عندما نفهم هذه الفكرة، نعرف لماذا كان هجاء الفلسفة كبيراً في التاريخ البشري، لأنها تُحرِّر، فيما التنظيم الديني أو السياسي يَسجُن ويَحصُر؛ فهي تهب أدوات هذا التحرير في التفكير المسؤول والخطابة والحِجاج والبرهنة والسجال والحوار وجدلية السؤال والجواب، بينما يكتفي التنظيم الديني أو السياسي بإملاء العقود والعقائد، والاكتفاء بالسرديات واليقينيات، وحظر التساؤل أو الفضول المعرفي.