التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية. [34] يتابع الباب السادس عشر هذا التحرِّي، مشيرًا إلى سوء قراءة مماثل تلتبس فيه جفنات الجنة بالوِلْدان (بمعنى الشبان اليافعين). فقد جاء في سورة الإنسان 19: “ويطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا”. وكلمة ولدان هنا كلمة عربية صحيحة، لكنها مستعمَلة بمعنى مستعار من كلمة يلدا السريانية، وذلك لأن “ولدانًا” كاللؤلؤ عبارة مشكوك فيها بعض الشيء، وخاصة إذا اعتبرنا أن “اللؤلؤ” كناية عن عناقيد الجنة، كما تبيَّن من الفقرة السابقة. وقد بيَّن لوكسنبرغ أن في السريانية تعبيرًا هو يَلدا دَجْبِتَّا، بمعنى “ابن الكرمة”، كما جاء في البشيتا: متى 26: 29، مرقس 14: 25 ولوقا 22: 18، حيث يتنبأ المسيح بموته وقيامته: “الحق أقول لكم إنِّي لا أشرب بعدُ من وَلَدِ الكرمة (يَلدا دَجْبِتَّا بالسريانية) هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت أبي”. وهنا عصير العنب هو ال”ولد”. إن مادتي كلٍّ من يَلدا وجبِتَّا في المعاجم العربية- السريانية تعطي على التوالي، بالإضافة إلى “ولد” و”كرْم”، “ثمرة” و”خمرة”. ويقدم لوكسنبرغ دلائل إضافية، من سور الصافات 45 والزخرف 71 والإنسان 15، على أن وصف عناقيد الجنة في نشيد أفرام السرياني هو المنهل الذي نهل منه النصِّ القرآني الأصلي. [35] نجد في الباب السابع عشر تأليفًا لتقنيات ومكتشفات الدراسة السابقة وتحليلاً لسورتين كاملتين: سورة الكوثر وسورة العلق، اللتين يقدِّم لوكسنبرغ لكلٍّ منهما تفسيرًا وترجمةً كاملين. وقد قدمنا أعلاه نبذة عن سورة الكوثر. لكن تحليل الآيات التسعة عشر لسورة العلق جميعًا يغطي ما يزيد عن 22 صفحة. ونجد بين الحلول العديدة التي يقدمها هذا الباب أن الحرف أ الذي حيَّر المفسِّرين والنحاة هو في الحقيقة كلمتين مختلفتين: الحرف السرياني أَو بمعنى “أو” والحرف السرياني إين بمعنى “إنْ” أو “حين”. وبالجواز هنا عن تفاصيل المحاججة نقول إن هذه السورة يجب أن تُقرأ كدعوة للاشتراك في صلاة طقسية وأنها تحمل “طابع مطلع مسيحي-سرياني، استُبدِلَت به الفاتحة (من السريانية بتاخا) في تقليد لاحق”. وهذه ليست مجرد ليتورجيا عادية، بل هي القداس الإلهي، الاحتفاء القرباني المقدس، كما يتبيَّن من إعادة لوكسنبرغ صياغة الآيات 17-19 من سورة العلق: “فليَدْعُ [الذي “كذب وتولَّى”] معبوده [عندئذٍ] سندعُ الزبانية كلا لا تطعْه واسجد واقترب [تناول القربان]” (ص 296). وهذا جدير بالانتباه لأن هذه هي أقدم السور بحسب الموروث الإسلامي، وهي تكشف عن جذور مسيحية- سريانية. كذلك يبيِّن لوكسنبرغ أن مصطلحات قربانية وثيقة الصلة، كالتي في سورة العلق (جزنا عن البراهين عليها في هذه المراجعة)، تلمِّح أن الآيتين 114-115 من سورة المائدة تشيران إلى القداس القرباني المقدس (وليس إلى العشاء الأخير وحسب). لكن دليلاً إضافيًا للتأكيد على صحة هذه القراءة إنما يأتينا من مقطع شعري للشاعر الجاهلي العربي المسيحي عدي بن زيد الذي وصلتنا نبذة عنه في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (توفي عام 967). أما الباب الثامن عشر فهو خلاصة شاملة وجيزة تُختتَم بها الدراسة. [36] إخراج الكتاب من حيث النوعية إجمالاً جيد. هناك بعض الأخطاء المطبعية، بما فيها ترقيم بعض الفقرات (في الصفحتين 237 و239 مثلاً)، والقليل جدًّا من الأغلاط النحوية. كذلك يتسبب إخراج الصفحة أحيانًا في صعوبة القراءة. وهذا يعود جزئيًا إلى طبيعة الدراسة، التي تتطلب أبجديات عربية وسريانية ومندائية ولاتينية تتقاسم المساحة في هوامش ومقبوسات في المتن من المصادر. [37] يفتقد عمل بهذا المدى، لأنه يقدم الأشياء مجتزأة، بالضرورة إلى تماسك الدراسة الكاملة وأناقتها. لكن ما يترتب عنه يظل مع ذلك واضحًا: لا بدَّ لأية دراسة علمية مستقبلية للقرآن أن تأخذ هذا المنهج بعين الاعتبار. فحتى إذا اختلف العلماء على النتائج فإن المنهج الفقهي اللغوي منيع؛ إذ وضع منهجًا يختلف جوهريًّا عن تقاليد التفسير التي يعتمدها المفسِّرون العرب والغربيون. فلقد زعزع لوكسنبرغ النظرة إلى القرآن بوصفه نصُّا “نقيًّا”، نصًّا خالصًا من الصعوبات اللاهوتية والفقهية اللغوية التي تتخلل تاريخ نقل النصوص، أي التوراة العبرية برواياتها المختلفة. [38] تبقى نقطة تساؤل مركزية يثيرها هذا البحث تتعلق بدافع عثمان إلى الإعداد لهذه النسخة المنقحة للقرآن. يورِد لوكسنبرغ الحديثين اللذين يرويان كيفية حصول عثمان على المخطوط الأول. فإذا كان تحليل لوكسنبرغ، حتى في خطوطه العريضة، صحيحًا فإن مضمون القرآن كان مختلفًا جدًّا أيام محمد وتحرير عثمان قد لعب آنذاك دورًا في سوء قراءة عدد من المقاطع الأساسية. فهل كانت إساءة القراءة مقصودة أم لا؟ وهذا التشوه في القراءة عمومًا يحوِّل القرآن من كتاب متجانس إلى هذا الحدِّ أو ذاك مع العهد الجديد والليتورجيا المسيحية السريانية إلى كتاب متمايِز من أصل مستقل. [39] لا نعتقد بأن جميع الاختصاصيين في الإسلاميات في الغرب سينهضون ويستجيبون مباشرة لما يطرحه مثل هذا العمل من تحديات علمية. لكن كما واجهت المسيحيةُ تحدياتِ القرنين التاسع عشر والعشرين الآتية من الفقه الكتابي والليتورجي، كذلك سيستفيد فقهاءٌ في الإسلام جادون، من كلا الشرق والغرب، من الاختصاص الذي افتتحه لوكسنبرغ.